يرى ج. ج. روسو أن الأفراد عندما يتنازلون للحاكم فإنهم لا يفعلون ذلك نهائيا، بل يكون تنازلهم مشروطا بأن يكون الحكم لصالحهم وإلا فإنه يكون لهم حق فسخ ذلك العقد إذا تبين أن الحكم لا يحقق المصلحة العامة. ويعني ذلك أن الحاكمين خاضعون لرقابة الشعب الذي له الحق في إزاحتهم إذا انحرفوا بالحكم عن غاياته ومقاصده، وهو ما يعني أن الشعوب هي التي يجب أن تسيطر على الحكومات لا العكس. لقد سقط الملايين في القرن الماضي ضحايا حروب وصراعات محلية وقارية نتيجة قرارات فردية اتخذها حكام جعلوا أنفسهم معصومين من الخطأ واستأثروا بالسلطة، فجرَّ ذلك على العالم ويلات ومشكلات ستشكل مصدرا للخلافات والصراعات بين الشعوب مستقبلا، مما دفع الغرب إلى وضع حد لعادة تقديس الحكام لأنها تشكل مصدرا لمآسي الشعوب وآلامها. لم تورث ثقافة تقديس الزعامات إلا المهالك والجمود، كما أدت إلى التخلف في جميع مجالات الحياة. لكن، للأسف لم يتخلص العالم بعد من تقديس الزعامة، إذ يمكن ملاحظته في بعض بلدان العالم الثالث، وخصوصا في بعض بلدان الشرق، حيث تفتقر العلاقة بين الحكام والمحكومين إلى المعايير الإنسانية والأخلاقية والعلمية التي يمكن الاستناد إليها للحكم على الأشخاص والأشياء. وقد نجم عن هذا تكريس ظاهرة تقديس الحكام التي ترسخت في ذهنية أغلب تلك الشعوب بشكل لا واع ولا إرادي، حيث تنهض أساسا على مجموعة من التصورات والعواطف وردود الفعل العفوية الناتجة عن انفعالات آنية لا تقوم على تفكير عقلاني مدروس، بل هي مجرد نتيجة ردود فعل تلقائية ناجمة عن سياسات ثيوقراطية تمكنت من التحكم في أفكار الناس ومواقفهم، وأفقدتهم حريتهم، وجعلت من الحكام رموزا خالدة حتى ولو ارتكبوا أخطاء كبرى. وهذا ما جعل الحاكمين لا ينهجون سياسات علمية-عملية تجعل الشعب شريكا وفاعلا في صنع القرارات. تسيطر على فكرنا العربي ثقافة تقديس الزعامة أو التنظيم أو الجماعة. وترجع هذه الثقافة كل إنجازات البلاد إلى شخص معين أو تنظيم في حد ذاته دون منح أي اعتبار للمجهود الجماعي الذي حقق تلك المنجزات، فيتم تقديمها إلى الشعب باعتبارها هبات تمنح له لا بوصفها أعمالا يقتضيها واجب التنمية الذي يقع على عاتق من يتحملون مسؤولية الحكم. نتيجة ذلك، تعد هذه الثقافة سببا في تخلفنا وعائقا في وجه الإصلاح والتطور الفكري المفضي إلى التخلف السياسي والاجتماعي والديني، إذ يقزِّمُ هذا النمط من التفكير الأمة والوطن والفكر والدين لأنه يختزلها في زعامة أو تنظيم أو جماعة.. فلا يجوز اختزال فكرة الدين الدالة على الله تعالى ونسبتها إلى زعيم أو شيخ أو مذهب أو تنظيم أو اتجاه أو فكر ديني معين يعتريه الخطأ ويشوبه النقص، فهو يظل من إنشاء البشر. وتكمن خطورة هذا الأمر في أنه يربط بشكل وثني بين الدين وشيوخ جماعات الإسلام السياسي، ويمكنهم من توظيفه لخدمة أجندة سياسية عوض توظيف السياسة لخدمة الإنسان، مع أن هذا هو مقصد الدين .. لا يوجد بين البشر معصومون عن الخطأ أو مُطَهَّرُون مرفوع عنهم قلم النقد ومتعالون عن المحاسبة، مما يستوجب أن يكون باب النقد والحساب مفتوحا على مصراعيه، شريطة أن يخضع هذا النقد لآليات النقد ومناهجه وأخلاقياته. فبدون ذلك، سنطبق كل ما قيل ويقال لنا من غير ميزان مرجعي نميز من خلاله الصواب عن الخطأ. تحُول ظاهرة تقديس الزعامة والتنظيمات دون تطورنا وتمنعنا من محاسبة الفاسدين.. مما يؤكد أنه لا إمكانية لبناء الديمقراطية في ظل التقديس، إذ لا تصنع الحرية أي تغيير إذا اقترنت بعادة تقديس الزعامات والتنظيمات.. حيث هناك دول ديمقراطية يتغير فيها الحكام كل أربع سنوات، لكن ثقافة تقديس الزعامات السائدة فيها والمانعة لتوجيه النقد إليهم ومساءلتهم جعلت بلدان تلك الشعوب متخلفة، لأنه من المستحيل عليها أن تلحق بركب التقدم عبر اعتماد آراء حكامها وحدهم.. كما أن نزع القداسة عن البشر هو السبيل إلى التخلص من الاستبداد والفساد مادام تقديس الزعامات مجرد غطاء لهما. أضف إلى ذلك أن هذا التقديس يتعارض جذريا مع بناء الدولة الحديثة والديمقراطية. يرسخ تقديس الزعامات النزعة التقليدية، مما يمكِّن قوى التقليد من إضعاف قوى الحداثة والاستئثار بالسلطة والثروة في آن. وهذا ما رسَّخ في ذهن بعض الناس أنهم لن يحققوا نجاحهم بالنضال من أجل التغيير، وإنما عبر الارتباط بالسلطة. والحقيقة أن ما يثوي وراء ذلك الرسوخ هو الرغبة في الفوز بالثروة، وبذلك أصبحت الدولة مصدرا للثراء، حيث يسود نظام الريع، مما جعل أغلب الزعامات الحزبية تقع في قبضة السلطة التي توظفها كما تشاء. أضف إلى ذلك أن نظام الريع يتعارض جذريا مع الديمقراطية، ويحول دون الإنتاج العقلاني للثروة وتراكمها، كما أنه لا يسمح بإفراز نخب ديمقراطية تستند في استمرارها إلى دولة عصرية يحكمها القانون. ليست السلطة عندنا إلا تسلطا هدفه الدفاع عن مصالح الحاكمين، كما لا يهدف العمل السياسي إلى بناء مجتمع جديد، بل إلى مجرد بلوغ السلطة، وهذا ما جعل بنية السلطة ذاتها قائمة على عنف مادي ورمزي في الآن نفسه. وقد نتج عن ذلك أن تم تحويل «المجتمع» إلى شركة ترأسها السلطة، و»الوطن» إلى «متجر» يديره أهل السلطة وأتباعهم. يقول الحاكمون في بلادنا إنهم يعملون على إرساء الحرية والديمقراطية، لكن المواطنين لا يرون إلا الاستبداد، لأن الحاكمين مهووسون بالسلطة وبامتيازاتها، مما آل بأغلب المواطنين إلى عدم الثقة في العملية السياسية ومقاطعتها. تقتضي مواكبة معطيات روح العصر التخلص من ظاهرة تقديس الزعامة السياسية والطائفية والقبلية، وهذا ما يستوجب إعادة بناء الذات والتخلص من طقوس التقديس وبدعة نظرية الحكم الإلهي وتوجيه النقد إلى الجماعات الدينية التي تحاول فرض وصايتها على المواطنين باسم الدين. ويفرض علينا هذا أن نختار، ديمقراطيا، قادتنا الذين سيكونون في خدمتنا، وأن نتخلص من أوهامنا التي أدْمنّاها والتي جعلتنا لا نتعامل مع الحكام والزعماء باعتبارهم بشرا يصيبون ويخطئون، مما يستلزم خضوعهم للمساءلة والمحاسبة والعقاب إذا أخطؤوا لأنهم ليسوا فوق الإرادة العامة. يلزم أن تكون سلطة التشريع مدنية، وللإنسان المدني، لا للزعامات الدينية. ولأجل ذلك، يجب التخلص من ثقافة القرون الوسطى التي رسخت في أذهان الناس أن الإنسان خُلق من أجل الدين ناسية - أو متناسية - أن الدين هو الذي خُلق من أجل الإنسان. كما يجب أن يكون انتماء الإنسان، أولا، انتماء إلى الأرض والوطن والمجتمع، وليس إلى الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو العرق. يجب العمل على إزالة العقبات التي تحول دون نشأة مجتمع ديمقراطي حر وعادل. ووضع حد للاستبداد هو جزء ضروري في العملية، لكنه لا يحل المشكلة كلها لأنها لا تُختزَل فيه، إذ تشكل الثقافة السائدة غطاء معقدا وكثيفا لتمويه الاستبداد في جذوره الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومن ثمة تعدد أشكاله الجلية والخفية. بناء على ذلك، لن يكتسب العمل السياسي أهميته إلا عندما يقترن النضال السياسي بالنضال الثقافي بمعناه الواسع والشامل والجذري، فلا بد من الخلاص من الأسس الثقافية للاستبداد، وفي مقدمتها الفصل الكامل بين الدين والدولة على جميع الأصعدة، وفي مختلف المستويات. بدون ذلك، لن تكون الحرية والحداثة والديمقراطية سوى أقنعة وكلمات جوفاء.