إنها أول دماء مصرية تسيل في شوارع القاهرة ما بعد الثورة على نظام الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، في يناير الماضي. «أحداث ماسبيرو» اعتبرها عدد من المراقبين شبحا مخيفا يهدد مستقبل الديمقراطية في مصر متعددة الطوائف والأديان. قبل أشهر كان المصريون، مسلمون وأقباط، صفا واحدا رافعين شعار الحرية والكرامة والاستقلال والعدالة في ميدان التحرير، وقبل أسابيع قليلة قاموا بانتفاضة حطموا فيها أسوار السفارة الإسرائيلية في القاهرة وكأنهم يعلنون شعبيا عن قفزة نوعية في السياسة الخارجية المصرية، لكنهم اليوم يقفون ليواجهوا بعضهم البعض مما أسفر عن مقتل 25 شخصا، وإصابة قرابة 194 آخرين في 9 أكتوبر 2011 بالقاهرة فيما أطلق عليه اسم «أحداث ماسبيرو». انطلقت مظاهرة «ماسبيرو» من شبرا، أحد أحياء القاهرة ذو الكثافة المسيحية، وتوجهت نحو مقر الإذاعة والتلفزيون المصري الواقع في منطقة ماسبيرو بالقرب من ميدان التحرير الذي احتضن ثورة 25 يناير، وذلك للمطالبة بإقالة محافظ أسوان والرد على هدم بناء يعتقد أنه كنيسة في المدينة. قائمة مطالب المتظاهرين، ضمت أيضا التحقيق مع مدير أمن أسوان، والقبض على المعتدين على الكنيسة، وسرعة إصدار قانوني دور العبادة الموحد ومنع التمييز. كيف أهرقت الدماء؟ توجد روايتان متناقضتان لما جرى أمام مقر الإذاعة والتلفزيون. رواية الإعلام المصري الرسمي التي تتهم المتظاهرين بقتل رجال الأمن، وتؤكد على كون الأقباط تعدوا على قوات من الجيش ورجال الشرطة العسكرية «بالسيوف والخناجر والأسلحة النارية» مما أدى إلى مقتل ثلاثة من رجال الجيش بطلقات نارية. أما الرواية الثانية للمشاركين في التظاهرة، ومعهم وسائل إعلام مستقلة، تقول إن المحتجين كانوا يسيرون سلميا، وحين بدأت الوقفة أمام ماسبيرو قام الجيش بإطلاق النار في الهواء بقصد تفريق التظاهرة، وقالت وكالة «رويترز» إن «مركبات الجيش دهست المحتجين»، وهو ما أكدته الصور التي بثتها القنوات الفضائية، حيث إن غالبية الإصابات وقعت بسبب عمليات الدهس هذه. وسط الاحتكاكات، بدأت مدرعات الجيش تتحرك وتحاول تفريق المتظاهرين، فحاول المتظاهرون التصدي لها، وهنا سقط أول قتيل تحت عجلات المدرعة، لتنطلق شرارة الغضب بين الجموع الغفيرة. حمل المتظاهرون القتيل وجابوا أنحاء المنطقة وبدؤوا في اقتحام الحاجز الأمني وإشعال النيران في 3 سيارات خاصة، وحافلة تابعة للقوات المسلحة والمدرعات العسكرية الموجودة في المنطقة، التي كانت تقف في منطقة التماس مع المتظاهرين. ازدادت الصدامات، وعندما بدأت قوات الجيش هجومها الضاري، رد المتظاهرون بالحجارة وقطع حديدية اقتلعوها من جسر 6 أكتوبر، فواصلت قوات الجيش والأمن التصدي للمتظاهرين، وخرجت معظم المدرعات لتفريقهم، وهو ما سبب سقوط العديد من القتلى والمصابين بين المتظاهرين الأقباط. أوروبا: على مصر احترام الأقليات الدينية أدان الاتحاد الأوروبي أحداث «ماسبيرو» مطالبا السلطات المصرية باحترام الأقليات الدينية. وأعرب كل من وزيري الخارجية البريطاني ويليام هيج ونظيره الألماني، جيدو فسترفيله، عن قلقهما البالغ إزاء أحداث العنف، ودعا هيج السلطات المعنية في مصر إلى ضرورة التأكيد على حرية العقيدة وأن تتراجع كل الأطراف عن ممارسة العنف. وشدد فسترفيله على أنه لا يجب السماح للعنف والخلافات الدينية بأن تعطل عملية التحول الديموقراطي في مصر، مشيرا إلى أن طريق الديموقراطية في مصر يمر أيضا عبر التسامح الديني وأن العنف ضد الأقلية المسيحية غير مقبول. ومن جانبه، دعا المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، برنار فاليرو، إلى تهدئة الأوضاع في مصر مشيدا بالتصريحات الصادرة عن السلطات السياسية والدينية في مصر والتي دعت إلى الحوار والحفاظ على الوحدة الوطنية. وقال المتحدث إن حرية العقيدة وأيضا حرية التظاهر السلمي من الحريات الأساسية التي يجب أن تحافظ عليها المرحلة الديمقراطية التي تشهدها مصر حاليا بدعم كامل من المجتمع الدولي. كما أعرب كل من وزيري الخارجية السويدي والهولندي عن قلقهما العميق من الأوضاع في مصر، وأشارا إلى ضرورة أن تتحمل السلطات المصرية مسؤولية حماية الجميع وحقوقهم في التعبير عن رأيهم بحرية. ودعت ايطاليا على لسان وزير خارجيتها، فرانكو فراتيني، إلى إدانة أوروبية لأحداث العنف ضد المسيحيين في مصر، معربا عن أمله في أن تكون استجابة الحكومة المصرية للأحداث أكثر حيوية من استجابتها خلال حكم الرئيس السابق حسني مبارك والتي كانت غير كافية، على حد قوله. قانون يجرم «التمييز» ولجنة تقصي الحقائق بعد سقوط 25 قتيلا من أجل هدم كنيسة، كشفت الحكومة الانتقالية في مصر عن عزمها إصدار قانون موحد يحدد إجراءات بناء دور العبادة، سواء المساجد أو الكنائس، كما يقنن أوضاع دور العبادة القائمة حاليا وغير المرخصة، بالإضافة إلى إدخال تعديل قانوني جديد يجرم أي عمل من شأنه «التمييز» بين المواطنين قد يترتب عليه «تكدير السلم العام». كما قرر مجلس الوزراء تشكيل لجنة لتقصى الحقائق حول الأحداث المأساوية التي وقعت، على أن تبدأ هذه اللجنة عملها فورا، لبحث أسباب وتداعيات الأحداث، وإعلان نتائج أعمالها في أسرع وقت، وكشف المسؤولين عنها وتحديد هوياتهم ومحاسبتهم. وكلف مجلس الوزراء لجنة تقصي الحقائق، التي تقرر تشكيلها برئاسة وزير العدل، المستشار محمد عبد العزيز الجندي، بشأن أحداث ماسبيرو، بتقصي حقيقة أحداث قرية «الماريناب»، التابعة لمركز «إدفو» بمحافظة أسوان، والاطلاع على تحقيقات النيابة العامة بشأن تلك الأحداث، وإعلان نتائج عملها. وفيما يتعلق بإضافة مادة جديدة إلى الباب ال11 من قانون العقوبات، بشأن «منع التمييز،» قرر المجلس بأن «يعاقب بالحبس وغرامة لا تقل عن 30 ألف جنيه ولا تتجاوز 50 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من قام بعمل أو بالامتناع عن عمل، يكون من شأنه إحداث التمييز بين الأفراد أو ضد طائفة من طوائف المجتمع، بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة وترتب على هذا التمييز إهدار لمبدأ تكافؤ الفرص، أو العدالة الاجتماعية، أو تكدير السلم العام». كما تقرر أن تكون «العقوبة بالحبس لمدة لا تقل عن 3 أشهر وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تتجاوز 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، إذا ارتكبت الجريمة المشار إليها بالتمييز، من موظف عام، أو مستخدم عمومي، أو أي إنسان مكلف بخدمة عمومية». خطر الانزلاق إلى صراع طائفي «إن الثورة المصرية في بدايتها جسدت تلاحما شعبيا بين المسلمين والمسيحيين معا للإطاحة بديكتاتورية نظام عانوا منه لسنين طويلة، ولكن ما حدث في موقعة ماسبيرو، بدا وكأنه تحول جذري وخطير ومفاجئ عما بدأت عليه هذه الثورة المدنية في مصر التي تواجه الآن خطر الصراع الطائفي»، يقول الكاتب السياسي ديفيد جاردنر، في مقاله في صحيفة «الفاينانشال تايمز» البريطانية. ورأى جاردنر أن أحداث ماسبيرو «لم تكن مجرد مواجهة أو احتجاجات طائفية معتادة، لأنها جاءت بعد ثورة مصرية وأمام الجيش المصري الذي كثيرا ما وصف نفسه بحامي الثورة، وكان يفتخر بأنه لم يطلق رصاصة واحدة في جسد أي مواطن مصري خلال الثورة». واعتبر الكاتب أن «موقعة ماسبيرو» هي خنجر في قلب الثورة في مصر ومطالبها بالانتقال نحو حياة سياسية ديمقراطية تديرها حكومة مدنية، مشددا على أن نجاح الثورة المصرية، أو أي انتفاضة عربية، سيعتمد في جزء كبير منه على الكيفية التي سيدار بها التوتر الديني والعرقي. وأشار الكاتب إلى أن الأقباط الذين يشكلون 10 في المائة من سكان مصر البالغ عددهم 85 مليون نسمة، لديهم عدد من التظلمات يجب على المجلس العسكري الحاكم في مصر أن يأخذها بعين الاعتبار. ولفت إلى أن مبارك كان يستمد قوته واحتكاره للسلطة من خلال تأجيج الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، حيث إنه كان يظهر، جزئيا، أنه درع المسيحيين أمام الغالبية المسلمة. القاهرة تحولت إلى حمص ومسراتة تحت عنوان «مصر: مهمة لم تكتمل»، خصصت صحيفة «الغارديان» البريطانية افتتاحيتها الرئيسية للتعليق على أحداث ماسبيرو. وقالت الصحيفة إن الثورتين في تونس ومصر أصبحتا مثالا يحتذى بالنسبة إلى حركة عرفت بالربيع العربي لسبب وجيه جدا وهو أنهما كانتا سلميتين وغير طائفيتين وديمقراطيتين. وواصلت الصحيفة قائلة إن الجيش في مصر انحاز إلى المعتصمين في ميدان التحرير الذين قاوموا سلسلة من الهجمات شنها بلطجية باللباس المدني أرسلهم النظام السابق الذي كان في طور الاحتضار. وأضافت «الغارديان» إن الجيش لم يطلق النار على مواطنيه آنذاك لكن ما يزعج بشدة في اضطرابات الأحد الماضي أن الخصائص التي ميزت الثورة المصرية وجعلتها ذات تأثير كبير وذات طابع سلمي بالنظر إلى النزاعات المسلحة في ليبيا واليمن وسورية لم تعد صحيحة. وتابعت قائلة إن القاهرة تحولت خلال مدة وجيزة من موجات العنف إلى مدينة تشبه حمص السورية عندما تجتاحها قوات الحرس الجمهوري التابعة لبشار الأسد أو مدينة بنغازي عندما تعرضت لهجمات كتائب الزعيم الليبي السابق، العقيد معمر القذافي. وقالت الغارديان إن المحتجين قرب مبنى التلفزيون المصري تعرضوا لإطلاق النار أو دهستهم عجلات العربات العسكرية، مضيفة أن مذيعي التلفزيون الرسمي استخدموا لغة طائفية بالقول إن «الأقباط قتلوا الجنود» ووصل بهم الأمر إلى دعوة المسلمين إلى الخروج إلى الشوارع لحمايتهم. وقالت الصحيفة إن الغضب انصب على المجلس العسكري الذي يفترض أن يشرف على نقل السلطة من نظام استبدادي إلى حكومة ديمقراطية منتخبة لكن ما يمكن أن يقوم به هو نقل مصر من شكل من أشكال حكم الطوارئ إلى شكل آخر. وأضافت الصحيفة أن رد الفعل العنيف تجاه مظاهرة مسيحية في مجملها لم يأت فجأة وإنما جاء في أعقاب الهجوم على المضربين الجامعيين في الإسكندرية والإعلان عن أن المدنيين سيحاكمون أمام المحاكم العسكرية والتجاذب الجاري بشأن قانون الانتخابات. وأشارت الصحيفة إلى أن الأقباط تعرضوا لمظالم حقيقية، مضيفة أنهم رغم احتضانهم للثورة فإن التمييز المؤسسي ضدهم لا يزال قائما. واختتمت «الغارديان» قائلة إنه في حال لجوء جنرالات المجلس العسكري إلى تكتيكات حسني مبارك، فإن مساءلتهم ستصبح ضرورية، مشيرة إلى أن الانتخابات لا يجب أن تؤجل كما أن مصر تحتاج إلى حكومة مدنية وعلى الجيش أن يعود إلى ثكناته. نقطة تحول في تاريخ مصر بعد الثورة من جهتها، اعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية أن أحداث ماسبيرو «الدامية» نقطة تحول في المسار الذي تتبناه البلاد بعد اندلاع الثورة، وقالت إن المصريين احتفلوا بالجيش قبل ثمانية أشهر باعتباره المنقذ الذي رفض استخدام القوة ضد المدنيين المطالبين برحيل الرئيس السابق، حسنى مبارك. وأشارت الصحيفة الأمريكية إلى أن الثقة في الجيش بدأت تتآكل بسبب تأخره المتكرر في تسليم السلطة لحكم مدني، لاسيما وأن الانتخابات الرئاسية لن تجرى قبل عامين من البرلمانية، المقرر أن تبدأ الشهر المقبل. ونقلت الصحيفة الأمريكية عن شادي الغزالي حرب، وهو ناشط قوله «القاهرة يوم الأحد كانت جزءا من سوريا، وهذا تهديد ليس فقط للأقباط وإنما لكل الشعب، فنحن رأينا ما يمكن أن يحدث إذا ما تظاهرنا ضد الجيش». ومن ناحية أخرى، قالت «نيويورك تايمز» في تقرير آخر لها إن وسائل التكنولوجيا الحديثة مثل ال«فايس بوك» و«تويتر» كشفت ما تجاهلته وسائل الإعلام الرسمية، فرغم أن رئيس الوزراء، عصام شرف، ألمح إلى أن هذه الأحداث العنيفة كانت جزءا من مخطط خارجي لإشعال فتيل التوترات الطائفية، إلا أن بعض شهود عيان نشروا على المواقع الاجتماعية أن الجيش استخدم القوة ضد المتظاهرين. واهتمت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية بدورها بآخر التطورات التي آلت إليها أحداث ماسبيرو، وقالت إن ما وقع هو أوضح إشارة حتى الآن إلى تحول المصريين عن القيادة العسكرية التي كانوا يشيدون بها على نطاق واسع ويعتبرونها المنقذ طيلة ثمانية أشهر مضت. ويقول كثير من المصريين إن الغضب زاد بسبب بطء وتيرة الإصلاحات والمشكلات الاقتصادية التي يمكن أن تؤدي إلى ثورة جديدة. وقالت الصحيفة إن هذه الاشتباكات اندلعت وسط انتقادات متزايدة تجاه القادة العسكريين، الذين استمروا في الاعتماد على سياسات مكروهة منذ عهد مبارك. وكان رد فعل كثير من المصريين مصحوبا بالفزع تجاه جدول زمني للانتخابات أعلن مؤخرا، ومن شأنه أن يؤجل الانتخابات الرئاسية حتى عام 2013. وقال وائل عباس، وهو ناشط معروف ومدون لل«واشنطن بوسط»: «ما حصل اليوم سيزيد بالتأكيد غضب الناس تجاه الجيش وغضب المسيحيين». وقال مرقص عزيز، 32 سنة، إن سيارة شرطة صدمت المتظاهرين فقتلت ستة منهم على الأقل، وأضاف «لقد أطلقوا علينا الرصاص ونحن غير مسلحين». وقالت الصحيفة إن المتظاهرين ردوا بحرق سيارات الشرطة باستخدام عبوات المولوتوف. ونقلت الصحيفة عن إيليجا زروان، وهو محلل بمجموعة الأزمات الدولية ويقيم بالقاهرة قوله «ما رأيته وسمعته كان جانبا لم أره في مصر من قبل، كانت هناك توترات طائفية تحت السطح، لكن شيئا خطيرا ينطلق الآن».