اتفقوا على عقد الاجتماع في مطعم شعبي يحمل اسم «فردوس الطاجين»، يوفر، بأثمان زهيدة، طويجنات بالمخ والكبدة والكرعين! ولكي لا يثيروا فضول وحفيظة الزبناء والمارة أو يستفزوا أنظارهم، استقلوا عربات طاكسي بدل الوصول إلى المكان على متن سياراتهم الفارهة من فصيلة المرسيديس والجاكوار والمازيراتي. في المطعم، اختلوا في زاوية شبه مظلمة، طلبوا ثلاثة طواجين وبراد شاي بالنعناع. وبما أنهم أناس عمليون، فقد أكلوا بسرعة (مسحوا الطواجين)، ونفضوا الاجتماع بعد أن اتفقوا على الخطوط العريضة للفكرة. بعدها، تناوبوا على صنبور مخنوق لغسل أيديهم، ولم يجرؤ أحدهم على استعمال صابون الكف الذي تحول إلى «فاخرة» من شدة الوسخ. دس أحدهم حزمة منهم الأوراق النقدية من فئة مائة درهم في يد صاحب المطعم. رافقهم هذا الأخير إلى الباب بعبارات الشكر والامتنان بعدما راودته في البداية شكوك في انتمائهم إلى المافيا. في الغد، ظهرت صفحة إعلانية كاملة تتوسط قلب أغلبية الصحف المغربية بيافطة كتب عليها: «10 من أثرياء المغرب يتنازلون عن 75 في المائة من ثرواتهم الشخصية لبناء المستشفيات والمدارس». وفي النداء الذي وقعوه، طالب هؤلاء المحسنون بأن يتخلى وزراء الحكومة الموقرة عن 50 في المائة من راتبهم الشهري، كمساهمة منهم في البناء الوطني، وأن يستعملوا وسائل النقل العمومي في تنقلاتهم بدل سيارات الدولة. وطلب البيان أيضا من الأثرياء الاحتفاظ بدار واحدة للسكن وبسيارة واحدة والتخلي عن اليخوت والإقلاع عن لعب الكولف.. وزيد وزيد. وافيق آصحيبي من التهتار، ستلد البغلة أو تحدث معجزة يوم يقبل أثرياء المغرب على هذا النوع من التضحيات! لنترك هذا النوع من المبادرات لأثرياء أوربا وأمريكا الذين لهم، على الأقل، فضيلة البوح، وبكل بشفافية، بحجم ثرواتهم وممتلكاتهم، إذ يكشفون سنويا، وبالبيانات المفصلة، عن ممتلكاتهم وأرباحهم. ويكفي الاطلاع على مجلة «فوربس» للوقوف على الترتيب السنوي لكبار أثرياء العالم. في التصنيف الأخير الذي نشرته المجلة، جاء المكسيكي كارلوس سليم حلو على رأس القائمة بثروة مبلغها 53 مليار أورو، وتلاه بيل غيتس بمبلغ 40 مليار أورو، فيما احتل وارن بافيت المرتبة الثالثة بثروة بلغت 36 مليار أورو. لامتصاص نقمة التذمر من هذا الثراء الفاحش، أطلق بعضهم مشاريع خيرية أو مؤسسات تهتم بالمجالين الصحي والتربوي، كما هو شأن بيل وميليندا غيتس اللذين أطلقا في شهر يناير من عام 2000 مؤسسة باسميهما تعمل في المجالين الصحي والتربوي. وقد أبدى العديد من المليارديرات الأمريكيين استعدادهم للتنازل عن قسط من ثرواتهم. هذا الأسبوع، طلع وارن بافيت (من مواليد 1930) بمقال على صفحات «نيويورك تايمز»، أعلن فيه عن استعداده لدفع المزيد من الضرائب، كما دعا الدولة إلى الرفع من سقف الضرائب على كل من تصل ثروته إلى مليون دولار. وندد بافيت بعدم المساواة بين أولئك الذين يجدون صعوبة كبرى في تغطية مصاريف حياتهم اليومية وأولئك الذين يتمتعون بإعفاءات جبائية ضخمة! وليست هذه المرة الأولى التي يقبل فيها بافيت، وهو من كبار المتبرعين في تاريخ الأعمال الخيرية الأمريكية، على مثل هذا النوع من المبادرات. وعلى خلفية الأزمة التي تشل حركة الاقتصاد العالمي، واحتذاءً بدعوة وارن بافيت، نشر 16 ثريا فرنسيا يمثلون كبريات الشركات والمؤسسات الفرنسية، بأسبوعية «لونوفيل أوبسيرفاتور» لهذا الأسبوع، نداء دعوا فيه إلى فرض مساهمة استثنائية تطبق على ذوي المداخيل المرتفعة. حتى المغني شارل أزنافور، السقرام الكبير، أبدى استعداده لتأدية المزيد من الضرائب! وهي المرة الأولى التي يقبل فيها أصحاب الثروات الضخمة الفرنسيون، من رؤساء ومدراء شركات «طوطال» و«أوشان» و«داسو» و«لوريال» و«إل-في-إم-آش» و«بيجو» و... إلخ، على مبادرة من هذا القبيل. وقد لبت الحكومة الفرنسية مطلبهم بفرضها ضريبة استثنائية بنسبة 3 في المائة على العائلات التي يصل دخلها السنوي إلى 500000 أورو. ويبقى السؤال: هل يستحق الأثرياء ثقتنا لما يسلمون هبات طائية أو يتنازلون عن قسط من ثرواتهم لفائدة الدولة أو مؤسسات أخرى؟ إذ تبين التجربة، بجلاء، أن ما يسلمه الأثرياء باليد اليمنى يستعيدونه باليد اليسرى. في بلدنا الغني بفقره، يعمل أثرياؤنا «الأسخياء» بالمثل الشعبي القائل: «ما تا تعطي فابور غير لعكرب». أعود إلى حكاية الأثرياء المغاربة العشرة الذين «ضربوا» الطواجين الثلاثة المشكلة من المخ والكبدة والكرعين، لوضع اللمسة الأخيرة على القصة: «طاحت عليهم الكرش، المساكين!».