حسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمره، وشدّ الرحال إلى الأممالمتحدة لتقديم طلب الاعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من يونيو عام 1967، ومتحديا كل الضغوط والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية التي تطالبه بالتراجع عن هذه الخطوة، والعودة إلى طاولة المفاوضات مجددا. خطوة الرئيس عباس هذه مغامرة محفوفة بالمخاطر الشخصية والوطنية، فالذهاب إلى مجلس الأمن قد يعني عدم الحصول على الأصوات التسعة المؤيدة التي تتطلبها الإجراءات المتبعة لتحويل الطلب إلى الجمعية العامة؛ وحتى إذا حصل الطلب على هذه الأصوات فإن «الفيتو» الأمريكي جاهز؛ وهناك مخاوف عبّر عنها السيد رياض منصور، سفير فلسطين في الأممالمتحدة، مفادها أن أمريكا قد تلجأ إلى المماطلة والتسويف وتجميد الطلب في مجلس الأمن لأشهر عدة، بحجة الدراسة والتشاور. الاعتراف بدولة مراقبة أو كاملة العضوية، في حال الحصول عليه، سيكون انتصارا «معنويا» لن يغير أي شيء على أرض الواقع، رغم كل محاولات «تجميله» من قبل الآلة الإعلامية المرافقة للرئيس، ولكن في زمن الهزائم و»اللافعل» الفلسطيني الرسمي، تتضخم الانتصارات الصغيرة. الرئيس عباس ذهب إلى الأممالمتحدة للحصول على اعتراف بدولة وهمية، بلا أرض ولا حدود ولا سيادة، من منطلق اليأس، وليس من منطلق القوة، وبعد أن توصل إلى قناعة راسخة، بعد عشرين عاما من المفاوضات المهينة والمذلة، بأن الدولة الفلسطينية المستقلة، التي من المفترض أن تتوج اتفاقات أوسلو أو تأتي نتيجة لها، مستحيلة؛ ولذلك قرر، أي الرئيس عباس، أن يذكره التاريخ ولو بسطر واحد، أنه حقق هذه الدولة على الورق على الأقل، ليتقاعد بعدها من السلطة وهو مطمئن إلى تحقيق إنجاز ما. الشعب الفلسطيني فوجئ بهذه الخطوة، مثلما فوجئ بخطوات أخرى مثل اتفاقات أوسلو، فرئيس السلطة لم يتشاور مع أحد، فلم يعقد مجلسا وطنيا أو تشريعيا، ولا حتى مؤتمرا شكليا لمجموعة من الفعاليات والكفاءات الفلسطينية، تمثل مختلف المشارب والآراء والخبرات، ولا حتى مع طرفي المصالحة الفلسطينية التي وقعها في القاهرة. الرئيس قرر وعلى الشعب الطاعة والمساندة، وهذا أمر على درجة كبيرة من الخطورة لم يتوقف عنده إلا القليلون. يجادل المقربون من الرئيس بأن الذهاب إلى الأممالمتحدة أربك الإسرائيليين ووضع الرئيس الأمريكي وإدارته في موقف حرج، ولكنه أحرج أيضا الشعب الفلسطيني وبعض مثقفيه، بحيث بات تأييدهم أو معارضتهم لهذه الخطوة تحصيلَ حاصل، لا يقدم أو يؤخر في الأمر شيئا. تأييد القرار يعني تجاوز العديد من المخاطر المشروعة، مثل احتمالات التضحية بحق العودة، وإنهاء تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني في الوطن والمنفى، وحصر الحقوق الفلسطينية المشروعة في أقل من عشرين في المائة من أرض فلسطين التاريخية؛ فالقرارات الأمميةالجديدة تجبّ ما قبلها، أي أن القرار الجديد يلغي القديم، وهذه قاعدة قانونية معروفة، والاعتراف بدولة في حدود عام 1967 قد يلغي قرار التقسيم 181 ويفرغ قرار 194 حول حق العودة من مضمونه. وسيجادل الإسرائيليون، وما أبرعهم في الجدل، بأن هذا الحق بات محصورا في الدولة الفلسطينية في حدودها المقررة بقرار الجمعية العامة، وربما يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك، ويفرضون حق العودة إلى هذه الدولة على المواطنين العرب في فلسطينالمحتلة عام 1948. أما معارضة هذه الخطوة، فقد تفسر بأن صاحبها يعارض ما يسمى بالمشروع الوطني الفلسطيني، الذي يردده رجال السلطة وحواريوهم بكثرة هذه الأيام، ويقف في الخندق الإسرائيلي، ولا يريد وقوع الإدارة الأمريكية بأي حرج يتمثل في استخدامها حق النقض «الفيتو»، وهي اتهامات معيبة، علاوة على كونها مرفوضة وتعكس عقلية طابعها ابتزازي إقصائي صرف. نضحك على أنفسنا إذا قبلنا بالمنطق الذي يتسلح به المتبنون لهذه الخطوة، مثل القول إن الاعتراف بفلسطين كدولة عضو أو مراقب في الأممالمتحدة سيجعل الاحتلال أو العدوان الإسرائيلي احتلالا من قبل دولة لأخرى عضو في الأممالمتحدة، وسيمكّن الفلسطينيين من الانضمام إلى محكمة جرائم الحرب الدولية (إسرائيل لم توقع على ميثاقها) وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين بالتالي، فربما يكون هذا الطرح صحيحا على الصعيد النظري، ولكن لا قيمة له على أرض الواقع، فأمريكا احتلت العراق وأفغانستان، وإسرائيل اعتدت على لبنان، الدولة العضو، واحتلت أراضيها، مثلما احتلت أراض سورية ومصرية، وقتلت بالأمس ستة جنود مصريين. لدينا تقرير غولدستون الأممي الذي أكد ارتكاب الجيش الإسرائيلي جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة، ولدينا قرار محكمة العدل الدولية الذي اعتبر الجدار العنصري في الضفة الغربية غير قانوني، فماذا فعلت لنا الأممالمتحدة، وبماذا أفادتنا إدانة إسرائيل الدولية هذه؟ الرئيس محمود عباس يجتهد ويحاول أن يخوض حروبا سياسية ودبلوماسية، ويتحدى الأمريكيين والإسرائيليين ويحشد المجتمع الدولي ضدهم، وهذا جميل واجتهاد لا غبار عليه، ولكنه يشكل هروبا من المواجهة الحقيقية، أي في الداخل الفلسطيني، فمعركة الرئيس عباس يجب أن تكون مع الاحتلال الإسرائيلي ومستوطناته ونهبه للأرض والثروات الفلسطينية. الشعوب العربية الثائرة قدمت له ولنا دروسا بليغة، ليس في تغيير الأمر الواقع، وإنما في تغيير أنظمة ديكتاتورية ضاربة الجذور في عمق الفساد والقمع، مما أدى إلى قلب كل معادلات القوة وموازين القوى. استجداء الحلول والاعترافات لا يغير أي شيء، وإن غيّر فإلى الأسوأ. ونتائج اتفاقات أوسلو الكارثية ما زالت ماثلة في الأذهان، استيطانا وإذلالا وتهويدا للقدس. الربيع الفلسطيني لا يجب أن يزهر في الأممالمتحدة فقط، وإنما على الأرض الفلسطينية أيضا، فمن المعيب أن يكون هذا الشعب، مفجر الثورات ومقدم النموذج في تحدي الظلم، هو آخر من يلتحق بقطار الثورات العربية وأرضه محتلة وعدوه متغطرس وقيادته ضعيفة، مشلولة، بل ومعزولة عن شعبها وعن واقعها العربي. سنقف حتما في خندق أي مواجهة مع الإسرائيليين والأمريكيين في الأممالمتحدة، ولكننا في الوقت نفسه لن نتخلى عن تحفظاتنا ومخاوفنا وإصرارنا على الثوابت الفلسطينية، مثلما سنظل نعتبر أي انتصار في الأممالمتحدة ناقصا طالما لم تتبعه انتفاضة شعبية ترهق الاحتلال الإسرائيلي وتجعله مكلفا، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. نريد أن نرى مائة ألف متظاهر كل يوم جمعة في ميدان المنارة في رام الله أو أمام حاجز قلنديا، الذي يحرم أجيالا من رؤية القدس والصلاة في الأقصى. نريد أن نرى السلطة في خدمة قضايا الشعب المصيرية، وليس لتخدير هذا الشعب بمبادرات صغيرة للحصول على دولة وهمية. إسرائيل تعلي سقف مطالبها وتقدم كل يوم مطلبا تعجيزيا جديدا مثل الاعتراف بها كدولة يهودية، لطرد العرب منها، بينما نحن أو قيادتنا، نخفض سقف مطالبنا، فقد كان الرد الأمثل على إسرائيل وقيادتها اليمينية ليس المطالبة بالاعتراف بدولة في حدود عام 1967، وإنما بدولة ديمقراطية مدنية على كامل التراب الفلسطيني، تتعايش فيها الأديان والأعراق على قدم المساواة، وإعلان فشل حل الدولتين، وإعادة إحياء منظمة التحرير ومؤسساتها على أسس إصلاحية علمية، تستوعب الأجيال والمتغيرات النضالية الفلسطينية وتستأصل اللحم الميت المتراكم على مفاصلها، وضخ دماء جديدة شابة. إسرائيل تعيش عزلة دولية ليس بفضل نضال الفلسطينيين فحسب، وإنما بسبب أخطائها القاتلة أولا، وغرور قوتها المتغطرس ثانيا، والثورات العربية التي أطاحت وستطيح بجميع حلفائها أو الأنظمة التي رضخت لإرهابها. ومن المفترض أن يعمق الفلسطينيون والعرب هذه العزلة بضغط داخلي مكثف على الاحتلال ومستوطنيه، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن. فمن كان يصدق أن تركيا، الحليف الأكبر لإسرائيل في المنطقة والعالم الإسلامي، تنقلب عليها وتطرد سفيرها وتجمّد كل العلاقات التجارية والعسكرية معها، ومن كان يحلم بأن يقتحم الثوار المصريون السفارة الإسرائيلية في القاهرة ويبعثرون محتوياتها ويحرقون علمها، ويهرب دبلوماسيوها من الجحور الخلفية مثل الفئران طلبا للنجاة، متخفين بكوفيات فلسطينية طالما كرهوها وحاربوها باعتبارها رمز العزة والمقاومة. ختاما، نقول للرئيس عباس ألا يعول كثيرا على الانتصارات الدبلوماسية، رغم أهميتها، وعليه العودة إلى أدبيات المقاومة الأولى، وتتويج تاريخه بانتصار حقيقي على الأرض وليس بقرار جديد من الأممالمتحدة.. عليه تحرير الشعب الفلسطيني من عبودية الراتب، وتقديم المصلحة الوطنية على الأمور الحياتية المعيشية التي تؤدي إلى البلادة التي نراها حاليا. نتمنى أن يضيف الرئيس عباس إلى خطابه في الأممالمتحدة عبارة تقول للرئيس أوباما إنك تتدخل بالطائرات والصواريخ وحلف الناتو في ليبيا والعراق وأفغانستان لنصرة الشعوب ومعركتها من أجل التحرر، بينما تتدخل باستخدام الفيتو ضد الشعب الفلسطيني لحرمانه من حقوق أساسية كنت أول من اعترف بها، وتطالب هذا الشعب بالوصول إلى دولته عبر التفاوض مع أعدائه، وهو ما لم نقله لليبيين والعراقيين وغيرهم. كفى نفاقا.. ولكن العيب ليس في أوباما وساركوزي وبلير وكاميرون وميركل، وبقية منظومة النفاق، وإنما فينا كعرب.