لرسول الله الكريم، صلى الله عليه وسلم، مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة لم يبلغها أحد من الخلق، باعتباره آخرَ رسول كُلِّف بنشر الدعوة بين البشرية. رجل أضاء العالم بنور وحيه وإلهامه. وقد جعلت منه هذه المسؤولية التي تحملها إزاء البشرية أجمع نموذجا يُحتذى به في أوساط المؤمنين والمخلصين لدين الإسلام. يطرح مسار محمد العديد من الأسئلة الجوهرية والأبدية، خصوصا أن حياته تجسد المعنى الحقيقي للتواضع والتآخي والاحترام والعدالة والسلام، وفوق كل شيء، للحب. ويحمل هذا الوحي المنزَّل في طياته العديد من الدروس القيّمة للبشر، مهما كانت خلفيتهم الدينية، مسلمين أو غير مسلمين. وقد ارتكز طارق رمضان في عرضه حياة الرسول على بعدين هما الإنسانية والنموذجية. واستنادا إلى مجموعة من المصادر الموثوق بها، يقوم طارق رمضان بالتطرق إلى مسار محمد (ص) مُعزِّزاً نصه بأفكار تحليلية عميقة لهذا المسار. هذا الكتاب لا يسلط الضوء على موضوعية كلام الرسول فقط، بل هو أيضا بمثابة تقديم متميز لديننا الحنيف. الهجرة
مع اقتراب موسم الحج سنة 620، وبعد مرور عام على وفاة زوجة الرسول خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب، واصل محمد نشر تعاليم دين الإسلام وسط اضطهاد منقطع النظير. وفي الوقت الذي كان يستفيد حوالي مائة من المسلمين من حماية ملك الحبشة، كان مسلمو مكة يعانون الأمرين. كان الحجاج يأتون إلى مكة من كل بقاع شبه الجزيرة العربية ويستقرون بمنطقة مينا للمكوث بها طوال مدة الاحتفالات. وكان محمد (ص) كثيرا ما يزورهم لكي يبلغ رجالهم ونساءهم بفحوى الدعوة، خصوصا وأنهم كانوا يجهلون مضمونها، رغم كل ما سمعوه عنها. وبطبيعة الحال، لم تكن هناك آذان صاغية، على غرار الرافضين لدعوة محمد (ص). وليس بعيدا عن مينا، وبالتحديد في العقبة، التقى محمد (ص) بمجموعة من أهل يثرب، وبالتحديد من قبيلة الخزرج، (الخزرج والأوس هي إحدى قبائل يثرب المتصارعة( وبلغهم الرسالة، فما كان منهم إلا أن قبلوا بها ووعدوا محمدا (ص) بأن ينشروها بدورهم بين ذويهم وأهلهم وأن يبقوا على اتصال دائم بالرسول. وبعد مبايعتهم لمحمد (ص)، عادوا إلى يثرب لنشر الدعوة. أما في مكة، فلقد تزايد عدد الذين اعتنقوا دين الإسلام، وواصل محمد (ص) نشر دعوته للعموم. وبالتزامن مع ذلك، تلقى محمد (ص) العديد من النصائح من أهل مكة بخصوص الزواج بعد وفاة خديجة. ورغم كل العروض التي اقترحت عليه، لم يبد محمد (ص) رغبة في ذلك.. ولقد اقترحت عليه خولة، وهي التي تكفلت بشؤونه بعد وفاة خديجة، اسمين، الأول سودة وهي أرملة في الثلاثينات من عمرها والتي كانت قد عادت لتوها من أرض الحبشة إلى مكة، وعائشة ابنة أبي بكر، ذات الست سنوات. ولقد تصادف هذا مع حلم راود محمدا (ص)، حيث أهديت له عائشة كزوجة. وهكذا رأى محمد (ص) في هذه الصدفة إشارة إلى صدق أحلامه. طلب محمد (ص) من خولة أن تقوم بما هو ضروري لمعرفة ما إذا كان من الممكن إتمام هاتين الزيجتين. وفي الوقت الذي كان تعدد الزوجات هو القاعدة في المنطقة العربية، كان وضع محمد (ص) ولمدة 25 سنة من الزواج هو الاستثناء، ذلك أنه لم يتزوج امرأة أخرى في حياة خديجة رضي الله عنها. كان زواج الرسول (ص) من سودة يسيرا، إذ قبلت على الفور بعرض الزواج وتزوجا بعد بضعة أشهر. أما عائشة، فكان أبوها قد وعد بتزويجها لابن مطعم، ولذلك كان على أبي بكر، حسب ما تقتضيه الأعراف، أن يتفاوض مع ابن مطعم للتنازل عن الوعد الذي قدمه له، وبالفعل، قبل ابن مطعم، لتصبح عائشة رسميا هي الزوجة الثانية لرسول الله (ص)، ولقد تزوجا بعد بضع سنوات. وبعد مضي عام، امتلأت مكة من جديد بالحجاج والتجار لحضور احتفالات العام 621 م. ولقد اجتمع محمد (ص) من جديد بوفد من أهل يثرب ليطلعوه عن مجرى الدعوة، وبايع محمدا (ص) 12 شخصا من أهل يثرب، بمن فيهم شخصان من قبيلة الأوس، ولقد نصت هذه المبايعة على ألا يشركوا بالله وأن يحترموا أوامره ويعرضوا عن المنكر. وعند عودتهم إلى يثرب، واصلوا نشر تعاليم الإسلام، ورغم كل الاختلافات والصراعات بين الأوس والخزرج، إلا أن العديد منهم اعتنقوا دين الإسلام وتناسوا أسباب الصراعات بين أجدادهم، ذلك أن رسالة التآخي التي يدعو إليها دين الإسلام كانت توحد صفوفهم. وخلال موسم الحج، الذي تلا تلك السنة، قابل محمد (ص) وفدا مهما من مسلمي يثرب بلغ عددهم 73 شخصا من قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج، ولقد أبلغوا محمدا (ص) بترحيب أهل يثرب بالرسالة السماوية وبعزمهم مواصلة نشرها، وبعدها بايعوا محمدا للمرة الثانية، حيث تعهد مسلمو يثرب بحماية الرسول وحماية مسلمي مكة. هذه المبايعة شجعت محمدا (ص) كثيرا وباشر، على إثرها، دعوة العديد من المسلمين إلى الهجرة سرا إلى يثرب. التعايش لطالما حافظ محمد (ص) على علاقات قوية ومتينة مع مختلف القبائل التي لم تقبل دين الإسلام. وخير مثال على ذلك، عمه أبو طالب، الذي كان يحبه كثيرا ورافقه حتى الرمق الأخير. وكان لمحمد عم آخر واسمه عباس، كان يسانده بشكل كبير في دعوته، لكن دون اعتناق الإسلام. غير أن ثقة محمد به كانت قوية، وكان يشركه في جميع الاجتماعات السرية التي كانت تعقد لتقرير مصير القبائل. وهكذا كان عباس حاضرا في بيعة العقبة الثانية، وكان محمد يحرص على إخباره بكل التفاصيل التي رافقت الهجرة السرية إلى يثرب، ولم يعتنق عباس دين الإسلام إلا بعد عدة سنوات. هذا الاختلاف في المعتقدات، لم يثن، يوما، محمدا عن احترام عمه وائتمانه على أسراره، هذا السلوك الإيجابي والمنفتح هو الذي سمح للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة للاحتماء بملك مسيحي كان يحظى بثقة الرسول، بشكل كبير، رغم اختلاف الديانات. وسيبقى هذا السلوك راسخا في كل معاملات محمد، الذي كان يبني علاقاته على احترام المبادئ والثقة وعدم التفرقة على أساس الديانة، وهذا ما فهمه صحابة الرسول، الذين كانوا أيضا يحظون بعلاقات طيبة بمعتنقي الديانات الأخرى، وذلك باسم الصداقة والاحترام المتبادل، وحتى في أحلك الظروف. ويروى أن أم سلامة، التي أبعدوها عن زوجها، وجدت نفسها وحيدة مع ابنها في الطريق إلى مكة، إلا أنها التقت بعثمان بن طلحة، واقترح عليها أن يحميها حتى تصل لزوجها ولم تتردد أم سلامة في الثقة في عثمان، الذي وفى بوعده وأوصلها إلى بر الأمان. ولن تتوقف أم سلامة عن ذكر هذه الواقعة، إذ كانت تمدح نبل وشيم وأخلاق عثمان بن طلحة، رغم اختلاف ديانته. وتوجد الكثير من الأمثلة التي توضح طبيعة العلاقة التي تجمع بين المسلمين ومعتنقي الديانات الأخرى، وهي علاقة أساسها الاحترام المتبادل. وسيأتي القرآن لاحقا ليحدد المبدأ الذي بنيت عليه هذه العلاقات: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». الإذن بالهجرة بعد وفاة مطعم، الرجل الذي كان يوفر الحماية للرسول، أصبح الوضع في غاية الصعوبة، خصوصا لما لاحظت قريش أن المسلمين بدؤوا في الهجرة من مكة، وبدؤوا بدورهم يبدون العداء الشديد لقريش. وعلى إثر ذلك، اجتمعت القبائل بدعوة من أبي لهب وأبي جهل وقرروا تصفية الرسول...