هم نجوم رمضان بدون منازع، يسرقون خلال الشهر الفضيل الأضواء من كبار الأسماء في الغناء والسينما أو حتى في الرياضة، وينالون بذلك قسطا مهما من اهتمامات الصائمين... إنهم أئمة مساجد صاروا أشهر من نار على علم، يقصدهم الخاص والعام، ويتسابق على الصلاة خلف منابرهم من استطاع إلى ذلك سبيلا ومن لم يستطع، إلى درجة يذهب معها الكثير إلى الإفطار وأداء صلاة المغرب بواحد من مساجد هؤلاء «النجوم»، وذلك حرصا على ضمان مكان يمكن انطلاقا منه سماع صوت الإمام بوضوح والاستمتاع به. «المساء» التقت بعينة من هؤلاء وحاولت الغوص في حياتهم الخاصة. ليس سهلا أن تكون إماما في مسجد الكتبية العتيق بمراكش، كما أنه ليس من السهولة بمكان الوقوف في نفس المحراب الذي وقف فيه عبر التاريخ مئات السابقين، أكثر من هذا فمجرد الوقوف أمام جامع الكتبية كزائر أو سائح يثير لدى المرء شعورا بالذوبان وسط شعاب الزمن، ويتراءى له مكتوبا على حجارة المسجد العتيق: «أيها الواقف أمام المسجد أو فيه، في المكان حيث تقف، مر قبلك الآلاف عبر مئات السنين، ويعلم الله من سيأتي بعدك ومتى». للصلاة في رمضان بمسجد الكتبية، قلب مدينة مراكش، طعم خاص، تزداد معه الخصوصية عندما يعرف أن الذي يؤم الناس في صلواتهم هو الشاب الثلاثيني وديع شكير، الذي فرض اسمه بقوة على مجالس المدينة الحمراء وصار موضوع حديث العام والخاص فيها، منذ العام الماضي تاريخ التحاقه بالجامع الكبير للمدينة وإمامته الناس هنالك في صلاة التراويح التي حضرها، على سبيل المثال، ليلة الختم في رمضان الفائت ما يربو على 50000 مصلٍّ. ازداد وديع شكير بالمدينة القديمة في مراكش، شهر ماي لعام 1981، وسط أسرة تتكون، بالإضافة إلى الوالدين، من خمسة أطفال، هو رابعهم من حيث الترتيب، وأبان منذ نعومة أظافره عن ميل متميز إلى قراءة القرآن من خلال محاولته تقليد صوت أي مقرئ يسمعه، إلى درجة وصل معها إلى رفع الأذان بمسجد المنصور في حي القصبة وهو لم يتجاوز بعد سن الرابعة، وقدمه لذلك مؤذن المسجد الذي وقف على قريحته عند إحدى زياراته لصديقه الذي هو بالمناسبة جَد وديع نفسه، أما جدته من جهة الأم فيعترف الإمام الشاب بأن اللحن الجميل لتراتيل الذكر وقراءة القرآن، الذي كانت تُسمعه إياه وهو صغير بين يديها، لازال طنينه يرن بأذنيه حتى يومنا هذا، «فهي من أذاقتني حلاوة القرآن»، يقول وديع قبل أن يضيف أن ذلك جعله يقرر في مصير توجهاته الكبرى في الحياة منذ الصغر، توجهات تتمحور حول السير على طريق القرآن واغتراف حلاوته إلى أبعد مدى. التحق وديع ب»الحضار» وهي كناية أهل البلد عن الكُتاب، وأمضى فيه زهاء سنة، كان الطفل الصغير خلالها لا يكاد يبارح مكانه أمام «الفقيه»، مبينا عن حب طفولي شديد للقرآن، فلم يكن كغيره من الأطفال الذين يغمرهم الفرح كلما اتسع مجال الوقت أمامهم للعب، بل كان كل همه أن يقرأ ويرتل ويستظهر آيات الكتاب المبين، مستعينا في ذلك، وهو طفل صغير لم يبلغ سن التمدرس بعد، بالاستماع إلى أشرطة كبار المقرئين آنئذ كمصطفى إسماعيل والمنشاوي. بعد سنة على التحاق وديع بالكتاب، قدر للأسرة أن تغادر إلى حي آخر هو إيسيل، فيه تابع الطفل الصغير دراساته الابتدائية والإعدادية والثانوية على التوالي في مدرسة وادي المخازن وإعدادية الإمام مالك وثانوية القاضي عياض، حرص الطفل شكير خلال سنينها الطويلة، وبالضبط في أوقات الفراغ، على الإبقاء على حبل الود قائما بينه وبين القرآن، حفظا وقراءة وتجويدا، ليتوج هذا المسار في عام 2000 بإتمام حفظ القرآن والحصول على شهادة الباكلوريا. تم الخضوع في سنة التتويج أعلاه لنظام صارم، كان يبتدئ من ساعة الفجر، إذ بعد أداء الصلاة، يُسار إلى حفظ القرآن واستظهاره حتى مطلع الشمس، يتم بعدها تناول وجبة الفطور والالتحاق مباشرة بصفوف الدراسة النظامية حيث السنة الأخيرة من تعليمه الثانوي، الباكلوريا-تخصص علوم تجريبية، التي تقتضي مواكبة خاصة هي الأخرى، وحيث إن الله شاء أن يمن بخيره -يقول وديع- فإنه «كتب علي الحصول على الشهادتين معا في عام واحد»، علما -يضيف الإمام الصغير- بأن من زكاه في حفظ القرآن هو شيخه الذي تتلمذ على يديه، إمام مسجد الرحمة وعضو المجلس العلمي في مراكش الحسين العفيفي، ليلتحق في العام الموالي بجامعة القاضي عياض متخصصا في دراسة القانون. وفي عام 2004، حصل وديع على الإجازة في القانون الخاص، وبعدها بثلاث سنوات حصل على شهادة كاتب أول للموثق، علما بأنه أثناء دراساته الأكاديمية حافظ إمام مسجد مراكش الشهير على إمامته المصلين في صلاة التراويح بالعديد من مساجد المدينة الحمراء، وخلف كل مسجد توجد حكاية، لا يتسع المجال لعرضها كلها، لكن لا بأس من الوقوف قليلا عند بعضها. يعتبر عام 2001 تاريخ الانطلاق الرسمي في إمامة الناس أثناء صلاة التراويح بالنسبة إلى وديع شكير انطلاقا من مسجد صغير في باب دكالة، وفي حي أزلي كان الإمام الصاعد لحظتها يتقدم لإمامة الناس في صلاة العشاء بين الفينة والأخرى في مسجد صغير بالحي، وحدث أن تم بناء مسجد كبير كان المقبلون عليه، ممن تتاح لهم فرصة سماع صوت الإمام الشاب، يغيرون الاتجاه لحظتها صوب المسجد الصغير. وعلى هذه الخلفية، تم الاتصال بالوالد -يقول وديع- وطلب منه إبلاغ الابن بضرورة التوجه إلى المسجد الجديد لإمامة الناس فيه. وعند الاتصال بالقائمين على المسجد وإخبارهم بالأمر، كان جوابهم أنه تمت المناداة على إمام آخر، لكن ما حز في نفس وديع هو العبارة التي قيلت له لحظتها والتي مفادها أن الإمامة حرفة لا يمكن لمن هب ودب أن يحترفها. كان لوقع العبارة الأخيرة أثر كبير على نفسية الشاب العشريني الذي يحلق بخياله إلى عنان السماء، فعاد لتوه إلى مسجد باب دكالة الذي شكل انطلاقته الرسمية. وفي العام الموالي، 2002، توجه صاحبنا إلى مسجد الرحمة بحي إيسيل وصلى بالناس هنالك وسط الأهل والأصحاب، أما رمضان الموالي الموافق لعام 2003 فقد قضاه صاحبنا إماما في مسجد حي القصبة، واستمر فيه حتى عام 2009، تاريخ اشتغال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على موضوع الانهيارات في المساجد العتيقة للمملكة، فحدث أن صدر أمر بإغلاق المسجد. وفي السنة ذاتها، عرف مسجد الكتبية خصاصا في الساهرين عليه جراء وفاة الإمام المعتمد آنذاك، وانتقال الشيخ النابلسي إلى مسجد الأميرة في حي المحاميد، فتمت المناداة على الإمام الشاب ليصلي بالناس في أشهر مسجد بمراكش ومعه المغرب ككل، خلال رمضان الفائت ورمضان الحالي، وصار المسجد يعرف إقبالا كبيرا يلامس فيه عدد المصلين معدل ثلاثين ألف مصل، والأكثر إثارة هو شيوع أجواء روحانية في محيط المسجد، دفعت بما يربو على تسعة أجانب، خلال العام الماضي، إلى إعلان إسلامهم، وخلال رمضان الحالي، وبالضبط يوم الأحد الفارط، تم الإعلان في ذات المسجد وعلى يدي نفس الإمام عن إسلام مواطنة بلجيكية.