لتر من البنزين وَعُودُ ثقاب كفيلان بأن يحققا الغرض لمن استرخصوا ذواتهم ليقوموا بحرقها، بعد أن ضاقت بهم الدنيا بما رحبت واختنقت أنفاسهم بزخم المشاكل وحِدّة المعاناة التي يتجرعونها، والتي وصلت بهم إلى حد سكب البنزين على أجسادهم وإضرام النار فيها، دون الإحساس بالألم، الذي هو في نظرهم أقل وطأة من نيران الفقر والجوع والبطالة التي يعيشونها يوميا. حالات كثيرة سمعناها عن أشخاص أحرقوا أجسادهم لأسبابٍ القاسمُ المشترَك بينها أنها من أجل الدفاع عن مطالب اجتماعية بسيطة، لا تتجاوز في غالبيتها الشغل أو السكن، فهؤلاء الأشخاص فكروا في انتحار ليس شنقا، وهي الحالة المعتادة للانتحار، وإنما هذه المرة حرقا، إحراق أحلامهم ومستقبلهم، الذي أصبحوا يلمسون ضبابيته وظلاميته في ظل انعدام فرص تضيء لهم مشوار الحياة، إحراق أحلام العائلة، التي وضعت ثقتها فيهم لتجدهم جثثا متفحمة أو مشوهة بدرجات حروق جد خطيرة، تنبئ عن ظاهرة خطيرة انتشرت بشكل لافت لتصبح «موضة» القرن الواحد والعشرين. فدوى العروي والكنوني اسمان بارزان في مجال حرق الذات، ولكل واحد منهما ظروفه الخاصة التي جعلته يُقْدم على إضرام النار في الجسد، فالإنسان، بطبعه، يهاب النار ويخافها، ولكن هؤلاء الأشخاص لم يخافوها بل كانت لهم الجرأة على أن يقاوموا الألمَ وهي تلتهم جسدهم. الذات الرخيصة ليست ظاهرة إحراق الذات في المغرب وليدة اللحظة، على اعتبار أن مقر البرلمان في الرباط عرف، في كثير من المرات، محاولات لإحراق الذات، كان أبطالها حاملو شهادات عاطلون عن العمل، تجرّعوا مرارة البطالة لسنوات، دون أن يحصلوا على منصب شغل. وحسب هؤلاء، فإن إقدام بعض المعطلين على محاولات الانتحار حرقا كانت بسبب انسداد أبواب الأمل أمامهم، خاصة من التحقوا منهم بهذه المجموعات من مناطق بعيدة، بهدف الحصول على منصب شغل يحفظ لهم ماء الوجه أمام أُسَرِهم وعائلاتهم. وحسب شهادة رشيدة، التي تنتمي إلى مجموعة الأطر العليا المعطلة، فإن ظاهرة إحراق الذات ظهرت مع المعطّلين المجازين وليست مع الأطر العليا المعطلة، فهؤلاء كانوا في نظرها دائما يهددون إما بالانتحار شنقا أو بإلقاء أنفسهم من أماكن عالية احتجاجا على التعامل الذي كانوا يقابَلون به من طرف المسؤولين في الوزارة. وعزت المتحدثة عدم إقدامهم على فعل الانتحار إلى كون 50 في المائة من الأطر العليا المعطلة هم من الأئمة ومن حفَظة القرآن الكريم، والذين يرفضون «خيار» فعل الانتحار ويحثون باقي الأطر على عدم ارتكابه، لكونهم بذلك سيرتكبون جرما في حق ذواتهم، يخسرون بسببه دنياهم وآخرتهم. وقد وصفت رشيدة الحالات التي شهدتْها الرباط، والتي كانت مسرحا لمحاولة معطلين الانتحارَ أكثر من مرة عن طريق شنق أنفسهم، بعد أن أصبح الموت بالنسبة إليهم أرحم من مرارة البطالة التي يعيشونها يوميا، في ظل وعود حكومية تؤكد أنها تتراوح بين المراوغة والتماطل تارة وبين التأكيد والتطبيق تارة أخرى. البوعزيزي وإحراق الجسد يعتبر جل المتتبعين وعلماء الاجتماع أن محاولات المعطلين الانتحار، سواء بإحراق الذات أو بغيره من الوسائل لم تتجاوز، في الغالب، مرحلة المحاولة، غير أن ما يعتبر جديدا في هذه السنة هو انتشار ظاهرة إحراق الذات على وجه الخصوص وبشكل كبير وملفت، حيث تم الانتقال من الحديث عن عدد من المحاولات في مجموعة من المدن المغربية إلى الحديث عن حالات أحرقت نفسها وتوفيت لأسباب ومشاكل اجتماعية، كالبطالة والفقر و«الحكرة» والرغبة في امتلاك سكن... وأصبحت جل الحالات التي نتحدث عنها خارج نطاق حاملي الشهادات المعطلين، حيث اختار هؤلاء الأشخاص لأنفسهم طريقا خاصا يرفعون من خلاله شعار «الموت حرقا»، في حال استعصى وجود حل لمشاكلهم، التي قد تكون في بعض الأحيان بسيطة إذا ما قورنت بفعل الحرق. ورغم كثرة الحالات التي قامت بإضرام النار في جسدها فإن البعض يفضلون عدم الحديث عن «ظاهرة» بالنظر إلى اقتصارها على مجموعة من الأشخاص أخطؤوا -في نظر هؤلاء- في حق أنفسهم، ومن واجبهم أن يتحملوا مسؤولية الجرم الذي ارتكبوه في حقها لتنافيه مع تعاليم الدين والحقوق التي شرّعها الله للعباد، ومن بينها الحق في الحياة. من جهة ثانية، هناك من يربطون انتشار الظاهرة باجتياح حمى «البوعزيزية» للمغرب، بعد ما سجّلَه بعض المتتبعين من تعاطٍ سلبي للإعلام مع إقدام الشاب التونسي محمد البوعزيزي على إحراق جسده أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، احتجاجا على مصادرة السلطات البلدية في المدينة عربتَه التي كان يبيع فيها الخضر والفواكه لكسب رزقه.. فبعض المتتبعين يعتبرون أن الإعلام صوّر البوعزيزي كأنه بطل أنقذ تونس من رئيس كانوا يصفونه ب«الدكتاتور»، لأنه بإحراقه ذاتَه مهّد لانتفاضة شعبية ولثورة دامت قرابة الشهر، أطاحت برئيس البلاد، الذي فر هاربا في آخر المطاف إلى السعودية.. وهذه القصة، التي صورتْها جل المنابر الإعلامية على أنها حكاية يجب أن تدرس في كتب التاريخ للأجيال الصاعدة، جعلت -حسب البعض- الكثير من السياسيين يتبنّونها ويسوقون للظاهرة بشكلها الإيجابي، وهو الأمر الذي تجسده المناقشات التي عرفتها شبكات التواصل الاجتماعية ك«فايسبوك»، والتي تتحدث عن «البوعزيزية» واستلهمتْها، ليس فقط شعارا للتغيير ولكن نموذجا يقتدى ويحتذى به، حتى جعلت الكثيرين ينظرون إلى الانتحار، الذي هو حرام شرعا، كأنه مباح في هذه الحالات تحت مسميات عدة، أبرزها الانتحار الاحتجاجي، مع إضفاء مجموعة من التبريرات الدينية، ومنها الدعاء الذي دعا به الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لصالح البوعزيزي، والذي استغلّه البعض لإضفاء الشرعية على سلوك البوعزيزي، الذي أعطى بانتحاره الشرارة الأولى للثورة التونسية. فالكل مجمعون على أن ظاهرة إحراق الذات أصبحت بمثابة «موضة» انتشرت بشكل لافت خلال هذه السنة، وبشكل مفجع، بعد «عدوى» البوعزيزي. فحسب بعض المهتمين، لم يكن للاحتجاج بإحراق الذات أن ينال كل هذه الضجة والاهتمام لولا إحراق البوعزيزي نفسَه، خاصة أن حادث إحراقه ذاتَه جاء مقترنا بحدث سياسي خلّف الكثير من التغييرات في المشهد السياسي العربي، وهو سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وفتح الباب أمام ثورة الشعوب العربية.