ترجمة وإعداد - نبيلة ضريف لرسول الله الكريم، صلى الله عليه وسلم، مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة لم يبلغها أحد من الخلق، باعتباره آخرَ رسول كُلِّف بنشر الدعوة بين البشرية. رجل أضاء العالم بنور وحيه وإلهامه. وقد جعلت منه هذه المسؤولية التي تحملها إزاء البشرية أجمع نموذجا يُحتذى به في أوساط المؤمنين والمخلصين لدين الإسلام. يطرح مسار محمد العديد من الأسئلة الجوهرية والأبدية، خصوصا أن حياته تجسد المعنى الحقيقي للتواضع والتآخي والاحترام والعدالة والسلام، وفوق كل شيء، للحب. ويحمل هذا الوحي المنزَّل في طياته العديد الدروس القيّمة للبشر، مهما كانت خلفيتهم الدينية، مسلمين أو غير مسلمين. وقد ارتكز طارق رمضان في عرضه حياة الرسول على بعدين هما الإنسانية والنموذجية. واستنادا إلى مجموعة من المصادر الموثوق بها، يقوم طارق رمضان بالتطرق إلى مسار محمد (ص) مُعزِّزاً نصه بأفكار تحليلية عميقة لهذا المسار. هذا الكتاب لا يسلط الضوء على موضوعية كلام الرسول فقط، بل هو أيضا بمثابة تقديم متميز لديننا الحنيف. الطفل اليتيم لا شك في أن طفولة محمد (ص) كانت صعبة لكنْ، وكما تقول الآيات القرآنية: «فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا». في سن الثامنة، وجد محمد نفسَه يتيم الأب ثم الأم وفقيرا ووحيدا. وعلى فراش الموت، عهد عبد المطلب إلى ابنه أبي طالب برعاية محمد (ص) وذاك ما كان عليه الحال، إذ تكفل بتربيته وكأنه واحد من أبنائه. عندما نضج محمد (ص)، لم يتوقف يوما عن ذكر حسن التربية التي تلقاها من عمه وزوجته فاطمة. طيلة كل هذه العقبات التي واجهته في حياته، كان محمد (ص) تحت حماية ورعاية الله تعالى. وتروي السُّنّة أن الرسول في مكة كان محميا من الإغراءات ومن حضور الأفراح والحفلات، تفاديا لنسيان الذات. ويحكى أنه سمع، ذات يوم، بإقامة حفل زواج في مكة وأراد أن يحضره، وفي طريقه إليه، أحس فجأة بتعب شديد ووقف ليستريح، فإذا به يغفو في نوم عميق أفاقته منه أشعة شمس الصباح الموالي. هذه القصة، ولو أنها تبدو عادية، فهي تظهر كيف أن الله، عز وجل، كان يحرص على إبعاد الرسول عن أي شيء يلهيه عن ذاته. فمحمد غفا واستفاق دون أن يحس بالذنب أو أي عتاب لعدم حضوره هذا الحفل الذي كان شيئا مغريا لطفل في سنه. كان لهذه الإشارات السماوية تأثير كبير على نوع التربية التي تلقاها وعلى طريقة التربية التي سيدعو إليها الناس بعد ذلك، وهي تربية تعتمد على الترغيب والحث على التقاط الإشارات السماوية. وقد كان الرسول يحرص على أن يلفت أنظار الناس إلى كيفية إخماد الغرائز وغض الطرف عن المغريات. ما زالت هذه الطريقة التي كان يفضلها الرسول تُذكّرنا، إلى يومنا هذا، بأن الحس الأخلاقي لا يتربى في الإنسان بين ليلة وضحاها ولا يأتي عن طريق التحريم والترهيب والعقاب، بل مع مرور الوقت وبشكل تدريجي ويعتمد على الإصغاء المتبادَل وعلى الفهم. في السنوات الموالية، أصبح محمد راعيا للغنم، كي يعيل نفسه. وقد ذكر الرسول تجربته هذه للصحابة، باعتبارها نقطة مشترَكة بين جميع الأنبياء والرسل. وفي رواية البخاري، قال محمد (ص) «ما بعث الله نبيا إلا وقد رعى الغنم»، فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها لأهل مكة». ولعل لله حكمة في رعي النبي الغنم، فالرعي يُكسِب صاحبَه يقظة حتى لا يعدو الذئب على شاة منها ويجعله حريصا على المصلحة، صابرا على المشاق، مثابرا كي يوفر لغنمه مآكلها ومشاربها، ثم لأن الرعي يعطي الراعي فرصة للتأمل في مظاهر الطبيعة وفي نظام الكون، حيث يجلس في امتداد الصحراء يلحظ غنمه. ويجد المتتبع لتاريخ الأنبياء أن للغنم دورا كبيرا، فإسماعيل، عليه السلام، ترتبط قمة حياته بكبش أنزله الله فداء له وتصديقا لرؤية أبيه. وبعد أن زاول محمد (ص) رعاية الغنم وأصبح عمره يناهز العشرين، اتجه إلى مزاولة مهنة التجارة التي تفرّغ لها وحقق فيها نجاحا باهرا. الراهب بحيرا في يوم من الأيام، وبعد أن أصبحت حالة عبد المطلب المالية صعبة، قرر أن يذهب هو ومحمد، البالغ آنذاك اثني عشر عاما، إلى الشام، وفي طريقهما إليها توقفا في منطقة البصرة، حيث كان يقطن راهب مسيحي معروف اسمه بحيرا. عندما لمح هذا الراهب مجيء قافلة تحت سحابة بدت وكأنها تحميها من أشعة الشمس تَملَّكه فضول غريب في معرفة المزيد عنها، فقرر أن يدعوهما إلى تناول وجبة، عكس ما تجري به عادات الرهبان. وعندما استقبلهما الراهب بحيرا، أطال النظر في محمد واقترب منه ودخل معه في حديث مطول عن أعماله وأحلامه وغير ذلك من مسائل شخصية.. وفي آخر الحديث، طلب منه أن يكشف له عن ظهره، فكان له ذلك، فلاحظ بحيرا خاتم النبوة بين كتفي محمد وسارع إلى إخبار جده بذلك وحذره من أن يصيبه أذى، كما حدث لكل أنبياء ورسل الله. وهكذا، ومنذ طفولته والإشارات تتوالى لتؤكد أن محمدا كان، بالفعل، شخصا متميزا وأن مصيره مختلف عن باقي البشر، وهذا ما أكده الراهب بحيرا كذلك، ليدخل محمد التاريخ المقدس للنبوءات من بابه الواسع. الزواج
بعد أن تفرغ محمد (ص) للتجارة، تمكَّن من كسب احترام الجميع وأصبح معروفا، لأمانته واستقامته، فأصبح يُعرَف ب«الصديق الأمين»، وهو لم يتعدَّ سن العشرين بعد. وكانت خديجة بنت خويلد، آنذاك، من أغنى التجار. تزوجت هذه التاجرة مرتين وترملت في آخر المطاف، وكانت ابنة عم المسيحي ورقة بن نوفل. وكانت خديجة قد سمعت، مرارا وتكرارا، عن محمد (ص) وعن استقامته ونزاهته، لذا قررت أن تختبره فكلّفته بالمتاجرة بسلعتها ونقلها إلى سوريا. وقد وضعت رهن إشارته خادمها «ميسرة» ووعدته بمضاعفة أجره إذا ما أبلى البلاء الحسن. قبِلَ محمد (ص) بهذه المهمة واتجه إلى سوريا، بصحبة «ميسرة»، وحقق نجاحا أكثر بكثير مما كانت تنتظره خديجة رضي الله عنها: عاد إليها هو والخادم وشرح لها سر نجاحه، فتمعنت خديجة في وجهه، الذي بدا وكأن نورا ينبعث منه.. وبعد أن انصرف محمد، أخبرها «ميسرة» أنه وفي طريقهما إلى الشام، لاحظ العديد من الأمور الغريبة والإشارات تفيد أنه رجل يختلف عن باقي البشر... وهكذا، قامت خديجة، رضي الله عنها، بتكليف صديقة لها، واسمها «نفيسة»، أن تعرف ما إذا كان محمد مهتما بالزواج، وكان عمره آنذاك 25 سنة، فأجابها بأنه لا يملك المال الكافي، وعندما ذُكِرت اسم خديجة، التي يرى فيها محمد الجمال والمال والنسب والأخلاق، قال إنه يود ذلك إلا أن حالته المادية لا تسمح له. لم تخبر «نفيسة» محمدا (ص) أن خديجة كلّفتها بمناقشة هذا الموضوع وقالت، بدل ذلك، إنها ستتكلف بهذا الأمر لتجعل هذا الزواج ممكنا. وبعد أن علمت خديجة باستعداد محمد للزواج منها، استدعته وعرضت عليه الزواج، وكان رده بالإيجاب. وما كان عليهما سوى إخبار القبائل لإتمام مشروع الزواج، وبالفعل، علم الجميع بقرار زواجهما ولم يعترض أحد على هذا الزواج، بل باركه الجميع. وتروي كتب السُّنة أن السيدة خديجة، رضي الله عنها، كانت تبلغ من العمر 40 سنة أثناء الزواج، غير أن بعض الروايات المغايرة تقول إنها كانت أصغر من ذلك، فعبد الله بن مسعود، مثلا، يقول إن السيدة خديجة كانت تبلغ 28 سنة، وهذا أقرب إلى الواقع، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن خديجة رزقت بستة أبناء من هذا الزواج.. وبعد أن توفي عبد الله، أراد محمد (ص) أن يمد يد المساعدة لعمه أبي طالب، الذي كان في ضائقة مالية ويعيل أسرة متعددة الأفراد، فاستضاف ابن عمه عليا بن أبي طالب، لتكبر عائلة الرسول شيئا فشيئا، خصوصا بعد أن تزوج علي بن أبي طالب من «فاطمة»، أصغر بنات الرسول...