جزاء سينمار.. هي الحكمة العربية التي تفسّر المنهج الذي تتعامل به الولاياتالمتحدة مع حلفائها غير الغربيين، و«الميكافيلية» هي المفهوم الغربي الذي يفسّر هذه المنهجية، منهجية اللا منطق، حيث لا وجود مطلقا لمبادئ الوفاء بالعهد أو المعاملة بالمثل أو حماية الأصدقاء (العملاء). لا وجود لصداقة تدوم مع أحد. لا وفاء يستمر. لا مكان لحليف أو صديق.. المعيار الوحيد هو المصلحة الأمريكية، التي تخلو من الأخلاق والصداقة والأعراف والتقاليد. منطق الغدر بالعميل والحليف، الذي أفنى عمره ونفسه في خدمة بلاد «العمّ سام». منطق اللا وجود لحقوق الإنسان أو أي مصطلحات أو مفاهيم أخرى تحمل شبها بأي شيء يتعلق بالإنسانية.. منطق الغدر برجال أوجدتهم الولاياتالمتحدة لقمع شعوب أوطانهم خدمة لمصالحها في المنطقة لتتخلى عنهم سريعا بتُهَم مختلفة بين إيواء طالبان والإرهاب والتجسس والاتجار في المخد رات، بعد استنفاد قدراتهم على القيام بأدوارهم أو تراجع قوتهم ونفوذهم أمام قوى المعارضة أو ظهور البديل الآخر، الذي يمكنه أن يقدم خدمات أفضل... عملاء وحلفاء تخلّت عنهم أمريكا لصالح بديل وحليف آخر ووضعتهم في كفّ مزادها العلني ليتم «بيعهم» بأبخس الأثمان، بعد أن اعتقدوا لبرهة ولحظة صغيرة أن قوة الولاياتالمتحدة يمكن أن تضمن لهم الاستمرار في السلطة ونسوا وتناسوا أن الضمانة الوحيدة هي ضمانة الشعب وأن السلطة الوحيدة هي سلطة الشعب فقط وليست سلطة «العم سام».. إنهم، باختصار، رجال وحلفاء في المزاد العلني الأمريكي... حاله كحال غيره من الحكام المخلصين لأسيادهم، عبيد للمال والسلطة والمصلحة دون أن تهمّهم مصلحة أوطانهم أو حماية أرضيها، رجل عايش قرغيزيا في فترة هدوء التوتر الذي يرافق المشي على الحبال في انتفاضتها خلال مارس 2005، راهن على حماية أمريكا له بعد تهميشه للمعارضة والزّج برجالها في غياهب السجون، اطمأن على رصيده القبلي والعشائري فوقع في الخطأ المكرّر لأسلافه، قدّم نفسه إلى الصحافة العالمية بابتسامته الشهيرة التي تغريك فتظنّها تعكس فكرا ساذجا بريئا بينما تخفي وراءها مكر التاريخ وحنكة الصراعات في بلد مرّ به كل شيء، حيث حكمة الصينيين وفورة التتار والمغول وأطماع الروس ومشروعات الإسلاميين وأحلام الأمريكيين. مبدأ التوازن إنه حاكم قرغيزيا المستبد الموالي للولايات المتحدة على طول الخط، عسكر اكاييف، الذي حكم بلاده بمبدأ التوازنات بعد مراهنته على الدعم الأمريكي والعشائري والقبلي قبل أن توحي له سيرته الذاتية بمسار آخر ونهاية مغايرة للنهاية التي طالما أرادها لنفسه بعد أن وصل إلى السلطة من خلف أسوار الجامعة على خلاف صعود الضباط وأنصاف السياسيين في العالم الذين طالما استفادوا من أمّية الشعوب وجهلها لتحقيق مآربهم الشخصية. عالم الفيزياء في قرية «كيزل بايراك» شمال قرغيزيا (قرغيزستان) ولد عسكر اكاييف في العام 1944 في أسرة تشرّبت أجواء المزارع الجماعية الإجبارية خلال الحقبة السوفييتية، أكمل تعليمه في جامعة ليننغراد قبْلة العلوم السوفييتية، وهو في العشرينات من عمره كان يحلم بالوصول إلى أعلى الرتب والدرجات حتى خرج منها حاملا شهادة الدكتوراه في الفيزياء في العام 1976 بعد أن عاد إلى قريته حاملا آمالا أكاديمية إلى الوطن. بحصوله على درجة الدكتوراه في الفيزياء أضحت الطريق ممهّدة أمامه للترقّي الأكاديمي في بلد زراعي قبلي حتى بلغ أرقى منصب علمي في قرغيزيا، وهو رئاسة أكاديمية العلوم التي طار منها في العام 1986 إلى مقر الحزب الحاكم القرغيزي، الذي استعان به بهدف تلميع صورته وتشكيل خط دفاع أمام الشعب، وهو الحزب الذي يضم الفئات النخبوية التي عمدت إلى اختياره في العام 1990 رئيسا للبلاد (بأغلبية أصوات البرلمان القرغيزي) بعد أن أخذت الشيوعية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وبدت الفرصة متاحة لتحقيق شكل من أشكال الاستقلال عن المركز في موسكو وكسب مقعده الرئاسي في أول انتخابات شعبية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي نهاية العام 1991. رجل العصر وأمل الديمقراطية لم يمض سوى عامين على حكمه، حتى استطاع اكاييف أن يرقى ببلاده إلى مفاهيم إصلاحية جديدة كانت كفيلة بأن تفوق كل الرهانات التي وضعها البرلمان القرغيزي فيه لحظة اختياره رئيسا للدولة، وأضحى كفيلا بأن يلقب برجل العصر وأمل الديمقراطية بعد أن تحوّلت بلاده إلى أكبر ديمقراطية في وسط آسيا، فنشر آكاييف مشروعات الإصلاح دافعا بالخوصصة نحو خطوات كبرى للأمام، وخرجت في فترة حكمه عشرات الأحزاب بمختلف أطيافها وتمكنت سياسته الزراعية، التي منحت الفلاحين حقوقا متزايدة، من العثور على مفتاح محبّة الشعب عبر التاريخ، وأضحى اكاييف بعباءة الحرم الجامعي رجل قرغيزيا بلا منازع بعد أن امتدّت سياساته الإصلاحية إلى مناطق الجنوب رغم كونه من أبناء الشمال. أكاييف بين فكي كماشة كانت الفترة الرئاسية الأولى لحكم اكاييف تسير نحو تحقيق آمال الجميع، حيث بزوغ الأحزاب والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني بعد أن شهدت ولوج تحويلات مالية من عدّة مؤسسات مالية كبرى كان على رأسها مؤسسة جورج سورس في ظل دولة لا يزيد عدد سكانها عن الخمسة ملايين نسمة، لكن سرعان ما وجد اكاييف نفسه بين فخين كبيرين: معارضة الحاشية السياسية للإصلاح والديمقراطية بعد توزيع القوى والثروة على مساحات أوسع لن تستفيد منها تلك الحاشية نظرا لفزّاعة النمو المتزايدة للأحزاب والمؤسسات المختلفة، وضعف اكاييف أمام ثقافة القبيلة وضغوطات العشيرة الشيء الذي فرض عليه ضمّ أقاربه وذويه إلى مواقع حسّاسة في البلاد، وقبل أن يوقع اكاييف نفسه بين فكي كماشة الحاشية والعشيرة أعيد انتخابه (من بين مرشحين للمعارضة) بأغلبية كبيرة نهاية العام 1995. مرحلة التحول نحو السقوط بفوزه في انتخابات 1995 تأكد أكاييف من قدرته العالية على كسب ثقة الجميع، فأدخل نفسه في إنجازات أخرى مماثلة للتي قام بها في فترة حكمه الأولى حتى جاءت الانتخابات الرئاسية الجديدة للعام 2000 والتي فاز بها بالأغلبية رغم اتهامه بالتزوير من طرف المعارضة بعد أن تفشّت المحسوبية والفساد في حكمه وحكومته في وقت كان فيه جلّ أفراد عائلته تقريبا (ابنه وابنتاه وأختاه) داخل البرلمان القرغيزي، وبدأت نقطة التحول والتوجه نحو السقوط قد حانت لاكاييف بعد أن أشعل التزوير الانتخابي فتيل حماس المعارضة التي أضحى صوتها يرتفع عاليا مطالبة إياه بالاستقالة من منصبه بعد اعتقال زعيم المعارضة «فيكيكس كولوف» والزّج به في السجن بتهمة الاختلاس وإقالته من منصبه السابق (عميد بيشكيك) الذي خاض بنفسه الانتخابات الرئاسية أمام منافسه الرئيس الحالي أكاييف. الرضا الأمريكي والسند الروسي سرعان ما أضحت القاعدة الشعبية لاكاييف تفقد دعائمها شيئا فشيئا حتى قارب الرجل على السقوط لولا أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول 2001 التي أوجدت له سندا قويا من طرف الولاياتالمتحدة بعد أن أوقعته في إغراء التغاضي عن فساده والاستمرار في حكمه بالبلاد شريطة إقامة قاعدة عسكرية لها في بلاده، فوافق الرجل سريعا بعد أن سارع إلى طمأنه موسكو المفزوعة من التسلّل الأمريكي إلى أبواب بيتها وسمح لها بإقامة قاعدة عسكرية مماثلة، وضمن الرجل بذلك في يمينه الرضا الأمريكي وفي شماله السند الروسي، وظهر بأن لا مكان للمعارضة سوى واشنطنوموسكو لينقذاها من هذا الرجل وبات الأمر وكأنه نهاية التاريخ لصالح اكاييف حليف أمريكا القوي في المنطقة. لكن على الجانب الآخر كانت المعارضة الشعبية تلتحم أكثر فأكثر ضد سياسات أكاييف وحكومته، والتي أضحى التزوير والفساد من سماتها الأساسية، وزاد من حدّة الصراع فتح أكاييف مطار ماناس الدولي القريب من العاصمة بشكيك للقوات الأمريكية التي عمدت إلى تحويله إلى قاعدة عسكرية أمريكية في خطوة أثارت استفهامات عدّة حول أهداف الولاياتالمتحدة من التمركز في هذه الدولة التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي قبل انهياره نهاية العام 1991. الرئيس المنتظر..الرئيس المخلوع بدأت المعارضة في حشد صفوفها وقوتها الداخلية، مركّزة بذلك على جنوب البلاد المهمش والأقل تنمية والأبعد عن الكعكة المتقاسمة في الشمال، ولم تجد بالتالي صعوبة في إقناع رجل الشارع بظواهر لا تخطئها العين، نتيجة الفساد والانحلال الذي أضحى واضحا في حكومته حتى كسبت المعارضة تعاطفا من الكثير وحيّدت الكثير من رجالات اكاييف نفسه الذي كان يرتّب نفسه في الباطن للبقاء في السلطة عبر استعداده للانتخابات الرئاسية المنتظرة أكتوبر 2005 رغم مراوغته السياسية التي أراد أن يستغل بها ذاكرة الشعب وهي إعلانه للصحافة بأنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، وبالتالي بات الأمر في حاجة إلى عامل متمّم لكي يكسبها القدرة على الحركة وتمكّنت المعارضة، بنهجها الجديد الذي اكتسبت معه ثقة فئات عديدة من الشعب، من إحكام السيطرة على نصف البلاد وإشعال مظاهرات دموية حارقة بعد تنسيقها الداخلي مع أطراف ضالعة في السلطة، وأضحت تمضي سريعا في أحلامها البعيدة بشأن الاستقلال عن تأثير القوى الأجنبية، دون أن تشعر الولاياتالمتحدة بهذا النهج، إذ ترى أنه لا اختلاف يوجد بين الرئيس المنتظر باكييف والرئيس المخلوع (أو على وشك الإطاحة به) اكاييف فكلاهما يشتبه في الاسم وكلاهما يحقّق الغاية الأمريكية. تزوير أمريكي لصالح أكاييف في الثالث والعشرين من نوفمبر 2002 وبعد تحويل مطار ماناس إلى قاعدة جوّية عسكرية أمريكية وإمكانية استخدامها من طرف القوات الفرنسية كذلك، قالت صحيفة لوموند: «لقد وافق الرئيس القرغيزي عسكر اكاييف على الطلب الأمريكي لتجهيز مطار ماناس ليصبح قاعدة أمريكية لعدة سنوات مع إمكانية استخدامها من طرف القوات الفرنسية لمدة عام على الأكثر بعد أن تم تجهيزه بطائرات مقاتلة من طراز اف 16 وطائرات اف 15 وثلاثة آلاف جندي أمريكي بهدف ضرب الجيوب الخفية التي يختبئ فيها المقاتلون من تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان. كانت تلك التصريحات قد أشعلت فتيل الأزمة من جديد خاصة بعد دعم الروس للمعارضة القرغيزية ضد الوجود الأمريكي في أراضيها، والتي أخذت باجتياح البلاد بعد اتهامها الرئيس اكاييف بتزوير الانتخابات لصالحة ودعمه اللامشروط للولايات المتحدة نظير استغلالها لموارد البلاد على حساب الشعب القرغيزي ومصالحة. الثورة البنفسجية وبينما كانت الثورة البرتقالية تلملم أطرافها من شوارع العاصمة الأوكرانية كييف يوم 3 يناير 2005 بعد أن أوصلت زعيم المعارضة يوتشينكو إلى الرئاسة، كانت شوارع العاصمة القرغيزية بيشكيك تشهد حركة غير معهودة بين أقطاب المعارضة المتصدّعة لبلورة سياسة موحّدة ضد الرئيس اكاييف المتهم بالفساد الإداري والتزوير والاستبداد السياسي والبطالة وتشريد الشعب ونهب خيرات البلاد لصالحه ولصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبدأ الشعب يتحرك في قطاعاته الصامتة تأييدا لشعارات أحزاب المعارضة التي يصل عددها إلى 15 حزبا وتضم تيارات قومية وليبرالية ويسارية، وبدأت إرهاصات هذه الثورة تشتد مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في مقاطعة يونغ بولاية آسيك كول شرق البلاد، والتي جاءت ردّا على قرار السلطات بمنع ترشح زعيم المعارضة من خوض الانتخابات فانتقلت المظاهرات إلى مدن الجنوب مثل بانكن وجلال اباد وأوش، وزادت وتيرتها بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية التي قوبلت برفض قوي من المعارضة وانتقادات واسعة من المراقبين الدوليين رغم الاستحسان الكبير من طرف حليفته الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومع عودة الجولة الثانية من الانتخابات في 13 مارس 2005 طفح كيل الغضب الشعبي وأصبح المتظاهرون يعتصمون أمام مبنى البلدية في مدينتي اوش وجلال اباد في الجنوب، إلى أن تحوّلت تلك المظاهرات والاعتصامات إلى تقدم عملي نحو المباني الحكومية وأخذت مدن الجنوب تسقط تباعا بيد المعارضة ابتداء من 22 مارس 2005 دون أي مواجهة مع الحرس والشرطة بعدما أضحت تضم مئات الآلاف من المتظاهرين وأطلقت عليها الثورة البنفسجية. سقوط الحليف ومباركة واشنطن أمام تزايد زخم المعارضة وتزايد المظاهرات في شتّى مدن قرغيزيا لم يكن يدور في خلد حكومة اكاييف ولا خلد المعارضة نفسها أن تتخذ الأحداث خطوات متسارعة خلال أقل من شهرين وتتحوّل إلى ثورة بنفسجية يوم 24 مارس 2005 حيث ستجد المعارضة نفسها وقد اجتاحت القصر الرئاسي بعد أن عمد عسكر اكاييف إلى مغادرته متجها إلى روسيا للنجاة بنفسه من غضب الجماهير التي حركتها البطالة والفقر والاستبداد المالي والسياسي في هذه الجمهورية الصغيرة بوسط آسيا. ففي صباح 24 مارس 2005 تحوّلت العاصمة بيشكيك إلى ما يشبه الفيضان الهائج لشدّّة حشود الشعب الذين نزلوا إلى الشوارع منددين بسياسات اكاييف ومطالبين إياه بالرحيل من منصب الرئاسة وقيادة البلاد قبل أن يحيط به الرجال داخل القصر الرئاسي دون أن يكون احتلاله ضمن خططهم السابقة، وهو ما صرّح به زعيم المعارضة فيكيكس كولوف بالقول «..كانت احتجاجاتنا سلمية وعفوية ولم يكن الاستيلاء على القصر الرئاسي من ضمن خططنا إطلاقا». سقط الحليف بمساعدة أمريكية خفيّة للمعارضة بعد أن شهدت واشنطن بسقوط ورقته في قرغيزتسان في 24 مارس 2005 بثورة بنفسجية، خرج صامتا هاربا من قبضة الشعب وفورته، لكنه ظهر بمناسبة الذكرى السنوية لإسقاطه، وتحديدا في 24 مارس 2006 ليعلن للصحافة عمالته لأمريكا ومتهما إياها بتدبير الانقلاب ضده «كان بإمكاني أن أدافع عن رئاستي بالقوة، لكنني قرّرت حماية دم الشعب القرغيزي، تجنبت استخدام القوة لئلا أتسبب في الحرب الأهلية وقتل أبناء وطني، لذلك تركت الحكم لمن تمرّدوا على نظامي، تركته رغم أنني أشعر بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي التي وقفت وراء ذلك رغم كل سنوات العمل لصالحهم.. باعوني بعد سنين من خدمتي لهم... باعوني بعد نفاد مصلحتهم وانتهاء ورقتي.... لكنني شعرت ولا أزال أشعر بأن كل الانقلابات التي تحاك في المنطقة وكل الانقلابات الملونة التي حصلت وحدثت في الجمهوريات المستقلة لم تأت من فراغ بقدر ما أن هناك قوة خارجية وراءها تتمثل في الولايات المتحّدة وشركائها بعدما باركت سقوطي ورحبت به بعد سنوات طويلة من خدمتها....».