ما تعليقكم على الثورة التونسية؟ هل هي بداية تحول في التركيبة الاجتماعية للمجتمعات العربية أم أنها سحابة عابرة متوقفة على تونس فقط؟ ما حصل في تونس يؤشر على أن الشعب التونسي يتميز بخصائص ومواصفات قد لا نجدها في كثير من الدول العربية: 1 إن المجتمع التونسي ومنذ حصوله على الاستقلال، نهج سياسة تعليمية عمومية متفتحة، استفادت منها شرائح واسعة من الساكنة التونسية أدت إلى إنتاج مجتمع قادر بأن يصنع التحول وبطرق حضارية، ويكون واعيا بما يسعى إليه عن طريق التحول المنشود. 2 يتميز المجتمع التونسي بتوفره على طبقة متوسطة واسعة ومتعلمة، شكلت استثناء بين مجتمعات العالم العربي. وهو ما ساعد بشكل كبير على ما حصل في تونس، واعتبر وعاء لتغيير التونسيين لأوضاعهم، وجعل من هذه الطبقة تقود الأحداث (الثورة)، في غياب نخب، كان من المفروض قيادة هذه الأحداث. وهذا مما جعل العديد من المتتبعين يلاحظون بأن غياب النخب عن قيادة وتأطير الثورة في تونس ، لم يكن له أدنى تأثير على قيام الثورة ومسارها. 3 المجتمع التونسي تميز بتوسيع مجاله الحضري، وهو ما ساعد على توفره على طبقة حضرية واسعة ومتعلمة ومنفتحة على قيم المجتمعات المتحضرة، الشيء الذي جعل كل الاحتجاجات والمظاهرات تقع في الأوساط الحضرية الواسعة والمتوسطة والصغيرة أيضا. 4 كما أنه في اعتقادي، أن أهم عامل ساعد على التحولات الراهنة التي عرفتها تونس، هو تجدر البنية الثقافية للقيم الإصلاحية منذ ابن خلدون الذي كان يرى بأن العقل العربي مؤهل بحق للريادة في الفكر وصناعة التغيير. 5 وتجدر الاشاره هنا أيضا إلى مسألة أساسية، انتبه إليها بعض علماء الاجتماع في تونس، وتتمثل في '' قضية مصالحة الشعب التونسي مع هويته العربية والإسلامية ، التي عمل نظام بورقيبة ونظام بنعلي من بعده على طمسها. كل هذا يدل على أن تونس من خلال ثورتها الأخيرة، تسعى إلى تدشين تحولات جوهرية في التركيبة الاجتماعية للمجتمع التونسي، والعمل على وضع أسس لنظام سياسي واجتماعي مفصول عن النظامين اللذين عرفتهما تونس على عهد الرئيس الراحل بورقيبة والرئيس بنعلي المخلوع. كما أنه من الصعب التوقع بأن التحولات التي تعرفها تونس اليوم سيكون لها تأثير كبير على باقي المجتمعات العربية، على الرغم من تشابه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعلى الرغم أيضا مما شاهدناه من أحداث ومظاهرات هنا وهناك، وبصفة خاصة في مصر والأردن واليمن والجزائر. لاحظ الجميع أن أسباب ما وقع في تونس، راجع بالأساس إلى منطق الاستئصال الذي اعتمده النظام التونسي. في رأيك ما هي التبعات الاجتماعية لهذا المنطق في باقي الدول؟ ما ميز فترة حكم الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بنعلي هو ازدواجية خطابه تجاه التيارات الفكرية والاتجاهات الاديولوجية في تونس، منذ تنحيه للرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وتعارض أقواله وتصريحاته مع أفعاله. ويكفي الرجوع إلى بعض الفقرات المقتطفة من بعض خطبه وتصريحاته، ليتبين لنا مدى التناقض ما بين ما كان يصرح به وما كان يفعله نظامه البوليسي ضد كل شرائح المعارضة في تونس. وبالرجوع إلى كتاب جلول الجريبي '' الهوية في تونس للعهد الجديد''( 1992)، سنقف على هذا التعارض فيما بين القول والفعل. على سبيل المثال: في الصفحة 19 من هذا الكتاب، يقول بنعلي:''لقد كان أول ما بادرنا به بعد 7 نوفمبر رد الاعتبار إلى الدين الإسلامي في هذه البلاد، إيمانا منا أن ديننا الحنيف قوام حضارتنا وركن أساسي في مجتمعنا''. ويضيف في الصفحة 39 '' لقد أعدنا للدين اعتباره، وعملنا على رعايته ورفع منارته وإحياء شعائره وإتباع تعاليمه''. وفي مكان آخر يقول بنعلي: إن حرصنا على التمسك بذاتيتنا الإسلامية العربية، هو منطلق تعلقنا بالأبعاد المكملة لشخصيتنا الوطنية''... الخ من التصريحات التي تصب في نفس الاتجاه. فأين نحن من هذه التصريحات وما كانت تعرفه تونس من خنق للحريات وطرد للنخب المعارضة ومحاربة لكل الحركات المناهضة، إسلامية كانت أو غيرها من الحركات القومية والتقدمية الأخرى. إن مصادرة الحريات والقمع المبالغ فيه والاستئثار بالسلطة، وإطلاق أيادي المفسدين والإنتهازيين لتعيث فسادا في المال والعباد، والاستيلاء على كل القطاعات المنتجة للثروات في تونس، مع انتشار الوعي بين المواطنين وتضايقهم من استبداد وطغيان نظام زين العابدين بنعلي، هي العوامل الرئيسية التي عجلت برحيله وبانفجار الوضع في تونس، وتدشين مرحلة التحولات التي يعرفها هذا البلد المغاربي بعد 14 يناير .2011 إن التجربة التونسية الراهنة غير قابلة للاستنساخ، وتأثيرها لن يكون بتلك القوة التي يراها البعض. وربما سيستفيد منها الحكام العرب الآخرون أكثر مما ستستفيد منها الشعوب. وقد بدأنا نلاحظ نتائج استعداد هؤلاء الحكام في التعامل مع المظاهرات والإعتصامات والاحتجاجات التي تظهر في هذا البلد أو ذاك من البلدان العربية التي يسود فيها الاحتقان الاجتماعي والمطالبات بتغيير الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية. لقد طغى بعد الأيام الأولى ل''ثورة الياسمين'' هاجس العدوى، التي تحركها تلك النزعة الانفعالية عند الشعوب العربية، وخاصة عند فئات الشباب، والتي تسير في اتجاه '' لماذا لا نحن؟ وحتى نحن قادرون على فعل نفس الشيء''. لكن كل المؤشرات الموضوعية الدالة على تغيير الأوضاع في البلدان العربية الأخرى لا تبدو متوفرة في الوقت الراهن، على الأقل. البعض فسر هذه الثورة في تونس بما عاشته البلاد من ثورة إعلامية، وتعاطي الشباب بالخصوص مع هذه الثورة. إلى أي حد يمكن اعتبار هذا الرأي صائبا؟ لا يمكن استبعاد ما تقوم به وسائل الاتصال الحديثة والمواقع الاجتماعية على الانترنت من أدوار فاعلة في نشر الوعي والانفتاح على قيم حضارية وتجارب قد يستفيد منها الإنسان أينما كان. لكن فعالية هذه الوسائل لا يمكن أن تكون ذات فعالية قوية إلا داخل مجتمعات يتمتع سكانها بدرجة عالية من الثقافة والوعي، والمستوى التعليمي، القادر على فرز الخطابات المتداولة عبرها. وهذه الأمور كانت متوفرة بين التونسيين. فعلينا أن نعرف بأن نسبة الولوج إلى الأنترنت في تونس تعادل، أو تفوق نسبيا مثيلتها في مصر، مع وجود الفارق. لكن نسبة الولوج إلى الأنترنت لا تكون ذات دلالة وذات فعالية إلا مع المحتوى الذي يرمي ويهدف إلى نشر قيم التغيير، ويسعى إلى رفع مستوى الفهم الحقيقي لأوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها. أما إذا كان المحتوى يعتمد على تضخيم الضحالة وتعميق البلادة، فلا يمكن لهذه الوسائل أن تلعب دورا في التغير. وهو ما لم يحدث في تونس، حيث إن وسائل الاتصال الحديثة حسب كل المتتبعين قامت بتسريع وتيرة التحول في تونس، هذا التحول الذي كانت إرهاصاته موجودة في هذا البلد. فقط، كانت هذه التحولات أو الثورة، تنتظر تلك الإشارة التي تعلن عن بداية الإنطلاق. وهو ما حصل مع إشعال محمد البوعزيزي النار في جسده. وتظهر قوة الإعلام في التغيير من خلال ما تقوم به الأنظمة الاستبدادية من التضييق عليها ومصادرة المنابر الكثيرة الانتشار، والأقلام المؤثرة في الرأي العام. ولو لم يكن الإعلام بدون فعالية ما كنا لنرى هذا الجدل الذي لم ينته بعد، حول حرية التعبير، واحترام الرأي المخالف. إن الأنظمة الاستبدادية لا تؤمن إلا بالرأي الواحد الذي يصدر عن أجهزتها، لهذا تعمل على منع كل المصادر الأخرى للرأي والفكر، لأن لها خوف مرضي مما يمكن أن يساهم به الإعلام من تنوير وانفتاح ونشر للوعي واستجلاء للحقائق. هل تعتقد أن التغيير في العالم العربي سيكون سلميا ؟ لا بد في هذا الصدد من التفريق بين مفهوم التحول ومفهوم التغير. فالتحول عادة ما يكون هو ذلك الانتقال الهادئ من حالة إلى أخرى، وفي الغالب، لا تظهر الصورة المتحولة إلا بعد اكتمالها. وللتحول في المجتمع آلياته ودينامياته الداخلية، أحيانا تكون سريعة، وأحيانا أخرى تكون بطيئة. والتحول الاجتماعي، يمكن أن يكون جزئيا كما يمكن أن يكون شاملا. أما التغير الاجتماعي، فإن علماء الاجتماع المهتمين بقضايا التغير والتغيير في المجتمعات فيجمعون على أن له عوامله وقوته الدافعة، ومساراته وطبيعته وغاياته التي ينشدها. كما يرى آخرون أن حركات التغيير في المجتمع، تسعى سعيا حثيثا إلى تحقيق المثال الذي ينبغي أن يكون عليه المجتمع المنشود. فهل نشاهد هذه القوة الدافعة للتغيير في المجتمعات العربية؟ وهل هذه العوامل متوفرة فيها؟ وفي الوقت الذي كان ''إميل دوركايم'' يرى أن التغيير كان دائما بين نماذج بنائية ثابتة. أحدهما يشخص حالة مجتمعات ما قبل الصناعة بينما يجسد الآخر تفاعلات ما بعدها. وفي رأيه، فإن قوة التغيير تكمن في التناقض بين زيادة السكان ومحدودية الموارد، فإن ''ماكس فيبركان'' يرى بأن هناك مجتمعات استطاعت التغير والانطلاق من الإطار التقليدي إلى الإطار الرأسمالي الحديث، وأن القوة الدافعة لهذا التغيير، تكمن في ظهور البروقراطية وفاعلية قيم الديانة البروتستانتية. وعلى خلاف دوركايم وماكس فيبر، فإن ''ويل فريدو باريتو''، أوكل دور التغيير إلى النخب في المجتمع. وعندما نتأمل في واقع مجتمعات العالم العربي، نستطيع أن نجزم بأن دور النخب فيها، سواء منها النخب السياسية أو المثقفين أو النخب النقابية، تكاد تكون غائبة عن الساحة، ومنها من يلعب لعبة المتواطئ. وكلها تراهن على الانتقال الديمقراطي السلس، وغير مستعدين'' للمغامرة''، والاكتفاء بما يمكن أن تضمنه الأنظمة القائمة من فتح مجالات أوسع للتعبير الحر وتعدد التنظيمات، وخلق نخب جديدة لتدبير المراحل القادمة، والطموح إلى تغييب رموز الفساد في المجتمع. والتغيير في المجتمعات العربية محاصر. ذلك أن العديد من الدارسين والمهتمين من بين علماء الاجتماع والاقتصاد، يشهدون بأن المجتمعات العربية تعيش حالة حصار، وذلك بفعل هيمنة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وبفعل التبعية لهذا الاقتصاد، وبفعل '' الانتقال الرأسمالي الخاطئ''، حسب تعبير أستاذ الاقتصاد المغربي، حبيب المالكي. هذا دون أن نستبعد الهيمنة الثقافية ، أو ما يصطلح عليه بعوامل الاستلاب، واستقواء اللغات والثفافات الغربية على اللغات والثقافات المحلية، ودعم الأولى على الثانية من لدن الأنظمة المحلية، ولو بأساليب مقنعة. هل يمكن أن نراهن عليه في فرض التغيير في المستقبل في باقي الأقطار العربية؟ ما يمكن أن نراهن عليه، في رأيي هو العمل على الحد من انتشار الأمية والجهل بين المواطنين في كل المجتمعات العربية، والعمل، ليس فقط على تقليص الفوارق لاجتماعية، ولكن، القضاء على هذه الفوارق، والقطع مع اقتصاد الريع والامتيازات الجزافية، وحث الناس على حب العمل والإنتاج، ومصالحة الناس مع هوياتهم اللغوية والدينية والوطنية. هذا هو التغيير الحقيقي المنشود، الذي يحفظ للناس كرامتهم، ويفسح أمامهم الفرص للتعبير الحر وإبداء الرأي بدون خوف ولا وجل حول مشاريع المجتمعات التي يحبون العيش فيها. التغيير الحقيقي هو عندما يعود المواطن يخاف على مجتمعه أكثر من خوفه على مصالحه. التغيير الحقيقي هو الذي يكون هادئا وسلميا، وليس ذلك الذي يتم بالتقتيل والعنف وسلب وسرقة الممتلكات العامة والخاصة. الأكيد، أن التحولات الاجتماعية الكبيرة التي بدأت تعرفها المجتمعات العربية سيكون لها الوقع الكبير في فرض التغيير في هذه المجتمعات مستقبلا. كيف تقيمون أولا هذه التحولات؟ وما موقع القيم من هذه التحولات؟ التحولات الملاحظة في المجتمعات العربية لا تمس جوهر الحكم، ولا الأنظمة. ما يلاحظ هي تلك التحولات التي حتما ستتم تبعا للديناميات التي تعرفها الحياة. توسع في المجالات الحضرية، وفي غالب الأحيان، عشوائيا، ارتفاع عدد السكان، نعم ، بعض التغيرات التي تهم العلاقات والسلوكيات ووسائل التخاطب والاتصال، أيضا نعم. لكن جوهر التركيبات الاجتماعية والسياسية في الدول العربية بقيت على حالها. إن سلطة التغيير وإرادته لا توجد داخليا. فهيمنة القوى الاستعمارية لا زالت حاضرة، وتكشف عن وجهها كلما كانت هناك أسباب لإظهار هذا الوجه. وسيطرة الدول العظمى لا يمكن أن ينكرها أحد، وهي غير مستعدة للتفريط في مصالحها بالدول العربية. لا يشك أحد في أن كل الأنظمة العربية تم اختراقها اقتصاديا وإيديولوجيا واستخباراتيا. وهي بذلك لم تعد سيدة قراراتها وتوجهاتها. لهذا ، فالحلم بالتغيير الجذري النابع من الشعوب والمعبر عن إرادتها لا يبدو في الأفق القريب. إن القيم الأخلاقية والدينية لهذه المجتمعات تتعرض يوميا للانتهاك واللغات المحلية تتعرض لكل المضايقات الممكنة، والهويات الوطنية تواجه طمسا في كل حين. لا يمكن أخذ هذه النظرة على أنها مغالاة في التشاؤم، ولكن، هي رؤيا متواضعة لما هي عليه المجتمعات العربية في الوقت الراهن. كما لا يمكن استبعاد الدور الإسرائيلي من هذه الصورة. فقد أصبح من البديهي القول، بأن استقرار هذا الكيان وأمنه وتوسعه، يكمن في استمرار الفوضى والاضطراب والفتن والاستبداد بمحيطه العربي، وحتى الإسلامي.