يتم تقديم أنسي الحاج، من خلال ديوانه «الوليمة» (1994)، كشاعر وفي للون كتابة تعتمد الجرأة في اقتحام اللغة وتلمس الحلم بحثاً عن جنة مفتقدة أو نار باهرة. شاعرٌ أراد العالم صديقاً، ظناً منه أن هذا العالم يركض وراءه، دون أن يفطن أنه لا يجر وراءه غير كيس كلماته الخفيف. في «الوليمة»، التي عدتُ إلى قراءتها، في الأيام الأولى من شهر رمضان، يعود أنسي الحاج إلى قرائه شاعر حب ووعي حاد ولا وعي مُشرع على شعرية جميلة للقراءة والإغراء. أنسي الحاج هو شاعر قصيدة النثر، التي عاشها بجسده ونزقه ورغبته، منذ كتابه الأول «لن»، الذي حاول التأسيس لقصيدة نثر عربية، إلى جانب أدونيس ومحمد الماغوط ويوسف الخال وآخرين، من خلال تجمع ومجلة «شعر». في «الوليمة»، يحضر النقاش بصدد قصيدة النثر، فنقرأ في «وفاء العصافير»: «جلستُ لأنظم فرأيت الأوزان عصافير تبكي في أقفاصها. أكان يمكن أن أترك العصفور حزيناً من أجل أن أزيّن بيتي ؟». في «الوليمة»، نلمس ذروة نزق مغامرة أنسي الحاج الشعرية وتصاعدها وتبلورها وشفافيتها، حيث نكون مع قصائد تحمل الكثير من مواصفات تجربة حارقة ومحروقة، تأكدت مع «الرأس المقطوع» و»ماضي الأيام الآتية» و»ماذا فعلت بالذهب ماذا فعلت بالوردة ؟» و»كلمات كلمات» و»خواتم»، وغيرها من الكتابات: هو شاعر هاوية محدق إلى سماء يبصرها ملء عينيه. شاعر جمال الشر وفتنة النغمة، الناقم بحكمة، الساخط حبّا والمتأمل بِرقة، والمفتون بالصباحات الأولى. في «الوليمة»، لم يحتمل أنسي الحاج صمته الطويل أمام مشهد الحريق اللبناني، فلخص للألم، إذ يلبس رداء القصيدة ورهبة الشعر، قائلا: «إرهابنا تحقق ضدنا. الذين هم يجب أن يقتلوا، سرقوا منا المفتاح وقتلوا. وبعدما زيفوا الخلق، ها قد زيفوا القتل». تتحول الحيرة إلى أسئلة، سبيلا للتخفيف من مرارة الواقع أو لتوزيع نيران الغضب، بصدد ما حدث فيقول: «أأنت وطني أم وطني غربتي ؟ أأنت وطني أم لا وطن لي يا إلهي غير قصيدة خارج الشعر وامرأة في ضباب رأسي ؟» في «الوليمة»، يجتمع مشهد الحريق اللبناني بإصرار الشاعر على عدم التخلي عن حبه، حتى في أحلك الظروف والأوقات، غير أنه حب يمتزج بالوطن وحريقه الممتد في العين والذاكرة. يتعذب الشاعر في حبه، إذ تستبد به الحيرة ودوخة الحب وجبروت الحبيبة، فنقرأ في «كل الحياة»: «تحملين في ضحك عينيك استهتار البراءة وعتق البحر. ولين جسدك يجعلني، حين ألتقي قدري، أجمل من قدري». هي حالات شعرية تتوزعها صفحات «الوليمة»، بحيث يمكن تلخيصها في عبارة أو اثنتين، ومن ذلك، أن نقرأ : «تضحك لأني الأضعف أضعف لأنها تضحك». أنسي الحاج، شاعر عربي، حمل هم قصيدة النثر «العربية»، وهم لبنان. شاعرٌ، قال فيه الشاعر محمد الماغوط: «إن الشاعر أنسي الحاج طاقة إنسانية جبارة.. طاقة شعرية ونثرية وعاطفية.. ولولا خوفي من أمريكا لقلت طاقة نووية».