لتتوصل الخزينة بالمبلغ الجزافي المحدد سلفا، يتم اللجوء إلى مسطرة المراجعة التي تطبق في حق أولئك المقاولين ورجال الأعمال والتجار الكبار الذين يلتزمون بأداء واجباتهم الضريبة دون تلكؤ ودون تأخر، وبذلك يقع عبء ضريبي ثقيل على الذين يحترمون القانون ويؤدون الواجبات. قد يكون في كلام الرجل نوع من المبالغة، لكن لا دخان بلا نار. ويمكن أن نستخلص من هذا المثال أن المقاول المواطن (وأداء الضريبة من مقومات المواطنة) سيجد صعوبة في السوق لمنافسة المقاولين المتحايلين على الدولة بعدم أداء واجباتهم الضريبية كاملة. لنأخذ مثالا تطبيقيا: لنتصور أن تاجرين في نفس المدينة، يعملان في مجال المعدات الفلاحية وما يرتبط بها من قطع غيار، استطاعا أن ينميا تجارتهما، فأصبح كل واحد منهما يدير شركة تشغل ما لا يقل عن 50 عاملا؛ واحد منهما يؤدي لعماله الأجر القانوني ويؤدي مستحقات صندوق الضمان الاجتماعي ويؤدي الضريبة على الأرباح... إلخ؛ بينما الثاني، وإن أدى الأجور ومستحقات الضمان الاجتماعي، فهو لا يلتزم بأداء الضريبة وينتظر «الصلح» ليربح أضعاف ما سيؤديه للدولة وما سيقدمه إلى الموظف المرتشي، كما بينا آنفا؛ فالتاجر (المقاول) الأول ستكون له صعوبات لأنه سيواجه منافسة غير شريفة، ذلك أن منافسه ربح مبلغا كبيرا بتهربه من أداء ما بذمته للدولة، وبالتالي يمكن أن يخفض الأسعار، الشيء الذي لا يمكن للآخر أن يقوم به، نظرا إلى ارتفاع التكلفة بسبب تطبيقه للقانون، من جهة، وبسبب المراجعات الضريبية التي تكون أحيانا، حسب المتحدث، انتقامية، من جهة أخرى. وإذا افترضنا أن التقدير الجزافي معمول به حقا، كما فهمت من كلام رجل الأعمال سالف الذكر، فالخاسر في العملية هو المقاول النزيه، النظيف، المواطن، الذي يؤدي -في النهاية- عن المقاول الغشاش ويقع ضحية مسطرة المراجعة التي لها ما لها وعليها ما عليها، خصوصا عند غياب الشفافية وانعدام العدالة الضريبية. وفي حالة عدم وجود هذا التقدير الجزافي ولجوء المصالح الضريبية إلى «الصلح»، فإن الخاسر هو الخزينة العامة (وبالتالي الدولة) والمستفيد هو المقاول الغشاش والموظف المرتشي الذي قد يحصل على مبلغ 100 ألف درهم أو أكثر ليضيِّع على الدولة مبلغ 400 مليون درهم أو أقل أو أكثر. من خلال الأمثلة التي أوردناها، وهي غيض من فيض، يتضح أن الفساد المالي والإداري... مستشر بشكل كبير. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يروج عن فساد بعض القضاة ورجال الدرك والجمارك والسلطة بمختلف مراتبهم والمنتخبين... إلخ، نصبح أمام مجتمع ينخره الفساد ويعشش فيه الانحراف وتتعمق فيه الهوة بين الفقر المدقع والغنى الفاحش بسبب غياب العدالة الاجتماعية وانعدام تكافؤ الفرص وغياب المحاسبة وسيادة ثقافة «الهمزة»...، الشيء الذي جعل ترتيب بلادنا في التصنيفات التي تضعها الأممالمتحدة يأتي في مراتب غير مشرفة. وإذا أضفنا إلى هذا كله الفسادَ السياسي الذي غالبا ما يوفر الحماية والتغطية لهذه الأنواع من الفساد، ندرك حجم الخسارة التي تتكبدها بلادنا. إن الفساد يعطل عجلة التقدم ويعرقل عملية البناء الديمقراطي لدولتنا ويؤخر التحاقنا بركب الحداثة ويدمر قيم مجتمعنا الأخلاقية والدينية والثقافية والاجتماعية. فهل من سبيل إلى الحد، على الأقل، من هذه الآفة؟ وهل يمكن أن نحلم بأن نستأصل، يوما، هذا الورم من إدارتنا ومجتمعنا؟ إن دولة الحق والقانون لا يمكن أن تتحقق في مجتمع يسوده الفساد. وبما أن بلادنا مقبلة على تنظيم انتخابات تشريعية تليها انتخابات جماعية وجهوية، فإننا نرى أنه من واجب الدولة أن تحمي نفسها وتحمي المجتمع من المفسدين، وذلك بإعمال القانون وزجر مستعملي المال لشراء ذمم الناخبين المعوزين والضرب على أيدي المسؤولين المتورطين في دعم بعض المرشحين...، صونا لكرامة المواطن واحتراما لاختياره، قصد بناء مؤسسات ذات مصداقية وذات فعالية؛ فأنجع وسيلة لمحاربة الفساد هي الديمقراطية الحقة التي من بين تجلياتها ربط المسؤولية بالمحاسبة والعمل على احترام فصل السلط وقيام كل سلطة بما يخوله لها القانون... فكل سلطة في البلدان الديمقراطية تقوم بدورها، فدور الإعلام هو الفضح وتتبع الشأن العام محليا ووطنيا وجعل الشخصيات العامة تحت المجهر، ودور القضاء هو البحث في الاتهامات التي يطلقها الإعلام في حق الشخصيات العامة وغيرها ومحاكمتها إذا ثبتت في حقها الاتهامات التي تطلقها الصحافة؛ وبهذا نكون بالفعل أمام دولة الحق والقانون حيث ينصف المظلوم ويعاقب الجاني (الفاسد). من حقنا كمواطنين أن نحلم بالعيش في بلد تحترم فيه مواطنتنا ويسمع فيه صوتنا ونشعر فيه بكرامتنا ونتمتع فيه بحريتنا ونكون فيه سواسية أمام القانون، لا فرق بين الغني والفقير ولا بين القوي والضعيف، نؤدي واجباتنا على الوجه الأكمل ونتمتع بحقوقنا كاملة غير منقوصة. إنه حلم مشروع؛ لكن هل بلادنا تتوفر على إرادة حقيقية للقطع مع ما يفسد علينا حلمنا؟ محمد إنفي