تبدو الأنظمة في المجتمعات العربية كنقيض لقيم الحرية، ولإرادة التحرر من الهيمنة التبعية للخارج المسيطرة داخل هذه المجتمعات، وهذه الهيمنة أفرزت طرقا للاحتجاج بديلة من أجل التعبير عن نفسها، ومن بينها إحراق الذات كمظهر جديد من الاحتجاج الفردي ضد استبداد الأنظمة، وهي الخطوة التي أقدم عليها محمد البوعزيزي في تونس بعدما وجد جميع الأبواب الأخرى للاحتجاج مقفولة في وجهه، لتنطلق على إثر هذا الحدث ثورة الكرامة التي عمت كل أرجاء البلاد، كما بدأت تنتشر هذه الممارسة الاحتجاجية كتصعيد ضد الأنظمة الهيمنية التبعية، حيث عرفت كل من الجزائر ومصر وموريتانيا حالات مماثلة، وهذه الممارسة الاحتجاجية الفردية تؤكد لنا عفوية الثورة في تونس، والتي يمكن تسميتها بالعصيان المدني، نظرا لغياب أي تنظيم سياسي منظم وراء اندلاعها، ويوجهها صوب هدف محدد بناء على مشروع سياسي متكامل، صحيح قد يبدو عامل الصدفة في هذه الحالة حاضر بقوة. إلا أنه يكشف ضرورة وقوع الحدث والمتمثل في استبداد الأنظمة التبعية، الشيء الذي يتطلب تحريرها أولا من التبعية للغرب الناتجة عن سببين موضوعيين هما: أولا:كون البنية السياسية للأنظمة العربية ناجمة عن التجزيء الاستعماري للمنطقة، وثانيا: أن تطورها السياسي ومبرر وجودها هو لعب دور الوساطة في العلاقة التبعية، إضافة إلى ضعف المعارضة السياسية التي تتوفر على مشروع ديمقراطي متكامل وبديل يمكن لها أن تحرر هذه المجتمعات، وهذا يجد مبرره في هيمنة الإيديولوجية الرسمية على باقي الإيديولوجيات المعارضة في الحقل السياسي معتمدة في ذلك على كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة التي تصل إلى درجة قمع واجتثاث المعارضة الحاملة لمشروع سياسي ديمقراطي باعتبارها المهدد الحقيقي لهذه الأنظمة في حالة تمكنت من تعبئة الجماهير حول أطروحتها السياسية، الأمر الذي يفتح المجال للفكر السياسي المعارض الذي أنتجته الأصولية في هذه المجتمعات، والذي لا يخرج عن إطار استهداف السلطة بمرجعيات شمولية تعبوية، لا تعكس موضوعيا سوى الاستبداد السياسي القائم، ويعود هذا لوجود أرضية قائمة على مرجعيات مستبدة في هذه الأنظمة، يقومون بعكسها وقلبها ضد الحكام، الشيء الذي ينتج عنه الإرهاب في غالب الحالات، وهو خطر أصبح يهدد المنطقة العربية برمتها، ولا يمكن استبعاد دخول هذه الحركات الأصولية اليوم على الخط في تونس، مما سيجعلها شبيهة بالعراق وأفغانستان، حيث هذا الأمر سيدفع بالأنظمة الإمبريالية للتدخل تحت غطاء الحماية الدولية من أجل حماية مصالحها في المنطقة، مما سينجم عنه إعادة إنتاج نفس النظام السابق، خصوصا وأن هذه الأنظمة تبرأت من النظام التونسي الذي خدمها لسنين، وجعلته هو الوحيد المسؤول عن تهميش وتفقير الشعب التونسي، كما أنها رفضت استقبال الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، لتعلن في المقابل تضامنها مع الشعب، وذلك ليس حبا فيه، ولكن من أجل الحفاظ على مصالحها الاستغلالية، وتوجيه الأحداث في اتجاه تعميق هيمنتها الاستغلالية. ويجب التأكيد هنا على أن الأنظمة التبعية هي صمام الأمان للأنظمة الإمبريالية، حيث تلعب بالنسبة لها دور الطبقة الوسطى، لأنها تدفعها للاستثمار في مجالات التوزيع والمضاربة العقارية، وهي المجالات التي تستثمر فيها الفئة الوسطى في الدول الليبرالية، وبذلك يتم إبعادها عن الاستثمار في البنية التحتية، أي في التصنيع و الإنتاج والتكنولوجية، التي تبقى مجالات محتكرة بالنسبة للإمبريالية، وهذه السياسة توفر للإمبريالية أسواق واسعة لترويج سلعها، وللتخفيف من حدة تناقضاتها التي بدأت تظهر واضحة تحجبها بتزايد سياستها النفاقية، حيث كلما اشتد التناقض بين علاقات الإنتاج داخل البنية الاقتصادية، إلا وازدادت إيديولوجية البرجوازية كذبا وأصبحت مشبعة بالنفاق. وبناء على هذه السياسة التبعية يجب تحليل الصراع الدولي اليوم، أمام تزايد إرادة الشعوب التي لا تقهر لتحرير أنظمتها، حيث أن الصراع بين هذه الأنظمة الإمبريالية وإيران وكوريا الشمالية التي خرجت من حصار التبعية، وبدأت في بناء اقتصادياتها للدخول كمنافس في السوق العالمية، لا يمكن إخراجه من هذا الإطار للصراع الدولي الجديد لأنها أصبحت تهددها اقتصاديا وبذلك ستتجه نحو بناء قطب جديد من أجل الخروج من النظام الدولي الكلاسيكي الذي يميزه أحادية القطب الإمبريالي، أما الخطر النووي كما تروج له الإمبريالية، ما هو إلا ذلك الغطاء الإيديولوجي الذي تخفي ورائه مصالحها، كي تظهر للعالم أن تخوفها مشروع ودافعها هو الحفاظ على الأمن الدولي، لكن في الحقيقة هي المهدد الأول للأمن الدولي، ألم تدفعها أهدافها النفعية للاستثمار في الصناعة الحربية، والبحث عن الربح، بعدما نجحت في خلق مجموعة من بؤر التوتر بين الأنظمة التبعية، ومن بينها قضية الصحراء المغربية في المغرب العربي. ولكل هذا هل الإشكال في الدول التبعية يتعلق بالحرية والديمقراطية، أم بالبنية الاقتصادية؟ باعتبار أن الخطاب الديمقراطي الليبرالي الجديد الذي تروج له الإمبريالية اليوم سوى استمرار لسياستها الهيمنة على الأنظمة التبعية، لأن منطق الحسابات العقلانية يؤكد أنه لا يمكن للأنظمة التبعية أن تحقق التحرر من الهيمنة، وتندمج في الرأسمال العالمي، وتصبح أنظمة ديمقراطية، وتظل في نفس الوقت تلعب دور الوساطة في الهيمنة التبعية، لأن الديمقراطية تفرض على الحكام الخضوع للضغوط الداخلية أثناء اتخاذهم للقرارات السياسية والاقتصادية، عكس التبعية تمام التي تفرض عليهم الخضوع للضغوط الخارجية، ومن يقول عكس هذا فإنه يعوم في الخيال ويضع المتناقضات في سلة واحدة، ويجعلها تتعايش في التحليل لكن في الواقع تتناحر، حيث لا يمكن أن يكون هناك نظام تبعي وديمقراطي في نفس الوقت. ودور الوساطة في النظام التبعي يعني استقلال الحكام عن الشعب، الذي يعبر عنه الرضوخ للتوجيهات الخارجية المملاة من طرف المؤسسات المالية الدولية، باعتبارها راعي مصالح الإمبريالية في العالم، وهذا من بين أهم الأسباب لاندلاع الثورة في تونس، لأن الشعب أراد الحكام أن يخضعوا له وليس للخارج، وحتى هذا التوتر غير بعيد عن الجزائر و مصر وليبيا، وإذا كان المغرب اليوم بعيد عن هذا القلق وينعم باستقرار نسبي الناتج عن سببين رأسيين هما نجاح النظام في جعل إيديولوجيته الرسمية هي المهيمنة حيث يقوم ببثها من جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ويجعلها تتبع الشعب أين ما رحل وارتحل وكذلك نجاحه في سياسته النخبوية والقمعية في ثلاث محطات مهمة وهي: الأولى بعد الاستقلال السياسي مباشرة تمكن فيها النظام من مواجهة حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وذلك بالتوظيف الواسع في صفوف نخبة الحركة الوطنية وجيش التحرير معتمد في ذلك على الترغيب تارة والقمع تارة أخرى لخدمة أهدافه السياسية، والثانية عندما تمكنا من الوصول إلى التوافق مع المعارضة الوطنية بعد صراع طويل دام لسنوات والذي توج بحكومة التناوب من أجل إحلال السلم الاجتماعي وتهيئ الظروف المناسبة لانتقال الحكم، والثالثة عندما قام بإدماج حزب العدالة والتنمية بنجاح للتخفيف من خطر الأصولية. ونجاحه في هذه المحطات راجع كذلك إلا ضعف الفئة المثقفة آنذاك كما وكيفا، أما اليوم فهذه الفئة قد توسعت بشكل كبير بسبب استثمار الفئة الوسطى في تثقيف أبنائها، الشيء الذي نتج عنه ارتفاع أساليب الرفض التي ستخلق للنظام مستقبلا توترات متعددة، ولتفادي هذه التوترات يجب على النظام أن يستجيب لها، ولا يقوم بإحباطها، لأنها أصبحت ملموسة وصامتة ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، لأن السلم الاجتماعي الحالي هش، وغير قائم على تغير بنيوي، بل فرض بالسياسة القهرية والهيمنية والنخبوية. ليبقى السؤال حول الفئة القادرة اليوم على تحرير الأنظمة التبعية من الهيمنة حاضرا بقوة، أمام ارتفاع نسبة التوترات في هذه المجتمعات، وأمام غياب برجوازية وطنية حاملة لمشروع بديل تقف في وجه الكمبرادورات المسيطرة على الاقتصاد الوطني، والتي وجهته نحو الاستهلاكي، الأمر الذي يجعلها منخرطة في اللعبة الهيمنية، نظرا لاستفادتها من اقتصاد الريع الذي تدور معظم علاقاته خارج نطاق القانون. ليبقى دور حمل مشعل التحرر موكول للفئة المثقفة التي توسعت بشكل كبير، وبناء على ما راكمته من مستوى ثقافي، الذي برز عنه مجتمع مدني جنيني، يصعب إدماجه كاملا من طرف النظام بسياسته النخبوية، وهذا ما جعل الأنظمة الامبريالية تدفع في اتجاه دمقرطة اللعبة السياسية في الأنظمة التبعية، التي لا تمنحها حق التقرير في مصيرها، وذلك بتوجهها صوب الحفاظ على مصالح الامبريالية واستمرارها، وللوقوف على أهداف هذه السياسة الاستغلالية، يجب تحليل الوقائع والأحداث في إطار تفاعلها مع البيئة التي تنموا فيها، وليس بعزلها عنها، والدفع بهذه الأحداث من طرف المثقف العضوي في اتجاه التحرر، وليس العكس، حيث الموقع الطبيعي للمثقف العضوي هو المجتمع المدني، وليس خدمة النظام التبعي، وبناء على هذا عملت الهيمنة على تطوير ممارساتها، التي أصبحت تتجه في منحى كبح إرادة المجتمع المدني داخل المجتمعات التبعية من خلال تطوير علاقة الرأسمالية العالمية بالمثقف، ومن ثم بالمجتمع المدني وخصوصا النسيج الجمعوي، من أجل البحث عن وسيط أخر خارج الدولة، ويلعب هنا الحافز المادي والطموح السياسي لغالبية العاملين في هذا الحقل الدافع الأساسي، وهي علاقات تتستر في الإنساني و الأخلاقي، لتستمر الهيمنة في خدمة الإنتاج داخل الدول المركزية، والاستهلاك المهيمن على المجتمعات التبعية، وتظهر هذه السياسة نفعية، تتستر في غلاف الإنسانية، حيث تقوم على صرف قسط من المال المأخوذ من السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، وهذا الدور يجعل المثقف العضوي يعيق التحرر و الخروج من التبعية، ومن ثم يخدم ضد الديمقراطية، وينسى مكانه في الجهة الأخرى أي في المجتمع المدني. وليس القصد هنا بالمجتمع المدني هو النسيج الجمعوي الذي يسيطر عليه الفاعل السياسي الرسمي في النظام، بل هو مجموع قيم الحرية، وتوفير الخيرات، والتعددية الثقافية، وأشكال ممارستها في شكل تنظيمات نابعة من المجتمع، والتي تقوي في شمولياتها الوعي بالحرية، وهنا المجتمع المدني نقيض للمجتمع السياسي، الأمر الذي يجعله يدفع في اتجاه محاربة الاستبداد والتبعية، ويعمق الوعي بالحرية والديمقراطية، وقد ذهب المجتمع المدني في تونس، إلى درجات التصعيد ضد مخلفات النظام المستبد، الأمر الذي نتج عنه إسقاط الحكومة الانتقالية المفبركة، والتي كانت تتجه نحو إعادة نفس النظام السابق، نظرا للتناقضات الخطيرة الناجمة عن تراكم الهيمنة والاستغلال الخارجي، وارتباط الرأسمال المحلي بالرأسمال العالمي ارتباط بنيوي، الشيء الذي يصعب معه الخروج من دائرة الهيمنة، ويترك لهذه الأنظمة سوى حل واحد هو احتكار السلطة، ووضعها في خانة المقدس الشمولي. لكن الحال يكمن وخصوصا في المغرب، الذي يجب فيه الرفع من مستوى الحزب السياسي للمؤسسة السياسية المميزة للنظام الديمقراطي، وإخراجه من مستوى المؤسسة الإيديولوجية المميزة لنظام الحزب الواحد، حيث لا يمكن بلوغ الديمقراطية سياسيا و اقتصاديا ما لم تنعكس هذه المعادلة، التي تجعل الملك يسود ولا يحكم كما هو متعارف عليه كونيا. ولتحقيق هذا يجب الوعي أن مسيرة المجتمع المدني ومسيرة التحرر من الهيمنة مسيرة مشتركة، لقطع الطريق أمام تطور الهيمنة التبعية، بناء على ما راكمته الفئة المثقفة من نمو سياسي وثقافي و اقتصادي، يجعلها الفئة الإستراتيجية لكل الشعب، وليس للفئات الوسطى فقط، من أجل قيادة تحرك اجتماعي قوي، يدفع في اتجاه سياسة توازن البنيات الاجتماعية، وتكسير علاقة الإنتاج التبعية، التي تعيق هذه الفئة من لعب دورها التاريخي، وذلك بإيجاد بديل ديمقراطي يراعي مصالح الفئات الوسطى والدنيا، والدفع بالرأسمال الوطني الكبير للاستثمار في البنية التحتية أي في التصنيع والإنتاج، من أجل الدخول في الرأسمال العالمي، والخروج من منطقة التبعية. والتحرر من التبعية اليوم الناتج عنها التأخر والتقهقر، أصبحت فريضة وجودية للدخول في زمن الديمقراطية، وعدم النجاح في هذا المسعى يعني السقوط والتفكك، حيث لم تعد الأنظمة التبعية اليوم أما اختيارات متعددة، بل أمام خيارين لا ثالث لهما إما التحرر من الهيمنة الأجنبية وبناء أنظمة ديمقراطية أو التفكك و الاندثار، أمام ارتفاع وعي الجماهير التي أصبحت واعية بمصالحها، ومدركة بما يحدق بأوطانها من دون مستقبل يراعي مصالح كل الفئات الاجتماعية، ومؤسس على مشروع مجتمعي متكامل، اقتصاد وطني معافى يستثمر في البنية التحتية، ولعبة سياسية ديمقراطية شعبية تسمح بالتداول الفعلي على السلطة النابعة من صناديق الاقتراع، ومجتمع مدني قوي وفعال، يمكن له ممارسة الضغط على الحكام، بناء على منطق المحاسبة السياسية والجنائية. كما أن الوحدة العربية أصبحت ضرورة ملحة تفرضها المصلحة الاقتصادية المشتركة، وليس مصدر هذه الضرورة هو الاشتراك في اللغة والقيم الثقافية والموروث التاريخ المشترك فحسب، ولنجاح هذا المسعى يجب العمل على الحد من بروز الحركات الانفصالية، أو مشاريع فيدرالية، لأن زحف العولمة يهدد الجميع، وبالتكتل يمكن الحد من أثارها السلبية، ومن ثم يمكن الدخول بالأمة العربية كقوة اقتصادية وسياسية إلى من منطقة المنافسة، والخروج بها من منطقة التبعية. (٭) طالب باحث متخصص في العلوم السياسية