لرسول الله الكريم، صلى الله عليه وسلم، مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة لم يبلغها أحد من الخلق، باعتباره آخرَ رسول كُلِّف بنشر الدعوة بين البشرية. رجل أضاء العالم بنور وحيه وإلهامه. وقد جعلت منه هذه المسؤولية التي تحملها إزاء البشرية أجمع نموذجا يُحتذى به في أوساط المؤمنين والمخلصين لدين الإسلام. يطرح مسار محمد العديد من الأسئلة الجوهرية والأبدية، خصوصا أن حياته تجسد المعنى الحقيقي للتواضع والتآخي والاحترام والعدالة والسلام، وفوق كل شيء، للحب. ويحمل هذا الوحي المنزَّل في طياته العديد الدروس القيّمة للبشر، مهما كانت خلفيتهم الدينية، مسلمين أو غير مسلمين. وقد ارتكز طارق رمضان في عرضه حياة الرسول على بعدين هما الإنسانية والنموذجية. واستنادا إلى مجموعة من المصادر الموثوق بها، يقوم طارق رمضان بالتطرق إلى مسار محمد (ص) مُعزِّزاً نصه بأفكار تحليلية عميقة لهذا المسار. هذا الكتاب لا يسلط الضوء على موضوعية كلام الرسول فقط، بل هو أيضا بمثابة تقديم متميز لديننا الحنيف. التربية والطبيعة أثرت الفترة التي قضاها محمد في الصحراء القاحلة بشكل كبير على شخصيته وعلى رؤيته إلى الأشياء والبشرية أجمعين. كان من المعروف والمتعارف عليه آنذاك أن اكتساب موهبة الحكي الشفهي وتناقله كان شيئا متداوَلا بين البدو، أما رسول الله (ص) فتميز بقوة ذاكرته وطلاقته وفصاحته اللغوية، وخاصة قدرته الهائلة على نقل التعليمات الإلهية بشكل واضح مقتضب. إن الطبيعة القاحلة هي منبت النبوءات، لأنها تُمكِّن الإنسان من العيش في آفاق لا منتهية. وفي حياة الرحل الذين كانوا يتجولون من مكان إلى آخر، كانت محدودية الأفق مرتبطة ارتباطا وثيقا بمفهوم الحرية. فالرحل يتعلمون وينضجون في قلب المكان اللا متناهي، أما محدودية الزمان فهي تجربة المؤمن التي سيصفها الرسول (ص) ويتحدث عنها بعد ذلك لعبد الله بن عمر بطريقة تذكرنا بالحديث الذي رواه البخاري: «كن فوق الأرض كأنك غريب أو عابر سبيل»... هذه المرحلة المبكرة التي عاشها الرسول من حياته ستقوي علاقته بشكل خاص مع الطبيعة، التي ستبقى عاملا ثابتا في مسيرته ورسالته السماوية، فالكون مليء بالإشارات التي تدل على وجود الخالق، والصحراء هي جزء من الطبيعة التي تفتح للإنسان مجال للتأمل والتّمعُّن. ونجد في هذا السياق العديد من الآيات القرآنية التي تحيل على ما جاء في «سِفر التكوين» من تعليمات ودروس إلهية. كانت علاقة الرسول بالطبيعة جد قوية منذ صغر سنه، ويشير القرآن الكريم، في العديد من آياته، إلى أن المؤمن الحقيقي يجب أن يتأمل ويلاحظ ويسافر ويتجول، لأن التقرب من الطبيعة وفهمها واحترامها عامل أساسي وضروري لتقوية لإيمان. وبينما كان الرسول في المدينة، وفي خضم الحروب والنزاعات، جاء الوحي في غمرة الليل ليغيّر نظرته إلى الأشياء. يقول تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ». ويُحكى أن الرسول بكى ليلة كاملة عندما أوحي إليه بهذه الآية القرآنية، وفي الفجر، عندما سأله المؤذن عن سبب بكائه، شرح له سبب حزنه وقال له: «بئسا لمن يسمع هذه الآية ولم يتأمل فيها». وتشير آية أخرى إلى وجود العديد من الإشارات الإلهية، كقوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». إِن الطبيعة هي دليل الإيمان ورفيقة دربه الحميم، لهذا أراد الله أن يجتاز محمد (ص) منذ نعومة أظافره تجارب قاسية في الطبيعة، لكي يستخلص الدروس اللازمة منها. شق الصدر تروي السنة قصة حادث عاشه الرسول (ص) عندما كان يبلغ 4 سنوات من العمر. آنذاك، كان يلعب مع أطفال قبائل بني سعد، وتحكي حليمة أن ابنها قدِم إليها، ذات يوم، مذعورا وقال لها ولزوجها إن رجلين يرتديان الأبيض أوقفا محمدا وطرحاه أرضا وشقا صدره وأدخلا يديهما فيه. وحين سمعت ما قاله أخو محمد بالرضاعة، ركضت حليمة وزوجها إلى عين المكان، حيث وجدا محمدا على الأرض ووجهه شاحب ليؤكد، لهم ما قاله أخوه، مضيفا أن الرجلين بعد أن فتحا صدره «لمسا شيئا ما، لا أعرف ما هو». بعد أن سمع الزوجان هذه القصة، فزعا لِما قد يصيب محمدا من أذى، فقررا أن يحملاه إلى أمه. وتحت إصرارها على إخبارها بسبب إرجاعه، اضطرا إلى إخبارها بما حدث، غير أنها لم تفاجأ وأخبرتهما أنها لاحظت الكثير من الإشارات التي توحي أن مستقبلا مميزا ينتظر محمدا... وبعد بضع سنوات، تكلم الرسول عن هذه الحادثة وأكد أن رجلين قاما بفتح صدره وأخرجا قلبه وفتحاه واستخرجا حجرة سوداء ورمياها بعيدا وقاما بعد ذلك بغسل قلبه وصدره بالثلج... ويكمن البعد الروحي لهذه الحادثة في أن الرسول، ومنذ نعومة أظافره، كان يحظى بحماية من كل نزعات الشر التي تراود البشر. فالله، عز وجلّ، طهّر صدره وقلبه ليُحضّره لأداء الرسالة السماوية، ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي مر فيها محمد بمثل هذه التجربة، فبعد مرور حوالي 50 سنة، سيفتح قلبه ليُطهَّر، ليكون مستعدا لخوض تجربة الرحلة الليلية إلى بيت المقدس والرفع إلى سدرة المنتهى. وضعت هذه التجارب الروحية المتميزة المصطفى على الطريق الصحيح وحضّرتْه لكي يتلقى الرسالة السماوية ولكي يدعو الناس إلى أداء الصلاة، التي تعتبر أحد ركائز الإسلام. وقد جاء القرآن بآيات تظهر هذا التفرد الإلهي: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ». سيعيش محمد سنتين مع والدته، وفي سن السادسة، ستقرر اصطحابه في رحلة إلى يثرب لكي يتعرف عليه أفراد عائلته. وبالفعل، تحقق ما أرادته أمينة. إلا أنه وفي طريق عودتهما، وافتها المنية في مدينة الأبواء، وهو نفس المكان الذي دُفِنت فيه. بعد أن أصبح محمد يتيم الأب والأم، عانى من الوحدة والألم. وكانت كل هذه المعاناة إشارات إلهية على تفرده وتميزه عن باقي البشر. بعد أن توفيت أمينة، تكفلت بركة بنت ثعلب، وهي حاضنة محمد ومربيته، بإعادته إلى مكة، ليتكفل جده عبد المطلب، بعد ذلك، برعايته ومنحه قدرا كبيرا من الحب والاحترام. وبعد سنتين، توفى عبد المطلب، بدوره، ليترك محمدا وحيدا، من جديد.