يقتصر هذا الكتاب على دراسة المظاهر الغرائبية المتصلة بالمغرب والواردة في مؤلفات الرحالين الفرنسيين الذين زاروا المغرب أو أقاموا فيه لبعض الوقت. وينتمي هؤلاء الرحالة إلى فئات جد متنوعة تتّسع لتشمل السفراء والقناصل ورجال الدين والعبيد والضباط والجنود والمستكشفين والجغرافيين والتجار والموظفين والأدباء والصحفيين والسياح.. كما أن مؤلفاتهم هي كذلك جد متباينة وتتنوع بين الأخبار التوثيقية والمقالات التصويرية والذكريات والمراسلات وكراسات الأسفار والتحقيقات واليوميات إلخ...وتنتسب جميع هذه الكتابات، الجد مختلفة شكلا ومضمونا، والتي تتوزعها الانطباعات السريعة لمسافر عابر، والروايات الموضوعية الناجمة عن إقامة طويلة في البلد، إلى عنوان عام هو «أدب الرحلة». ويشار إلى أن معظم الفصول التي يشتمل عليها هذا الكتاب قد تمّ تحريرها انطلاقا ممّا دوّنه المؤلف عندما كان يعدّ دروسا ميدانية عن الأدب الغرائبي والكولونيالي كان يلقيها أواخر عشرينات القرن الماضي على طلاب معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (كلية الآداب حاليا) . وقد أضاف إليها بعض العناصر الضرورية لاستكمال التدرج التاريخي للوقائع، والربط بين أجزائها المتفرقة، وتقديمها في شكل لوحة متناسقة. منذ سنة 1830، تاريخ الاستيلاء على الجزائر، سيرتبط المغرب بمسألة احتلال هذا البلد. فقد دفعت مطالبة السلطان بتلمسان بالفرنسيين إلى بعث سفارة إلى مكناس بقيادة م.مورناي (11). وبعد ذلك بقليل، عندما ظهر أن المغرب يزود الأمير عبد القادر بالسلاح، أرسلت بعثة جديدة بقيادة م. دو لاري لتقديم احتجاجات قوية للسلطان مولاي عبد الرحمن. وأخيرا، في سنة 1844، عندما تعكّرت الأجواء بين البلدين، سوف يتم إرسال مجموعة من السفن الحربية بقيادة الأمير جوانفيل لتجوب الشواطئ المغربية. ثم حدث أن وقع عدوان على حدود وهران فتح جوانفيل في أعقابه نيرانه على مدينة طنجة، ثم على موغادور، بينما كان الماريشال بيجو يدحر الجيوش الشريفية في منطقة إسلي، الشيء الذي عجل بتوقيع معاهدة ستضع حدا، مؤقتا، للمشاكل العالقة مع المغرب. وبصدد هذه الأحداث التي حصلت سنة 1844، ستظهر مجموعة من المؤلفات في المكتبات.بعضها ذو طابع عسكري، مثل (122) مؤلفات ب.كريستيان (وهو الاسم المستعار لبيتوا، الكاتب الخاص لبوجو)، التي يستعرض فيها ذكريات الماريشال، ويعالج مشاكل الحدود الجزائرية المغربية ووقائع معركة إسلي (12).ونجد أيضا كتاب «لوحة من حرب الفرنسيين في مملكة المغرب» الذي تضمن وصفا تفصيليا للمعارك الأرضية والبحرية، ورسوما تمثل قصف طنجة، ومعركة إسلي، واحتلال موغادور. إلى جانب إيراد بعض الأشعار التي أملتها المناسبة وهي مهداة للأمير جوانفيل، مثل قصيدة الشاعر روسو دي روش المسماة «طنجة، إسلي، موغادور»، وأخرى للشاعر نابوليون كاربانتيي تحت عنوان «طنجة وموغادور». ومن جهة أخرى سيجري اقتناص هذه المناسبة، أي ازدياد الفضول لدى الفرنسيين، لنشر عدد من المؤلفات لم تكن علاقة مباشرة بوقائع الحرب. مثل رواية شارل ديديي المسماة «الفارس روبير» التي تدور أحداثها في طنجة، ومسرحية «فتيات المغرب الجميلات « لكونايك وهي أكثر تخييلا. على أن ما سيهمّنا من كل ذلك هو كتب الرحالين في المقام الأول. فقد ظهرت ثلاثة مؤلفات رحلية في وقت متقارب، تشترك في تناولها بعض جوانب الأحداث السياسية لسنة 1844، أو في أقل الأحوال ترتبط بالفضول الذي أحاط بتلك الوقائع: وهذه الكتب هي بالترتيب، كتاب م.راي، و شارل ديديي، وألكسندر دوما. أما الكتابان الأولان فيعودان إلى فترة سابقة على الحرب الفرنسية- المغربية، بينما الثالث يصور عن قرب ظروف التوقيع على معاهدة السلم. نشر م.راي كتابه «ذكريات رحلة إلى المغرب» سنة 1844. (123) وتتلخص هذه الرحلة في زيارة الدارالبيضاء، والرباط والعودة إلى طنجة. ومع أن هذه الرحلة قصيرة فإنها تنطوي على أهمية خاصة بسبب التوتر الذي كان قائما يومها، في الخارج كما في داخل البلد. وهو الأمر الذي سنكتشفه ونحن نتابع مسار رحالتنا. لقد جاء صاحبنا من طنجة، مصحوبا بمجموعة صغيرة مكونة من مترجم وطباخ وخادم، وسيحط الرحال في مرسى الدارالبيضاء وفي نيته أن يصعد نحو الرباط فطنجة عن طريق البر. وقد صادف حلوله بالمدينة نزول قبائل زعير المرعبة إلى الساحل وقطعهم الطريق. وكانت أخبار مقلقة تنتشر في المدينة. فقد كان يشاع أن السلطان قد تحالف مع الأمير عبد القادر، وادعى آخرون أن المفاوضات الجارية مع فرنسا لم تؤد إلى نتيجة، ويبدو أن فاس تتحرك دعما للأمير الجزائري ضد النصارى. وبالرغم من كل ذلك فإن راي سيقرر السفر برا مخفورا بكتيبة من الجنود الأهليين كلّفها عامل المدينة بحراسته خلال الرحلة. وقد صارت الأمور على مايرام في البداية، ولكن بعد اجتيار فضالة، ستظهر على القافلة الصغيرة جماعة من الزعريين مدججين بالبنادق والسكاكين الطويلة، وترافقهم كلاب ضخمة. وكانت جماعة الخارجين عن القانون هؤلاء ترغب في الاستيلاء على الأموال والبضائع، وكذلك في سبي النساء المغربيات اللواتي يتبعن الركب، وخاصة في أسر المسيحي الذي يرغبون في اتخاذه رهينة. وقد جعلت الطلقات الأولى الجنود يفرون لمعرفتهم بخطورة أهل زعير المرعبين. وكذلك سيفعل راي متخفيا في جلابة. غير أن اللصوص سوف يتعقبونه بلا هوادة ويكادون يمسكون به، لولا أن حصانه الرمادي القصير الذي كان أسرع من الريح قد جنّبه السقوط في قبضة مطارديه. وشيئا فشيئا سيعود مرافقوه للالتحاق به، وكذلك الجنود، وواصلت القافلة طريقها، وقد خفّفها اللصوص من بعض أثقالها، إلى أن وصلت أخيرا إلى الرباط. وهناك ستطرأ كارثة جديدة. فقد ثارت قبائل بني حسن فيما وراء سلا. وصار العبور إلى الضفة الأخرى في حكم المستحيل. ومن جهة أخرى تأكد أن سكان فاس قد انتفضوا على السلطان لحمله على مساندة الأمير عبد القادر في حربه مع الفرنسيين.وهكذا وبانتظار الفرصة المواتية للعبور سيضطر راي للانتظار أسابيع طويلة في الرباط. وهو ينتهز هذه الفرصة لزيارة جميع أحياء المدينة ويقدم لنا عنها في كتابه وصفا دقيقا. وقد أقام في منزل قديم يعود إلى القنصلية يقع على ضفاف أبي رقراق، وممّا خفف عنه معاناة هذه الإقامة شبه الإجبارية كونه ظل يستمتع بالمشهد اليومي المعروض أمام عينيه والذي يبدأ من هضبة الأوداية إلى صومعة حسّان وأطلال شالة. وهو يشير إلى الأهمية الاستراتيجية للرباط باعتبارها نقطة عبور ضرورية، ومفتاحا حقيقيا بين مغرب الشمال ومغرب الجنوب، وهو ينصح بالمناسبة بأنه في حالة النزاع مع المغرب لا يجب احتلال طنجة أو موغادور بل الرباطوسلا. وفي الأيام الأولى واجه راي صعوبة في التجول بحرية عبر أزقة المدينة. وفيما بعد نجده قد تغلب على تخوفه من المغاربة المتشددين ولم يعد يأخذه القلق سوى عند اقترابه من المقابر والمساجد. وقد تجاسر ذات مرة بالذهاب إلى سلا مخفورا بمجموعة من الحراس، ولكن لم يسمح له بأكثر من عبور الزقاق المؤدي إلى ملاح اليهود، وحتى عبر هذا الطريق لم يسلم من الحجارة التي كانت تنهال عليه من السطوح المجاورة. والحق أنه خلال تلك الحقبة لم يكن من الحكمة أن يغامر رومي بولوج المدن المعادية التي كانت تمانع بقوة أن تدنسها أقدام أوروبي. وحتى في الرباط عانى راي أكثر من مرة من الإهانة والإذلال، وذات يوم سيكتشف أمرا أثر فيه بقوة. فقد كان يمر قريبا من الأسوار بمحاذاة موضع تغطيه النفايات والأقذار، وعلم أن الأمر يتعلق بالمكان الذي كان المسيحيون المقيمون في الرباط يدفنون فيه أمواتهم،(125) وأنه بعد رحيل الهيئة الديبلوماسية إلى طنجة قام العرب بتلويث القبور بالروث، وأن السكان لم يكونوا يعبرون أمام هذه الأجداث دون أن يتلفظوا باللعنات. ورحالتنا يعلق على ذلك بقوله:»لم يكفهم النسيان الذي يلفّ هؤلاء، ويريدون انتهاك حرماتهم.» وعندما خفّت ثورة بني حسن، رأى صاحبنا أن الفرصة مواتية لمواصلة الرحلة إلى طنجة. وكان قد حظي من طرف القايد بجنود لحراسته في الطريق إلى شمال المغرب مصحوبا بخدمه. وفي المعمورة (التي تسمى اليوم بالمهدية) سيستقبله عاملها بحفاوة فائقة، بل إنه سيسمح له بزيارة حريمه وهو أمر نادر الحدوث، وحقيقة الأمر أنه لمّا كان صاحبنا يقدم نفسه على أنه طبيب فقد رغبت زوجة القائد التي كانت حديثة الولادة أن يكشف عنها. وفي أعقاب هذه الزيارة يعترف بأنه شعر ببعض الخيبة، فقد كان يتوقع رؤية نساء على شيء من الجمال. والحال أن الحريم كان عبارة عن سجن بدون طلاء حتى. في أصيلة ستنتظره مفاجأة، فقد التقى بشخص فرنسي؟ ولكنه كان من جماعة المرتدين، وهو مرتد من نوع جديد لا علاقة له بأولئك الذين عرفوا في زمن القرصنة والأسر. فقد كان هذا الذي التقاه حتى عهد قريب جنديا، بل من صغار الضباط في الجيش الجزائري. وعلى إثر نزاع له مع أحد رؤسائه سوف يفرّ من الخدمة ولكن سوء حظه سيجعله يقع في قبضة جماعة من النهّابين. وبعد أن فقدَ كل رجاء في العودة إلى فرنسا حيث كان يأمل أن يمثل أمام المحاكم، ورغبة في التخلص من مختطفيه الشرسين، سوف يختار أن يعتنق الإسلام، وهو منذ ذلك الوقت يعيش على بعض المهن ضئيلة المكسب. وقد جاء يعرض خدماته على راي، ولكن هذا الأخير صرفه إلى حال سبيله. وسيكون اللقاء مع هذا الشخص المرتد مناسبة لكي يحدثنا المؤلف عن اليهود الذين كانوا هم أيضا يجبرون في بعض الأحيان على اعتناق الإسلام، وفيما تبقى من الرحلة سيحكي له أحد مرافقيه (126) قصة تلك الفتاة الصغيرة الإسرائيلية المغربية التي حكم عليها بالموت لأنها ارتدت عن الدين الإسلامي الذي كانت مضطرة إلى اعتناقه في لحظة غواية..وهنا ينتهي الكتاب. لقد أمكننا أن نرى بأنه، إضافة إلى أهمية المعلومات التي تضمنها الكتاب، فإنه يكتسب راهنيته من ذكر الأحداث الخطيرة التي كان يجري التحضير لها والتي اهتم المؤلف بالإشارة إليها. ونحن نقرأ عبر صفحات الكتاب جملا عديدة تشير إلى قرب اندلاع الحرب الوشيكة، وتصويرا للنزاع المنتظر قيامه مع المغرب. وسوف تتقوى هذه الإشارات في كتاب رحالتنا الثاني، شارل ديديي، الذي نجده يلح بطريقة أكثر وضوحا ليس على احتمال نشوب الحرب بل على ضرورة التدخل الفرنسي. ومن هذه الناحية فإن شهادته تبرز موقفه المنحاز من الأحداث. يحمل كتاب شارل ديديي عنوان «نزهة في المغرب» (1844). ومنذ المقدمة يفخر المؤلف بأن موضوع النزاع مع المملكة الشريفة سوف يعطي لكتابه الأهمية المستحقة. وقد كان سبق له أن نشر في مجلة «العالَمين» مجموعة من المقالات حول المشاكل الجزائرية المغربية. كما كان قد كتب أيضا رواية هي «الفارس روبير» التي تجعل من طنجة إطارا لها. وربما كان ديديي رحالة بالمصادفة، غير أنه كان صحفيا معروفا ومسموع الكلمة إلى حد ما. ولذلك فإن بعض عباراته سيكون لها صدى أكبر ممّا لدى الآخرين، خاصة وأنه لا يتردد في إبداء تحذيراته. يكتب: «إن الطريق الوحيد الذي علينا اتباعه (127) مع هؤلاء المتوحشين (الذين يعني بهم المغاربة) يتلخص في كلمتين: القوة واليقظة. علينا أن نخضعهم للقانون بدون عنف، فلن يقهرهم سوى الإقرار بالأمر الواقع.» وفي هذا التاريخ كانت قد حصلت أحداث الحدود وسال الدم الفرنسي، ولم يكن ديديي الذي يعتقد في وجاهة اعتراضه يقبل أن يتراجع مسؤولونا أمام الحواجز الديبلوماسية. وسيكون هذا الإيقاع هو اللازمة المتواصلة في كتابه. ولن يتغير على طول تلك الصفحات التي يحكي فيها المؤلف رحلته إلى طنجة وتطوان. بل إنه سوف يقتنص كل الفرص لتسويد صورة المغرب أملا في الدفاع عن أطروحته. آتيا من قاديس، سيحل بميناء طنجة. ومنذ البداية نجده يتذمر من الفروض المتكررة التي عليه أن يؤديها.»كان كيس نقودي على وشك أن ينفد على هذه الأرض الجشعة بقدر ما هي فقيرة». وبعد ذلك يشير إلى تلك المضايقات التي يتعرض لها اليهود من طرف المغاربة القساة والمتعصبين. وحتى هو نفسه لم يكن في مأمن من ذلك التنكيد المتكرر، وذلك بالرغم من «أن طنجة كانت هي المدينة الوحيدة من بين مدن المملكة التي تآلفت مع وجود المسيحيين في ظهرانيها.» وقد بدت لعينيه طنجة عارية من الجمال. ومنازلها واطئة، وغير منتظمة، وسيئة البناء بحيث تبدو خالية من كل حس هندسي. أما الأزقة فهي عبارة عن ممرات تتعرج بين الجدران الضيقة المطلية بالجير،والمليئة بالأحجار والقاذورات. أما القصبة التي تشرف على طنجة فكانت خليطا كبيرا من الأبراج والأسوار والدرابزين التي أقيمت من دون تصميم يذكر، وحيث كل شيء يتهاوى كالأطلال. الشيء الوحيد الذي ينعش البصر هو البادية النضرة، وحتى هذه الخضرة الظاهرة للعيان فإنما بفضل حدائق القناصل التي تشكل حزاما منعشا يحيط بالمدينة. وتتخلل هذه الأوصاف ملاحظات عامة حول (128) طبائع السكان، والعدالة التي كانت ما تزال في طور بدائي، وحول إخلال الموظفين بواجباتهم. ومع أن طنجة كانت شديدة التخلف فقد بدا منذ ذلك الوقت المبكر أن الزيف قد أخذ يخالط أصالتها التي جبلت عليها بسبب اتصالها بالأوروبيين. وقد كان ديديي يأمل في رؤية مدينة تحافظ ما وسعها على طابعها المغربي. وهكذا سيطلب الذهاب إلى تطوان التي سيغادر إليها ذات صباح مرفوقا بوكيلين من موظفي القنصلية وجندي من الأهالي كان يعمل بمثابة جواز سفر وفي نفس الوقت كحارس. وسوف تتلاشى كل الأحلام الشاعرية التي ظل يمنّى نفسه بها أمام تلك الطبيعة المبتذلة والخشنة التي تنتشر من حوله. فقد كانت النباتات نادرة وشاحبة. أما الأراضي فكانت متقطعة ولكن خالية من الإثارة. وهذا على الأقل هو الانطباع الذي خلّفته لدى صاحبنا، أو الصورة التي كان يود أن يقدمها عنها. عندما أشرف على تطوان نجده يكتب:»من بعيد تبدو المدينة أشبه ما تكون بساحة محصنة...يشرف عليها صرح يعطي الانطباع بأنه قصر منيف. وكل ذلك مطلي بالجير. ومن قريب يكشف المشهد عن بشاعته، غير أن بياض المدينة يظهر من بعيد متناغما مع الألوان القاتمة للطبيعة.» وفي تطوان سيقيم المسافرون في ملاح اليهود. وستكون المناسبة سانحة لكي يعيد علينا ديديي ما سبق أن ردده عن المعاملة الشنيعة التي يعامل بها المستبدون العرب الإسرائليين الأشقياء. على أن إقامته وسط هذه الساكنة ستثمر لنا عدة صفحات طريفة حول طبائع وعادات اليهود في الملاحات المغربية. ولا يأخذها العجب في هذا الشأن، فإنه من السهل على الأجنبي أن يتغلغل في المجتمع اليهودي أكثر مما يتاح ذلك للعنصر المسلم. وعليه فكل ما سيقوله ديديي عن المغاربة لن يكون سوى نتيجة لرؤية خارجية لا غير. ولن يكون متاحا لرؤيته تقريبا سوى ما يجري في الشارع الذي نجده يصور مظاهره المختلفة بحسب المهن التي تمارس فيه، فهنا يقوم صانعو الأسلحة، وهناك الحدادون، (129) وفي موضع آخر صانعو الحصائر..إلخ وهو يرى مدرسة قرآنية ولكن رؤيته لن تتجاوز العتبة. ويزور سوقا، ولكنه سبق أن قام بوصف سوق طنجة، والأسواق هنا تتشابه. وفي الجملة لم يشاهد أشياء جديدة، اللهم كون المكان هنا مختلف وربما يكتسي طابعا شديد المحلية، كما تشهد بذلك الشتائم التي يتلقاها بل حتى الأحجار التي ترمى عند مروره. وهو ينتهز الفرصة ليقول:»هو ذا، حتى الوقت الراهن، موقف السكان المغاربة تجاه الأوروبيين. وبما أن هؤلاء المتوحشين هم اليوم جيراننا، وبما أن الزمن لن يتأخر في جعلهم يخوضون مع مستعمرتنا الجديدة في مشادّات خطيرة، فمن الأولى لنا أن نتعرف عليهم لأجل أن نهزمهم عندما تندلع الحرب.» وهو يكشف بالمناسبة عن عدوانية المغاربة وخداعهم وخيانتهم الدائمة، كما أن قربه من الريف يمنحه مناسبة ممتازة لكي يبرز مبلغ وحشية الريفيين، فهم الذين يحشدون الأنصار للأمير عبد القادر، فهم إذن أعداؤنا الشرسون. وعندما يأنس من نفسه أنه قد تعرّف كفاية على البلاد، وقدم لقارئه خاصة فكرة وافية عنها، فإنه يعلن بأنه «لم يعد له ما يفعله في هذا القطر الذي يدعو للرثاء»، وهكذا يقفل عائدا إلى طنجة التي سيبحر منها إلى جبل طارق. ومن هناك سيعرج على سبتة، ولكن هذه الأخيرة كانت قد صارت منذ وقت طويل حصنا إسبانيا، وبالتالي فقد فقدت كل طابع مغربي. وفي أعقاب الهجوم على لالة مغنية، ستندلع الحرب التي توقعها شارل ديديي (بل التي تمنى قيامها لتضع في رأيه حدا لمخاتلات السلطان) بين فرنسا والمغرب في بحر سنة 1844. وسوف يستسلم الشريف في أقصر وقت، ويجري توقيع معاهدة للسلم في طنجة سوف تُستكمل باتفاقية سنة 1845. في السنة الموالية سيحل بالمغرب مسافر آخر هو الكاتب ألكسندر دوما. (130) غير أن مقامه كان للأسف قصيرا. إذ لم يكن في الحقيقة سوى لحظة توقف، ومع أن مادة الملاحظة كانت وافرة، والظرف جد مناسب، فإن الروائي لم يفعل أكثر من تدشين ما نسميه اليوم ب»أدب العبور»، أي ذلك الأدب الذي يجمع بين كثير من الجهل والكلام المتسكع. وربما يكون دوما هو أول سائح زار المغرب. غير أن هذه الصفة لا تبرّر غض الطرف عنه. ذلك أنه إذا تغاضينا عن بعض اللطف المتكلف الذي لا محيد عنه، فإننا نصادف لديه مشهدين أو ثلاثة مشاهد مما وقعت عليه عينا الكاتب وصوّره بكل الدقة المتوقعة منه. لا يتصل السرد الذي قدمه دوما بالمغرب وحده، لأن رحلته ستبلغ به الجزائر بل حتى تونس. وما يستوقفنا خاصة عنده هو المجلد الأول الذي يتحدث فيه عن توقفه في طنجة ومليلية. ويحمل هذا الكتاب عنوان «السريعة» باسم الباخرة التي أقلّته عبر الشواطئ المتوسطية لإفريقيا. وقد كان ألكسندر دوما مكلفا بمهمة من طرف وزارة التعليم العمومي. غير أننا نجهل طبيعة هذه المهمة. بل علينا أن نجهلها في تلك الحقبة، فهذا وزير الحرب يعلن في استجواب له:»نستطيع أن نصدق بأن دوما كان مكلفا فعلا بمهمة طالما أنه يفخر بذلك في كل مناسبة». ويبدو أن الروائي كان على جانب من الحساسية فيما يخص هذا الموضوع، ومن ذلك أنه قد رأكى من واجبه في مقدمة كتابه أن ينقل محتوى جواز السفر الذي كان وزير الشؤون الخارجية السيد غيزو قد سلّمه له لأداء مهمته الرسمية. وبعد أن قام ألكسندر دوما باجتياز إسبانيا، وصل إلى قادس حيث كانت باخرة الدولة، المسماة بالسريعة، راسية في انتظاره هو وحاشيته لكي تقلّه إلى الجزائر عبر مدينة طنجة. (131) كان دوما مصحوبا بابنه، وبصديقه الوفي ماكي (الذي سيطلق عليه اسم الزنجي)، وبصديقين آخرين يحترفان الرسم مكلفان بتصوير مجريات الرحلة. وهكذا ستقود «السريعة» رحالينا إلى إفريقيا، هذا الاسم الذي سيوقظ في الذهن الرومانتيكي لدوما كل ما هو عجيب وغريب في الخرافات القديمة. يكتب بهذا الصدد:»يوجد في هذه الكلمة شيء من السحر والعظمة لا يوجد في أي بقعة أخرى من بقاع العالم. لقد كانت إفريقيا منذ الأزمة الغابرة أرضا للفتنة والإدهاش.» وهو يستحضر بمتعة عارمة ما قاله المؤلفون الإغريق من حكايات ووقائع، حقيقية أو متخيلة، عن هذه القارة العجيبة. وكل هذا بالطبع يضاعف من إغراء المسافر الحديث، خاصة عندما يرغب في أن يتصور أنه باجتيازه مضيق جبل طارق إنما يدشن رحلة بحرية طويلة. وعندما يصل الوفد إلى مرسى طنجة يكون الليل قد أرخى سدوله. وبما أن الليل يكون عادة محمّلا بالرومانتيكية فإن دوما يكتب:»كانت طنجة النقطة الأكثر حلكة في مجموع الساحل المتوسطي، وبات يتعين أن يكون المرء على بينة ليشتبه بأنه توجد هناك مدينة، وبأن هذه المدينة تؤوي سبعة آلاف نسمة، إذ لم يكن يحيط بها سوى الليل وصمت القبور...وعلى العكس من ذلك كان منحدر الجبل الدائري الذي يشكل خليجا يشع ببعض الأضواء وتتناهى منه بعض الصيحات الشبيهة بنداءات آدمية. أما تلك الأضواء فكانت تصدر عن بعض الدواوير البئيسة وغير المرئية. وأما الأصوات فلم تكن سوى عواء الضباع وبنات آوى.» وها هو كاتبنا قد نال ما أراده من شعور بالاغتراب، ولذلك يجد السعادة تغمره لأنه صار متيقنا بأنه قد انتقل إلى عالم جديد ومجهول. وفي صبيحة الغد، سيلتحق مستكشفنا بالساحل المغربي على متن سفينة صيد، وهناك على الشاطئ الرملي (132) سيلتقي بأول عربي، وهو يكتب عن هذا اللقاء ما يلي:»في الوقت الذي كنت أقترب فيه من الساحل أبصرت خلف التلال بناصية بندقية طويلة، ثم بقبّ برنس، ثم برأس سمراء، ثم بكامل جسم رجل عربي حافي القدمين...ولم أكن قد رأيت أبدا عربيا سوى في لوحات دولاكروا وفيرني...وكان هذا المثال الحي للشعب الإفريقي قد ترك فيّ عميق الأثر وهو يمثُل تدريجيا أمامي واقفا على بُعد ثلاثين خطوة مني، بدون حراك، بندقيته على كتفه، وساقه إلى الأمام. وبدا من الواضح أنه لو كنت بمفردي لكان استهان بسلاحي البسيط، وهو عبارة عن قربينة من 18 بوصة، واعتبره لاشيء أمام بندقيته ذات الخمسة أقدام، غير أنه لمّا كان يسير من ورائي حوالي خمسين رجل من أبناء جنسي، فإن ذلك لابد جعله يتريث قليلا.» وغالب الظن أن العربي المعني بالأمر كان قد استولى عليه الاستغراب والدهشة لمرأى هؤلاء الغرباء، ولكن دوما بدا متيقنا بأنه قد حط الرحال في بلاد معادية، وليس ذلك إلا لأنه كان يرغب في أن يتحقق ما تصوره عن البلاد وأهلها. أما النزول الحقيقي في ميناء طنجة فلم يحصل إلا بعد ذلك ببعض الوقت وبرعاية من القنصل نفسه الذي جعل المسافرين في عهدة أحد أثرياء اليهود الذي سيكون مرشدهم ودليلهم. وقد تجلى دافيد هذا لدوما في صورة يهودي شرقي. وفي البداية سيكون هذا الأخير هو الذي يقود المسافرين في جولة عبر المدينة، لكي يُطلعهم على كل ما يتوق كل أجنبي في رؤيته. وعندما كان دوما يرغب في اقتناء بعض الهدايا فإن دافيد كان يقول له:»بعد قليل، في محلي.» وبالفعل، فهم سيجدون عند دافيد بازارا عجيبا: سيوف، سكاكين، برانس، وشاحات، أخفاف، جرابات. وما لا يوجد في محلّه كان يرسل في طلبه على الفور. أطباق من الجلد، أباريق، صناديق، قناديل. وقد كانت الأثمنة الزهيدة (133) لكل شيء تحث دوما على شراء المزيد بالرغم من أن ذلك يضر بميزانيته. ولكنه لم يكن يبتئس لذلك بل بداسعيدا مثل سائح أمام كل هذه السلع المغربية المتنوعة ورخيصة الثمن. كما كان دافيد أيضا هو الذي قدّم لرسامي البعثة بعض اليهود لاتخاذهم موديلات للتصوير، كما كان قد فعل ذلك مع دولاكروا قبلهما. وهو الذي سينظّم عمليا نزهة الصيد التي كان دوما ينوي القيام في الضواحي، فقدم للجماعة وسائل النقل والمساعدين الضروريين. كما كان هذا الدافيد، الذي لا غنى عنه، هو الذي جعلهم يحضرون حفلة الزفاف اليهودي. وقد أتاح ذلك لدوما أن يشاهد أشياء أخرى غير رتابة الأزقة والحوانيت أو السوق، وأن يقدم عنها تصويرا غاية في الدقة. كان الاحتفال بالزفاف قد بدأ منذ ستة أيام مضت. ويوجد الآن في يومه السابع، وهو اليوم الذي يتعين أن يجري فيه الانتقال بالعروس إلى بيت الزوجية. وقد قاد دافيد الجماعة إلى بيت العرس الذي ما إن اقتربوا منه حتى بلغتهم جلبته، يكتب دوما:»سمعنا ضجيجا ينبعث من المكان، هو خليط من قرع خفيف على الطبول، وصرير الكمان وفرقعة النواقيس، يشكل نوعا من التناغم المليء بالبدائية والأصالة، وباختصار ذلك النوع من الموسيقى الذي علينا توقع سماعه في المغرب.» وبعد أن دخلوا البيت اتخذوا مكانهم بين الضيوف. والوصف الذي يقدمه دوما عن هذا الحشد يذكرنا تماما باللوحة التي رسمها دولاكروا بعد مشاهدته لنفس الاحتفال. وسرعان ما حل أوان الرقص: فتيات يهوديات، بمنديل في اليد، يرقصن على إيقاع غاية في الرتابة، وهن يراوحن في نفس المكان تقريبا، مصحوبات بأغنية غريبة من حيث الموضوع الذي تعالجه والذي لم يكن شيئا آخر غير موضوع قصف طنجة. ويوضح دوما بأن هذا القصف قد أعطى يهود المغرب الكثير من الآمال، وبأن نصر الفرنسيين (134) قد بدا لهم مبشرا بعهد جديد. بعد جولات الرقص، دعي الضيوف إلى رؤية العروس. وقد كانت هذه الأخيرة ممددة في غرفة مكتظة بالنساء. وقد كان عليها أن تُبقي على عينيها مغمضتين منذ بداية الحفل ولا تفتحهما إلا لرؤية زوجها. وهي اليوم تنهض لكي تخضّب النسوةُ يديها وقدميها بالحناء، وتأتين على استكمال زينتها. كانت الفتاة الشابة تجلس على كرسي عال بينما تمشّط المزينات شعرها وتلففن أعلاه بوشاح وتضعن عليه تاجا. وأخيرا يوضع لها الكحل في جفونها وحواجبها، والأصباغ على خديها. وإذا تمّ كل ذلك فإنها تُعرض لبعض الوقت ليتأمل فيها الجميع مثل معبودة. ثم يقومون بإنزالها من على الكرسي ويتكوّن من حولها موكب مشكّل من الأهل والأصدقاء لمرافقتها إلى حيث يقيم زوجها. ويتولى رجلان إسنادها وتوجيهها، بينما تسير بخطى آلية وهي مغمضة العينين يتقدمها حملة المشاعل وهم يسيرون القهقرى مخلفين وراءهم جموع الفضوليين. وعبر الأزقة، ومن خلال النوافذ الضيقة للمنازل، وفوق الشرفات، كانت تبدو في الظلمة رؤوس متعطشة لرؤية الموكب، وأشكال غير واضحة لنساء محجبات تتعقبن المحتفلين من شرفة إلى شرفة وهن يطلقن صيحات تصم الآذان. وها قد وصل الموكب إلى منزل العريس. وكان هذا الأخير يتكئ على السور وهو خافض عينيه بانتظار المرأة التي يحملونها إليه. وعند بلوغها عتبة البيت يقدّم للعروسة كوب من الماء تشربه ثم تعمد إلى تكسيره قبل أن تلج إلى بيت الزوجية. وتتواصل الجلبة والموسيقى، ثم تُنقل الفتاة إلى الغرفة حيث سيلتحق بها زوجها، ويكون على الضيوف أن يغادروا المكان. وسيكون هذا الاحتفال المنقول هنا هو المظهر الأصيل الوحيد الذي يتضمنه كتاب دوما. أما الكثير ممّا تبقّى فلا يكتسي أية قيمة استثنائية. وعلينا أن نتساءل الآن بصدد العناصر التي تسمح لنا بموقعة هذه الرحلة في سنة 1846، أي السنة التالية لتاريخ الاعتراف بانتصارنا على المغرب. وفي الحقيقة فإن هذه العناصر ضئيلة إذا ما استثنينا الإشارة المباشرة إلى قصف مدينة طنجة الواردة في أغنية العرس اليهودي. غير أن النظر إلى الملاحظات السابقة التي كان قد أبداها الرحالان راي وديديي تكشف لنا عن بعض الوقائع الصغيرة التي تشير إلى أن ذكرى انتصارات الفرنسيين كانت ما تزال حديثة العهد، ومن ذلك مثلا أن دوما وهو يزور مدينة طنجة مستعينا بمرشده الإسرائيلي لم يكن يساوره أي ضيق اللهم خشيته من أن ينغلق باب المدرسة التي كان يلقي على أحد أقسامها بنظراته غير المتحفظة، وهناك من جهة أخرى كون اليهودي دافيد، مموّن البحرية الفرنسية، كان يستفيد من امتياز العبور من أمام المساجد دون أن يكون مضطرا إلى خلع نعليه كما جرت العادة بذلك في تلك المشاهد القاسية التي نقلها لنا الرحالة ديديي. يشير هذا الكتاب عند نهايته إلى حلقة من حرب الجزائر، لها صلة بالمغرب، وتخص السجناء الفرنسيين الذين كان الأمير عبد القادر قد اعتقلهم وجرى الإفراج عنهم بفدية في مكان قريب من مدينة مليلية. وقد كان سائحونا يشعرون بالسعادة لكونهم شاركوا في هذه العملية، ولكن من دون أن تطأ قدم أحد منهم يابسة المغرب، وسوف تنتهي حقيقةً الرحلة المغربية لألكسندر دوما عند مغادرته لمدينة طنجة. إن هذه الرحلة، كما أشرنا إلى ذلك، تندرج في أصلها ضمن نوع بسيط ستكون له فيما بعد كل إمكانيات التطور بفضل السهولة الكبيرة التي صارت عليها الرحلات إلى المغرب. وستظل أيضا من بين آخر ما حمل إلينا أصداء أحداث سنة 1844. وفيما بعد سيرين الصمت لبضع سنوات على المنطقة. في سنة 1859 ستعلن إسبانيا الحرب على المغرب وتقرر الزحف على مدينة تطوان، وبهذه المناسبة سوف تظهر في الأدبيات شهادات من صنف جديد، هو صنف المراسلات الحربية. وهو النوع الذي سنأخذ على عاتقنا بيان أولى تمظهراته.