جزاء سينمار.. هي الحكمة العربية التي تفسّر المنهج الذي تتعامل به الولاياتالمتحدة مع حلفائها غير الغربيين، و«الميكافيلية» هي المفهوم الغربي الذي يفسّر هذه المنهجية، منهجية اللا منطق، حيث لا وجود مطلقا لمبادئ الوفاء بالعهد أو المعاملة بالمثل أو حماية الأصدقاء (العملاء). لا وجود لصداقة تدوم مع أحد. لا وفاء يستمر. لا مكان لحليف أو صديق.. المعيار الوحيد هو المصلحة الأمريكية، التي تخلو من الأخلاق والصداقة والأعراف والتقاليد. منطق الغدر بالعميل والحليف، الذي أفنى عمره ونفسه في خدمة بلاد «العمّ سام». منطق اللا وجود لحقوق الإنسان أو أي مصطلحات أو مفاهيم أخرى تحمل شبها بأي شيء يتعلق بالإنسانية.. منطق الغدر برجال أوجدتهم الولاياتالمتحدة لقمع شعوب أوطانهم خدمة لمصالحها في المنطقة لتتخلى عنهم سريعا بتُهَم مختلفة بين إيواء طالبان والإرهاب والتجسس والاتجار في المخد رات، بعد استنفاد قدراتهم على القيام بأدوارهم أو تراجع قوتهم ونفوذهم أمام قوى المعارضة أو ظهور البديل الآخر، الذي يمكنه أن يقدم خدمات أفضل... عملاء وحلفاء تخلّت عنهم أمريكا لصالح بديل وحليف آخر ووضعتهم في كفّ مزادها العلني ليتم «بيعهم» بأبخس الأثمان، بعد أن اعتقدوا لبرهة ولحظة صغيرة أن قوة الولاياتالمتحدة يمكن أن تضمن لهم الاستمرار في السلطة ونسوا وتناسوا أن الضمانة الوحيدة هي ضمانة الشعب وأن السلطة الوحيدة هي سلطة الشعب فقط وليست سلطة «العم سام».. إنهم، باختصار، رجال وحلفاء في المزاد العلني الأمريكي... «نموذج حديث لقرابين الغدر الأمريكي للحلفاء والعملاء، اعترف بدوره الأساسي في تفكيك الاتحاد السوفياتي لمصلحة الولاياتالمتحدةالأمريكية، شكّل حليفها الذي استجاب لكل مطالبها قبل أن تعلن بيعه في مزادها العلني أمام أعين الجميع بعد أن أنهت حكمه ومهمته وظهر لها البديل المستقبلي والحليف الجديد ميخائيل ساكشفيلي... فانتهى دوره وحان موعد إلقائه في سلّة قمامتها السياسية. الصديق الوفي إنه رئيس جورجيا، الجمهورية السوفيتية السابقة، إدوارد شيفرنادزه (ولد في 25 يناير 1928 في ماماتي لانجخوتي القوقازية بالاتحاد السوفياتي سابقا) الذي أسقطته الثورة الوردية المدعومة من الولاياتالمتحدة في شهر نوفمبر من العام 2003 قبل أن يخرج لصحيفة ديلي تلغراف البريطانية في العام نفسه معلنا عمالته وتعاونه مع الولايات المتخدة ومحملا إياها تبعات سقوطه ليقول «(...) لقد قدّمت كل ما طلبوه مني بل وأكثر مما كانوا يتوقعون، لعبت دورا أساسيا في انهيار الاتحاد السوفياتي، قدّمت لهم قاعدة عسكرية على أراضي جورجيا بالقرب من الحدود الروسية، جلبت جنرالاتهم ليدربوا جيشنا ويقودوه، ورغم كل ذلك خانوا الصديق الوفيّ لهم، خانوني ودبّروا الانقلاب ضدّي بعد أن أمدهم السفير الأمريكي الذي كان يجلس معي على الدوام بكل تحرّكاتي وتصرّفاتي، ذلك السفير الذي شاهدته بعد ساعة واحدة من سقوطي وسط المتظاهرين يهتف ضدّي في الميدان وأمام مبنى البرلمان ولا أدري لماذا فعلوا ذلك معي، لكنني أدركت للتو أن زيارة جيمس بيكر وزير الخارجية إلى جورجيا قبل سقوطي لم تكن لدعمي وإنما لإعطائي شهادة انتهاء الصلاحية ولإقناعي بالتنحّي عن السلطة....». مسيرة الرّتب السياسية بدأ شيفرنادزه مسيرته المهنية بانضمامه إلى قيادات الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي منذ العام 1948 قبل أن يصبح بعد سنتين فقط رئيسا لاتحاد الشباب الشيوعي الذي أخذ من خلاله يتسلق الرّتب حتى أصبح عضوا بمجلس السوفييت الأعلى في جورجيا عام 1959 ثم الوزير الجورجي للشؤون الداخلية في الفترة ما بين 1968-1972 ثم السكرتير الأول للحزب الشيوعي الجورجي نهاية العام 1972 بعد أن أجبرت فضيحة فساد رئيس هذا الاتحاد (فاسيلي مزافاندازه) على الاستقالة والتي كانت مناسبة عظيمة عجّلت بدخول شيفرنادزه إلى كواليس السلطة والحكم بشكل سلس. فبتمكينه من منصب السكرتير الأول للحزب الشيوعي بدأ شيفرنادزه حربه ضد الفساد وتعامل بحزم مع المنشقين، الذين عمدت الحكومة إلى سجن العديد منهم في العام 1977 وعلى رأسهم «ميراكوتافا» و«زفياد غامسغورديا» كسب من خلالها تعاطفا كبيرا أقنع به السلطات المركزية بالاعتراف الدستوري باللغة الجورجية نهاية العام 1978 بعد انضمامه السريع إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي قبل ذلك بعام واحد وقبل أن تأتيه الفرصة المناسبة لشغل منصب وزير الشؤون الخارجية بأمر مباشر من السكرتير العام للحزب الشيوعي «ميخائيل غورباتشوف» في العام 1985 بعد استقالة الوزير المخضرم «اندري غروميكو» من هذا المنصب.. مبدأ سيناترا سرعان ما أضحى شيفرنادزه موضع إعجاب من الجميع داخل الحزب الشيوعي السوفياتي، خاصة بعد أن تمكن (من خلال منصبه كوزير للشؤون الخاريجة) من لعب دور رئيسي في السلام الذي ظهر نهاية الحرب الباردة، وساعد على ابتكار ما سمي آنذاك «مبدأ سيناترا» الذي سمح للأقمار الصناعية السوفييتية أن تشقّ طريقها بكل حرّية بدلا من محاولات إعاقتها بالقوة من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية وخصوم الاتحاد السوفياتي الآخرين عندما بدأت الثورات الديمقراطية تكتسح أوربا الشرقية، وساعد بالتالي على إنجاز تغيير ديمقراطي سلمي في المنطقة جعل الزعماء المتشدّدين يقولون: لقد حان الوقت لإدراك أنه لا اشتراكية ولا صداقة ولا احترام ولا حسن جوار يمكن أن ينتج بالحرب أو الدبابات أو الدم. المصلحون ذهبوا... الديكتاتورية آتية كان الاتحاد السوفياتي أواخر الثمانيات قد انحدر إلى الأزمة وأصبح الوضع جافيا بين غورباتشوف وشيفرنادزه بسبب الخلافات السياسية بينهما، فقد كافح غورباتشوف لإبقاء الحكومة الاشتراكية ووحدة الاتحاد السوفييتي بينما دعا شيفرنادزه إلى التحرّر الاقتصادي والسياسي الذي أجبر معه الرجل على الاستقالة من منصبه في دجنبر 1990 احتجاجا على سياسات غورباتشوف بعد أن قام بتسليم تحذيره المثير إلى البرلمان السوفياتي الذي كتب فيه: «المصلحون ذهبوا واختفوا في الغابات، الديكتاتورية آتية»، ليعجل ذلك بانهيار الاتحاد السوفياتي بعد الانقلاب الفاشل الذي قامت به مجموعة من المتشدّدين الشيوعيين ويتم الإعلان عن استقلال جورجيا وتنصيب «زفياد غامسغورديا»، زعيم الحركة القومية، رئيسا للبلاد. الرئيس المفاجيء فجأة انتهى حكم غامسغورديا في يناير 1992 بعد أن خلعه انقلاب دموي وأجبر على الهروب إلى جمهورية الشيشان المجاورة، وطار شيفرنادزه سريعا إلى رئاسة مجلس الرئاسة الجورجية في مارس من نفس العام قبل أن يعين رئيسا ثانيا لجمهورية جورجيا في العام 1995 بناء على انتخابات ديمقراطية فاز فيها ب70 في المائة من أصوات الناخبين قبل أن يعاد انتخابه لفترة ثانية أبريل 2000 رغم الاتهامات الصريحة بتزويره لأصوات الناخبين للبقاء في منصب الرئاسة. بلاد الأباظة المسلمة بدأ شيفرنادزه حكمه بالسماح للقوات الأمريكية بدخول العاصمة تبليس بحجّة تطويق المنطقة وحمايتها من المدّ السوفياتي الشيوعي الذي قد يعود من جديد إلى احتلال جورجيا، رغم أن الغاية كانت تطويق بحر قزوين الغني بالنفط، حسب ما عبّر عنه الرئيس السابق لجمهورية انغوشيتيا المسلمة الجنرال رسلان آوتشيف حينما قال: «(...) إن الهدف الأمريكي في القوقاز هو تطويق بحر قزوين الغني بالنفط ولهذا قاموا بإرسال قواتهم إلى جورجيا بعد سماح شيفرنادزه لهم بذلك، لقد أرادوا دائما التأثير على الوضع في المنطقة لكن الرئيس غامسغورديا كان يقف لهم بالمرصاد ولهذا تخلّصوا منه سريعا وجاؤوا بالبديل والحليف لهم وهو شيفرنادزه، فقد سبق للأمريكيين أن نظّفوا البلقان وآسيا الوسطى والآن يحاصرون بحر قزوين وينظفونه وبالتالي على موسكو التدخل لمنع حدوث ذلك (...)». (يتبع)