هم نجوم رمضان بدون منازع، يسرقون خلال الشهر الفضيل الأضواء من كبار الأسماء في الغناء والسينما أو حتى في الرياضة، وينالون بذلك قسطا مهما من اهتمامات الصائمين... إنهم أئمة مساجد صاروا أشهر من نار على علم، يقصدهم الخاص والعام، ويتسابق على الصلاة خلف منابرهم من استطاع إلى ذلك سبيلا ومن لم يستطع، إلى درجة يذهب معها الكثير إلى الإفطار وأداء صلاة المغرب بواحد من مساجد هؤلاء «النجوم»، وذلك حرصا على ضمان مكان يمكن انطلاقا منه سماع صوت الإمام بوضوح والاستمتاع به. «المساء» التقت بعينة من هؤلاء وحاولت الغوص في حياتهم الخاصة. إلى مسجد الخليل في حي القدس التابع لعمالة البرنوصي في الدارالبيضاء، يتداعى المصلون جماعات ومن كل الأحياء، فور سماعهم أذان العشاء، وذلك طمعا في ضمان مكان يؤمن الصلاة قريبا ما أمكن من إمام المسجد الذي يرسل، عبر المكبرات، صوتا عذبا فيه من رقة الطفولة أو الشباب الشيء الكثير، إلى درجة يمكن معها القول إن كل من ساقته الأقدار إلى الصلاة يوما في مسجد حي القدس، يسقط أسيرا لحلاوة القرآن الذي يتلى بين جنبات المسجد ذاته، لذلك تراه يعاود المجيء أنى سنحت له الظروف. يؤم الناس في هذا المسجد الشهير في الجهة الشمالية للدار البيضاء شاب يافع، اقتحم مبكرا بيوت الله قارئا للقرآن، حيث وجد نفسه في المحراب، ذات عام، دون أن يكون قد خطط لذلك، فقط حِفْظه للقرآن وأداؤه له بشكل ساحر هما ما حدا بالآخرين إلى الدفع به إلى المحراب، كيف لا؟ يقول أحد مرتادي مسجد الخليل قبل أن يضيف: «الصلاة وراء إمام هذا المسجد تشدني إلى كلمات القرآن كلمة كلمة، ولا أجدني شاردا أو منشغلا بالتفكير في أمر ما كما يحدث عادة لغالبية المصلين أثناء الصلاة، فردية كانت أو جماعية، إذ إنه بقدر ما يحسن الإمام القراءة ينجح في الارتقاء بك إلى درجات عُلى من الخشوع، وبالقدر الذي تكون فيه القراءة غير موفقة يتحرر المصلي من عقال القرآن ويتيه بين الغابر من الذكريات». إمامنا اليوم هو محمد قصطالي الذي لم يكمل عامه الواحد والعشرين بعد، إذ إنه من مواليد عام 1990 في الدارالبيضاء، وبالضبط في أحد أكبر أحيائها الشعبية فقرا وتهميشا، وهو حي سيدي مومن الذي صار أشهر الأحياء المغربية على الإطلاق عقب أحداث الدارالبيضاء لعام 2003. إنه كبير إخوته الثلاثة أو هو، بصيغة أخرى، الابن البكر لأسرته التي، كغيرها من الأسر المغربية، تكن كبير الحب لابنها البكر، وفي الآن ذاته تعقد عليه آمالا عريضة في قيادة القادمين من إخوانه إلى شط النجاح، لذلك كان العبء ثقيلا، يقول قصطالي قبل أن يردف أنه وإن لم يكن يعي في صغره تماما نوع المسؤولية المطالب بالنجاح فيها، فإنه كان بطريقة أو أخرى يستشعرها، دليله في ذلك أنه لامس الأبوة وهو في سن العشرين، مع ما يعنيه ذلك من نضج سابق لأوانه يدفع بالمرء أحيانا إلى التحمل الكامل للمسؤولية، من خلال عدم التوقف عند بعض الفترات الهامشية في عمره. عند بلوغه سن التمدرس، التحق الطفل محمد بمدرسة «رابعة العدوية»، ومعها توازيا، أو بعدها بقليل، التحق بكتاب الحي، ليلتزم إزاء نفسه وهو صغير بالسير في الدربيْن معا، المدرسة والكتاب، لذلك ما إن كان يغادر طاولة القسم إلا ويهب مهرولا إلى المسجد لعله يظفر بحفظ بعض من آي كتاب الله. ظلت أحوال الفتى هكذا، وواصل السير على نفس النهج بتشجيع من والديه واستعداد فطري منه، مكنه من حفظ ما يفوق عشرة أحزاب في مرحلة تعليمه الابتدائي الذي ما إن أنهاه حتى قررت الأسرة الرحيل عن الحي، مسقط رأس محمد الذي، فضلا عن كونه مرتعا للطفولة، فيه «الجامع» والمدرسة. توجهت أسرة قصطالي إلى حي أناسي، فاختار الأخير الالتحاق بإعدادية الحنصالي لإكمال دراسته النظامية التي ابتدأها مع الأقران من أبناء الحي والجيران، إلا أن هذا كله لم ينس صاحبنا أن درب القرآن لا زال في انتظاره، فالتحق لتوه، بعد طول بحث عن الكتاتيب أو المؤسسات ذات الصلة بالقرآن، بمسجد علال الفاسي الموجود في الحي الجديد نفسه، والذي يشرف عليه الشيخ عباس عشاق. وفي عام 2006، تم في حي أناسي افتتاح مسجد «الأندلس»، الشهير بمسجد الكوشي لمواظبة هذا المقرئ ذي الصيت الكبير على إمامة الناس فيه. وعليه، رأى صاحبنا في الأمر فرصة، أو بالأحرى هبة ربانية، على حد قوله، فالتحق مسرعا بالمسجد ليسجل ضمن خانة طلبة العلم الجدد، وهنالك قرأ على يد الشيخ كبور، الذي هو بالمناسبة أستاذ الكوشي نفسه، وتتلمذ أيضا في مادة التجويد على يد الدكتور سعيد ربيع. أما بخصوص الدراسة الثانوية، فقد قضاها صاحبنا في ثانوية «ابن المعتز» التي التحق بها في عام 2008، مسجلا في شعبة التعليم الأصيل-تخصص لغة عربية، واجتاز بها جميع المراحل بنجاح إلى أن نال شهادة الباكلوريا خلال العام الجاري، وهو مقبل على التسجيل في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في المحمدية بشعبة الدراسات الإسلامية. احتل أبو مريم الرتبة الأولى في الجائزة التي سبق للقناة الثانية أن أجرتها في عام 2007، وذلك في صنف التجويد، الذي احتل فيه المرتبة الثانية أيضا في نفس العام خلال جائزة محمد السادس لحفظ القرآن وتجويده. وفي العام الماضي، جاء محمد قصطالي سادسا في الجائزة العالمية للتجويد والتلاوة، التي نظمتها ليبيا، وعاد بعدها ليحتل الرتبة الأولى بالكويت في مسابقة التلاوة والتجويد. ومن فرط إعجاب الكويتيين بصوت الفتى، فقد طُلب لأداء صلاة التراويح خلال العشرة أيام الأخيرة من رمضان الجاري، كما أنه من بين خمسة عناصر مؤهلة لتمثيل المغرب في مسابقة المزمار الذهبي التي تنظمها قناة «الفجر».