II - مسار الأنظمة المتقدمة إن الأنظمة السياسية في دول أمريكا وأوربا الغربية عرفت التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي منذ زمن النهضة والتنوير والثورة الصناعية، حيث بنيت مجتمعات وطنية، ديمقراطيةٌ سياسيا ورأسماليةٌ اقتصاديا، الشيء الذي بني عليه ما يعرف بالسيادة الشعبية أو حكم الشعب والاستقلال الوطني وحق تقرير المصير. وتمت مأسسة السياسة بحكومات من المدنيين المنتخبين وبكبار التنفيذيين والمشرعين. وعملت أعراف وقوانين هذه الأنظمة على حماية الحقوق والحريات المدنية، بينما يعتمد الاقتصاد على المنافسة الشفافة في السوق كآلية لتحديد الأجور والأسعار وضبط معدل نجاح أو فشل المشاريع. ولعل هذا البناء السياسي الديمقراطي والاقتصادي الشفاف جاء نتيجة تغييرات ذات ثمن باهظ كلف الكثير من الصراع الأهلي والعنف والحروب الدولية رغم الاستثناء الذي شكلته اليابان التي أصبحت قوة اقتصادية ودولة ديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية لتلتحق بالدول الأولى من خارج فضاء الدول الغربية، بينما التغيير الاقتصادي والسياسي الذي عرفته الدول الشيوعية ذات الحزب الوحيد، والتي كانت تركز أنشطتها الاقتصادية من خلال تخطيط مركزي للحكومة، قد باء بالفشل. غير أن العديد من دول العالم الثالث والتي عانت من الاستعمار، سواء في الشرق الأوسط أو آسيا أو أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، تحاول الوصول إلى التقدم وتشكيل موجة ثالثة من التحديث الاقتصادي؛ وهي اليوم تشكل بعدا جديدا في السياسة الدولية، علما بأن لفظ العالم الثالث أصبح غير مناسب اليوم بعد سقوط العالم الثاني، سواء بفشل الاتحاد السوفياتي أو صعود الصين. وفي الوقت الذي تمتلك فيه دول العالم الثالث المواد الخام والموارد الطبيعية التي يحتاجها العالم المتقدم، فإن دول هذا الأخير هي التي تحتكر مصدر رأس المال والتقنية اللازمة لتحديث وتقدم العالم الثالث مع حاجة العالم الصناعي إلى الأسواق لترويج البضاعة ورأس المال في العالم الثالث. وإن الأحداث التي تقع في دول العالم الثالث وبفعل اختلافاتها في الثقافة والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ذات تأثير مباشر على الحياة في الغرب، وهذا سيكلفه الشيء الكثير، ذلك أن ثلاثة أرباع العالم ستكون في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وموارد العالم الطبيعية والمهمة لاستمرار الحضارة الغربية تتوفر عليها الدول النامية، فبالإضافة إلى البترول هناك البوكسيت والألمنيوم والكروم والزنك والكوبالت، ولذلك وجب الاهتمام بهذه الدول وتغيير طبيعة العملية السياسية فيها للحد من السياسات الخاطئة الحالية للغرب والتي تؤدي إلى مزيد من التوتر والعداء له في العالم كله، إذ الحاجة ماسة إلى الاقتراب من طبيعة العمليات السياسية وإدراك التفاعل بين التغيير الاقتصادي والتغيير الاجتماعي لفهم وحل مشكلات التقدم الحالية والمستقبلية. III - المشكلات السياسية للعالم الثالث 1 - الفقر والمديونية والمشكلة الاقتصادية: رغم الاختلافات المتباينة بين دول العالم الثالث والدول العربية من حيث عدد السكان ومساحات الأرض والمساحات المزروعة والمدن الكبرى ودرجة التحضر وفي المشروعيات السياسية والتاريخية وخلفياتها الثقافية والدينية أحيانا، فإن مشكلة الفقر توحدها وتشكل تحديا ذا عواقب وتأثيرات وخيمة عليها، ذلك أن حظوظ العيش قليلة ومتوسط مدى الحياة يتناقص وفرص التعليم ضئيلة، والمحظوظون من المتعلمين يعانون البطالة، والموظفون ليس لهم طموح إلى تغيير وضعياتهم الاجتماعية فبالأحرى إلى أن يصبحوا أثرياء، لأن الأثرياء يولدون بملاعق ذهبية باذخة في أفواههم، اللهم إذا كانوا من تجار المخدرات أو سماسرة السياسة أو المفسدين المنتشرين في كل مكان على حساب الدولة والمال العام وعرق الفقراء، وبذلك تنعدم حظوظ الكثيرين في القراءة والولوج إلى العلاج والحصول على الدواء للآباء والأبناء على السواء، وخصوصا في المناطق النائية والمقصية والمهمشة حيث لا أطباء ولا مستشفيات، بل لا يجد أهلها ما ينتعلونه في أرجلهم وما يغطون به أجسامهم في الصيف والشتاء أو ما يشكل وجبة يومهم، حيث تكثر نخاسة الإناث والذكور الذين يخرجون للعمل العبودي والمضني لتوفير لقمة العيش لأب عاجز أو أم طريحة الفراش أو أخ صغير بدون علبة حليب. والكثير من الناس والموظفين والمثقفين يقومون بعدة أعمال وأدوار ومهام، بالإضافة إلى عملهم الأصلي لسداد الخصاص ضدا على حرية الاختيار وحفظ الكرامة. إن الحصول على منزل من غرفتين يكلف الناس عمرهم كاملا في تسديد الأقساط البنكية، والضنك يطول الحياة كلها حتى بعد التقاعد.. إنه جحيم الفقر في بلدان غنية بمواردها الطبيعية، مهمشة في حياتها التي تنعم برغدها فئة قليلة متطفلة على السياسة والاقتصاد ولا تقوم على المواطنة الحقة وعلى الديمقراطية. وإن 90 في المائة من سكان العالم الثالث مجبرون على العيش البائس وتجرع مرارة سوء تدبير الآخرين وجشعهم وتهافتهم على تكديس الثروات الحرام، ويلتمسون حظهم العاثر في التوصل المستحيل بحق في العيش من 5 في المائة من الإنتاج العالمي.. وهي نسبة في تناقص متواتر سنويا، إذ إن تزايد الدخل في الدول المتقدمة يوازيه على الدوام تراجع للدخل في الدول الفقيرة بفعل ثقل المديونية، هذه الأخيرة التي تقتطع من قوت ونبض حياة الفقراء؛ واختلال ميزان الصادرات والواردات الأساسية أصبح يشكل معضلة كبيرة لا سبيل إلى علاجها إلا بمزيد من القروض مع تزايد ارتفاع الفوائد المتغيرة كلما تغير أساسها في الدول المقترضة والمتقدمة، فأقساط الديون في بعض البلدان تجاوزت 70 في المائة من حجم الصادرات؛ وبذلك تكون دول العالم الثالث، وعلى رأسها الدول العربية، قد غرقت كلية في شرك المديونية بسبب ارتفاع الفوائد وتأخر السداد دون أن تتمكن من بناء اقتصاد وطني أو وضع بنيات تحتية وتجهيزات وتعليم عصري وخدمات إنسانية مناسبة. وإن حلول الخوصصة قد قامت بتفكيك المؤسسات العمومية وتفتيتها وجعلتها في وضع عاجز كليا عن الإنتاج والاستمرار.. إنها عمليات سيئة لنقلها لخواص وعائلات مفصولة كليا عن الشعوب ولا تحتك بالناس ولا تعرف ما يجري في الحياة اليومية وتخرق يوميا حقوق الإنسان، بل لا تؤدي حقوق الدولة (الضرائب) ولا تحترم دفاتر التحمل ولا تقوم بالمشاريع في غياب أي رقابة بل وفي تواطؤ فاضح من المسؤولين التنفيذيين وحاشية الدوائر العليا في القرار. إن هذه الأوضاع أدت إلى عجز الدول عن سداد الديون، مما يشكل كوارث مالية واقتصادية على البنوك المقرضة والدول المانحة وعلى الاقتصاد العالمي بنسبة انخفاض التجارة العالمية. وهذه الوضعية والمعادلة تؤدي، بكل تأكيد، إلى تقويض أسس النظام العالمي الجديد، بحيث يمكن القول إن السحر ينقلب على الساحر في ظل الحماية السياسية اللامشروطة للدول المتقدمة لأنظمة العالم الثالث الفاسدة أبا عن جد وشبلا عن أسد. لقد اتضح اليوم أن تغير معدلات الفائدة في الدول الصناعية والتأخر في التسديد أو العجز عن التسديد لا يعطل التجارة العالمية فحسب وإنما له تأثير خطير على عملات دول العالم، وعلى الدولار الأمريكي أساسا مقارنة بالين الياباني والمارك الألماني الذي يتدخل اليوم لإنقاذ اليونان من الانهيار. وإن ارتفاع عملة بلد ما، مثل اليابان أو ألمانيا، يجعل دول العالم الثالث عاجزة عن شراء منتجاتها، فتتضاعف مشاكل المديونية وتتأثر الدول الصناعية ذاتها نظرا إلى انخفاض الصادرات، حيث تضطر الشركات إلى خفض إنتاجها والاستغناء عن العمال، فتكون وجها لوجه أمام البطالة وأمام الركود والكساد في اقتصادياتها الداخلية التي بذلت جهودا جبارة لقرون وقدمت تضحيات جسام لبنائها. وقد أصبح واضحا اليوم أن التغيرات في العالم الخارجي للبلدان لها تأثير مباشر على أوضاعها الداخلية، حيث تصعب على البلدان المتقدمة السيطرة على اقتصادياتها وإنزال مشاريعها وإنجاح مخططاتها لوحدها نظرا إلى كون اقتصاديات الدول أصبحت مترابطة في ما بينها. وأصبح هذا الوضع ينعكس سلبا على نمط التجارة بين الدول المتقدمة والذي لا يخدم المصالح الأمريكية والأوربية التي باتت تصدر المنتجات الفلاحية وتستورد المنتجات الصناعية من اليابان، وهي مسألة تنذر بتحول في تبعية أمريكا وأوربا لليابان. وإن النتيجة الساطعة اليوم تؤكد أن الأزمة الأمريكية والأوربية والتحول الجارف القادم لاقتصادياتها ولمعاملاتها التجارية ولنمط منتجاتها يكمن في قلب دول العالم الثالث والدول العربية الفقيرة والعاجزة والغارقة في الديون والأمية والبطالة الفساد ونهب المال العام، مستفيدة من تغطية الدول المتقدمة نفسها التي تغض الطرف عن سياساتها المخربة المتعمدة باسم العالم الثالث والدول النامية أو الملحقات الاستعمارية التابعة. ولذلك، فإن تقسيم العالم اليوم إلى عالم صناعي متقدم، يسيطر على التجارة والتمويل، وعالم نام، يعتمد على الديون والمساعدات، لم يعد مرغوبا فيه لأنه يجر العالم المتقدم إلى مستنقع بالغ الخطورة ظهرت ملامحه الأولى من خلال الأزمة المالية الأمريكية والأوربية التي كلفت هذه الدول الكثير من المجهودات للحيلولة دون وقوع كارثة أكبر؛ ولهذا أصبحت من الأولويات معالجة المشكلات السياسية في العالم الثالث لأن الجينة المتحكمة في الاقتصاد توجد في السياسة. يتبع... أستاذ باحث