سنة تمضي بمرها وحلوها وأخرى تأتي بآمالها ومخبآتها، إنها حركة الزمن الدائبة، ولا شيء يمكن أن يكون خارج الزمن. كل كلام عن الزمن يؤدي بالضرورة إلى الكلام عن الوعي بهذا الزمن وبوجودنا في خضمه. وقد مرت أحداث على عالمنا العربي خلال السنة المنصرمة بعضها جلي وأغلبها ملتو وخفي، وهي تحتاج إلى وقفة الراصد والمحلل المتبصر والمفكر المتعمق. للوقوف على بعض المسارات العربية وفهم مستغلقاتها حاور مركز الجزيرة للدراسات المفكر العربي برهان غليون، مدير مركز الدراسات العربية والشرق المعاصر، وأستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة السوربون بباريس، للوقوف على بعض تصوراته الفكرية وتحليلاته الإستراتيجية حول جملة من مواضيع الساعة. مكانة العرب في الكثير من التقارير المتعلقة بالتنمية الاقتصادية أو البحث العلمي متدنية إلى أقصى حد فهل تعطي هذه التقارير صورة دقيقة عن الأوضاع العربية أم أنها تميل إلى الانتقاء؟ وإن كان تشخيصها دقيقا فما سبب هذا الفشل العربي؟ - ليست التقارير مهما بلغت من الدقة تصويرا طبق الأصل للواقع، وليس هذا هو مطلوب منها. إنها تقدم مؤشرات مبنية على وقائع نسبية، لكن صادقة أيضا بمقدار ما يعتمد في رسمها على طرائق الرصد والملاحظة والتحليل العلمية. وفي اعتقادي أن الاتجاهات التي تدل عليها هذا التقارير وتبينها المؤشرات التي استخدمت فيها صحيحة وليست مبالغا فيها. بل إنا أعتقد أن وضع العالم العربي أسوأ مما تقوله التقارير، لأن الكثير من التقارير التي تهتم كثيرا بالأرقام الإحصائية تبقى على السطح ولا تستطيع أن تنفذ إلى الديناميكيات العميقة التي تعمل داخل المجتمعات. وفي نظري إن أزمة المجتمعات العربية تتجاوز حاصل جمع الأزمات الاقتصادية والسياسية والوطنية والفكرية، وتمتد في العمق إلى الأساس الذي تقوم عليه، أي إلى ما يجمع بين أفرادها ويحولهم من غبار أو ذرات متجاورة إلى عضوية حية ويجعل لهم قلبا وإرادة ووعي يسيرونهم ويوجهونهم ويوحدونهم فيصبح بإمكانهم عندئذ بلورة سياسات ووضع خطط للمستقبل ومواجهة التحديات وحل الأزمات والمشاركة في تقرير مصيرهم. هذه اللحمة أو الاسمنت الذي يجمع ذرات الأفراد بعضها إلى بعض ويؤلف منها مجتمعا حيا متضامنا ومتفاعلا وفاعلا، أي منتجا ومبدعا، تكاد تكون اليوم غير موجودة أو هي في طريق الانحلال نهائيا تاركة الأفراد من دون سند ولا رؤية ولا مقدرة على التوجه في الواقع والمستقبل. هذا يعني أن الأزمة سوف تستمر وتتفاقم، ومعها الأرقام والمؤشرات التي لا يستطيع التقرير رصد احتمالات نموها وزيادة سوئها. وأنا لا أعتقد أن هناك حلا في الأفق المنظور للفوضى الفكرية والعقدية التي تعيشها الشعوب العربية، ولا لنظام الحكم والإدارة المبني على القهر والإخضاع ومحو الشخصية، بما تعنيه من وعي وإرادة مستقلين، ولا لتجاوز اقتصاد رأسمالية المضاربة العائلية أو شبه المافيوية وهدر الموارد وتوزيعها على المحاسيب والأقارب، وما ينتجه من تدهور مضطرد في مستوى معيشة السكان وأسلوب حياتهم وقيمهم وأفكارهم وعقائدهم. وفي اعتقادي أيضا أن السبب الرئيسي لهذا الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات العربية هو الانحطاط الرهيب الذي أصاب النخب الاجتماعية، والسائدة منها بشكل خاص، نتيجة عقود طويلة من سياسة العسف وتقييد الحريات والحجر على التفكير وتخريب العقول وحكم الشعوب بالتخويف والإرهاب، وإكراهها على الانكفاء على ما يشبه الأوكار التي حلت محل الأوطان. وهو ما ساهمت فيه قوى متعددة، عربية وأجنبية، كان لها ولا يزال مصلحة في تهميش الشعوب العربية وإخماد جذوة تفكيرها وكفاحها، وإعادتها، كما قيل أثناء الحرب الأمريكية العراقية، إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية. وليس ضمان وجود إسرائيل وتوسعها وتأمينها على نفسها ومستقبلها بعيدا عن هذا الذي جرى ولا يزال يجري. وقد حصل ما يشبه ذلك في المرحلة الأولى من تأسيس إسرائيل حيث كان غض النظر عن قيام إسرائيل واستيطانها هو الثمن الرئيس لتكريس النخب في مواقع الحكم وتأمينها على نفسها واستقرارها. لكن جميع ما ذكرت لا يغير من واقع أن المسؤولية السياسية في استمرار التدهور في شروط حياة المجتمعات العربية ومواقعها الإقليمية والدولية تقع قبل أي فرد آخر على النخب العربية الحاكمة. فهي التي تحافظ على الوضع القائم وتدافع عن إعادة إنتاجه وتقمع أي فكرة أو حركة تهدده أو تسعى لتغييره، ضمانا لمصالحها الخاصة وحماية لها. راهن النظام الرسمي العربي على ما أسماه بإستراتيجية السلام واليوم يقر بأن هذا الخيار قد وصل إلى مأزق على نحو ما صرح بذلك الأمين العام الجامعة العربية مرات عدة، فما هي الخيارات المتاحة أمامه اليوم؟ - هذا أحد التحديات التي يواجهها هذا الذي تسمونه نظاما وهو لم يعد كذلك، وإنما أصبح فوضى فالتة، ولا أحد فيه يشعر بمسؤولية عن شيء ولا بالتزام بقضية، أعني تحدي غياب أي اختيار آخر. فقد وضعت الحكومات العربية نفسها، منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 الذي قبلت فيه بتقديم تنازلات إستراتيجية ومبدئية، وأقرت فيه بأن حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 هي الحرب الأخيرة مع إسرائيل، ولن يكون هناك حل للنزاع إلا بالمفاوضات، أقول وضعت نفسها في طريق ملغومة، إن لم يكن في فخ، وتركت لإسرائيل الحرية في أن تطبقه عليها. وهو ما لم تتردد هذه في فعله برفضها أي صيغة من صيغ السلام واستمرارها في عملية الاستيطان التي تكاد تقضي على أي أمل بإقامة دولة فلسطينية. ومن ينظر إلى الوراء في تاريخ العقود الماضية يرى حقيقة ما حصل وما سيحصل في المستقبل. فبينما تخلى العرب عن سلاح الحرب، أي في الواقع عن التهديد بالحرب، وهي وسيلة الضغط الوحيدة لتحقيق السلام، لم تكف إسرائيل عن شن الحروب في لبنان وفلسطين وكل قطر يتحدى إرادتها التوسعية. والنتيجة أن إسرائيل استفردت بحق شن الحرب بعد أن ألزمت العرب أو ألزموا أنفسهم بالتخلي عن سلاحهم، وأجبرت العرب على التفاوض من دون سلاح وتحت ضربات سلاح الخصم. إذن أمام هذا اللانظام، حيث كل يهرب بنفسه وينسحب من المسؤولية، ليس هناك خيارات. كما أن هذا اللانظام لا يبحث عنها أصلا. فهو مسلم بما يحصل ولا يهمه ماذا ستفعل إسرائيل في فلسطين. لقد أسقطها في نظري من الحساب واعتبرها منذ سنوات من جملة الخسائر والمفقودات. الخيارات لا توجد إلا بتجاوزه والخروج من الحرب العربية البينية والتقدم، كما فعلت البلدان المجاورة، نحو إعادة بناء الوطنية العربية، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من إعادة اعتبار للفرد المواطن، وللدولة وللاقتصاد، ومن إحياء قيم المسؤولية السياسية والمدنية التي لا تقوم من دون احترامها والدفاع عنها جماعة مدنية وسياسية.
كيف ترون موازين القوى في المنطقة العربية اليوم بعد مأزق الاحتلال الأمريكي للعراق وبوادر إخفاق مماثل في أفغانستان؟ فهل نحن نشهد مقدمات تراجع دور القوة الأمريكية؟ ” إرادة أوباما لا تستطيع أن تتغلب على عطالة النظام والإدارة الأمريكيين، المتصلين اتصالا عميقا بقوى مؤيدة لإسرائيل وحريصة على أمنها وتوسعها ونحن العرب لم نساعد أوباما، ولا ساعده الأوروبيون الذين أصبح موقفهم بعد وصول نيقولا سيركوزي للسلطة أكثر تأييدا لإسرائيل من الإدارة الأمريكيةالجديدة “ - نعم نحن نشهد ذلك وهذا ما ذكرته للتو. لكن ليس لصالحنا بالضرورة. فتراجع الأمريكيين وانحسار نفوذ الغرب في بلادنا ومنطقتنا يستحث قوى أخرى، من خارج المنطقة وداخلها على ملء الفراغ والحلول محله، طالما أننا غير قادرين، بسبب ما وصفت من أوضاعنا حتى الآن، الإستراتيجية والسياسية والمعنوية، على الارتقاء إلى مستوى القوى الإقليمية المؤثرة، أي طالما لم نبلغ بعد سن الرشد في مواضيع السلطة والسيادة ونتحول إلى فاعل تاريخي. وإذا استمرت أوضاعنا على تدهورها، سوف نتحسر على الهيمنة الأمريكية لأن سياسات القوى الصاعدة تجاهنا لن تكون أرحم منها ولا أكثر رأفة بنا واحتراما لمصالحنا. هل باستطاعة أوباما أن يحقق سبقا لم يصدر عن رئيس أمريكي قبله فيما يتعلق بالسلام العربي الإسرائيلي أم أنها مجرد وعود انتخابية؟ - كان هذا أملا ضائعا. لقد أظهرت الوقائع أن النظام أقوى من الفرد، وإرادة أوباما لا تستطيع أن تتغلب على عطالة النظام والإدارة الأمريكيين، المتصلين اتصالا عميقا بقوى مؤيدة لإسرائيل وحريصة على أمنها وتوسعها. ونحن العرب لم نساعد أوباما، ولا ساعده الأوروبيون الذين أصبح موقفهم بعد وصول نيقولا سيركوزي للسلطة أكثر تأييدا لإسرائيل من الإدارة الأمريكيةالجديدة. فلم يقف هؤلاء معه لبناء موقف صارم من حكومة نتنياهو. أما العرب فقد قدموا مبادرتهم العتيدة للسلام وكفى الله المؤمنين القتال. في هذه الحالة لا أرى مبررا كي تكون الإدارة الأمريكية ملكية أكثر من الملك. على العرب أولا أن يظهروا استعدادا لتغيير إستراتيجيتهم والعودة إلى منطق العلاقات الدولية الطبيعي، أي استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وقبول حد أدنى من المخاطر والتضحيات المحتملة، حتى يمكن ثني عزيمة إسرائيل وتحسيسها أن مبادرة السلام خطوة جدية، وأن لرفضها تكلفة على إسرائيل ومن يدعمها من الدول الغربية وغير الغربية أن يقدرها ويتحملها. وإلا فلا يمثل ما نقوم به خطة سلام ولا سياسة ولا إستراتيجية. كيف تنظرون إلى الشراكة المتوسطية (الأوروبية –الشرق أوسطية) ولصالح من هذه الشراكة: الأوروبيين ومعهم إسرائيل أم لصالح العرب؟ - ما قلته عن إيران يصلح أيضا لموضوع الشراكة الأوروبية المتوسطية. فأوروبة كإيران قوة مجاورة، ولا يمكن لنا أن نتجاهلها ولا يمكنها أن تتجاهلنا، خاصة في عصر الانفتاح العالمي الراهن. ومن الطبيعي أن تكون بيننا علاقات متعددة وأن تتبلور خطط طويلة المدى للتعاون الاقتصادي والاستراتيجي والسياسي. واتفاقيات الشراكة القائمة لا تصل إلى هذا المستوى الذي نطمح إليه. إنها كناية عن برنامج بسيط للمساعدات الاقتصادية يهدف إلى تحسين علاقات أوروبة بجوارها، وإذا أمكن الحصول على أداة للضغط على هذا الجوار، عندما تتطلب ذلك المصالح الأوروبية، خاصة في مسائل مثل الهجرة والتعاون الدولي وحقوق الإنسان. بيد أن أوروبة تدرك أنها لن تستطيع أن تشتري الدول العربية المتوسطية بمليارات محدودة، ولا أن تربطها بها، وأن لهذه الدول مصالح وإمكانية للتعامل مع تكتلات عالمية أخرى تخطب ودها، كالولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها من الدول الصاعدة. وكان بإمكان مثل هذه المساعدة الأوروبية أن تكون مفيدة لو أصبحت جزءا من مساعدات عالمية متعددة من جهة، وصبت في مجال عربي متفاهم ومتعاون من جهة ثانية وقادر على التصرف كطرف وفاعل دولي مدرك لمسؤولياتها من جهة ثانية. في الوضع العربي المتفسخ الراهن أخشى أن لا تكون حصيلة الشراكة الأوروبية المتوسطية سوى تشجيع الأنظمة على الاستمرار في المنهج السائد، وتأخير زمن استعادة الوعي العربي بضرورة تجاوز الوضعية المأساوية التي خلفتها نزاعات القرن الماضي، وإعطاء أر وبة ورقة ضغط مجانية للمشاركة في صوغ السياسات الإقليمية. ذهبتم في بعض كتاباتكم إلى القول إن العرب اليوم يغتالون فكرة الدولة ويفرغونها من مضمونها، وهو أمر يهددنا بالعودة إلى القرون الوسطى، أو بولادة قرون وسطى جديدة. فلما ذا وصلنا إلى هذا المستوى؟ ” تحولت الدولة في العالم العربي إلى أكبر وسيلة استلاب وصارت القيد الرئيسي الذي يقف أمام طموحات مجتمعاتنا ونيلها حقوقها وحرياتها. فهي اليوم أداة القهر والتشليح والإذلال الجماعي عندنا “ - نحن لم نعرف الدولة بالمعنى الحديث للكلمة لأننا عشنا قرونا طويلة في ظل سلطنة أو خلافة أو إمبراطورية، وهي التي تقدم لنا نموذج الجماعة السياسية. وهو نموذج فقير تقوم السلطة فيه على العنف والشوكة والرهبة وادعاء حماية الدين، وفي الغالب يتم فيه تداول السلطة من خلال الاستيلاء بالقوة العسكرية، حتى عندما يتعلق الأمر بنظم ملكية وراثية بسبب تنازع الأبناء والأحفاد وغياب التقاليد المؤسسية. ولا يساعد مثل هذا النموذج الذي لا يزال مزروعا في المخيال الجمعي عندنا، على تمثل معنى الدولة في العصر الحديث وقيم الاجتماع السياسي الوطني وأهدافه وغاياته. لذلك بدل أن يعمل استنبات النمط الحديث للدولة، بما يعنيه من مركزة السلطة واحتكار العنف وشعبنة السياسة أو تعميمها، على تعزيز فرص انعتاقنا وتحرير أفرادنا وتنمية ملكاتنا السياسية في المشاركة والمناظرة والإنضاج الجماعي للقرارات المتعلقة بالشأن العام، أقول بدل ذلك، تحولت الدولة إلى أكبر وسيلة استلاب لنا، وصارت القيد الرئيسي الذي يقف أمام طموحات مجتمعاتنا ونيلها حقوقها وحرياتها. فهي اليوم أداة القهر والتشليح والإذلال الجماعي عندنا، والصراع من حولها يمسخ جميع النشاطات المدنية الأخرى ويفرغها من قيمتها، ويجعل من رجل السلطة، لا من المنتجين والمبدعين والمضحين بعرقهم وجهدهم، الشخصية الرئيسية في حياتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية، بمقدار ما يحول هذه الشخصية إلى شخصية أمنية، ويجعل من تطوير وسائل القمع والقهر والإرهاب والتخويف والتعذيب، محور نشاط الدولة ورجالها، حتى صار التحكم بالأفراد وتقييد حرياتهم وإخضاعهم لإرادة خارجية عنهم غاية حكمنا والمضمون الرئيسي لإداراتنا السياسية. ولن نخرج من هذا الوضع الذي هو عودة من نوع جديد لقيم القرون الوسطى حين كانت المجتمعات في خدمة الملوك والسلطان وتحت رحمتهم، وحياة الفرد لا تعني شيئا، وكل فرد يقف عاريا أمام رجل السلطة، من دون حماية سياسية أو قانونية، أقول، لن نخرج من هذا الوضع إلا عندما ننجح في السيطرة على هذه الآلة الوحشية، أي عندما نحول الدولة إلى دولة مجتمعها تخضع له وتستمد منه القوة والوجود والشرعية والتوجيه السياسي. وليس هناك طريق آخر لتأهيل الدولة وأنسنتها وقومنتها بالفعل سوى استيعاب مفهومها والتحكم بها والاندراج فيها وتغيير برنامج عملها. لكن حتى يتحقق ذلك ينبغي أن نتحول نحن أنفسنا، الخاضعين لتلاعب الدولة الراهنة وقهرها وإرهابها، إلى مجتمع وشعب يتحلى بقيم وأفكار ويخضع في علاقاته فيما بين أعضائه، إلى معايير ثابتة وواضحة، أخلاقية وإنسانية. هذا هو مصيرنا، وهو أيضا محتوى معركتنا الحقيقية للعقود القليلة القادمة. في بعض ما نشر لكم حول الهوية العربية تحللون مفهوما ربما يكون من ابتكاركم وهو “عروبة المستقبل” فهل للقارئ أن يعرف ما ذا تقصدون بهذا المصطلح؟ - عروبة المستقبل تعني أنه لا ينبغي علينا أن ننظر إلى مسالة العروبة، من حث هي هوية أو دعوة إلى الوحدة القومية، من منظار الماضي والتراث، وما تركه لنا الأجداد من وشائج قربى ناجزة، وإنما من منظار المستقبل، أي من منظار ما يمكن أن يقدمه لنا القول بهوية عربية ووحدة سياسية جامعة من أدوات ووسائل وأطر تفيدنا في مواجهة تحديات الحاضر المفتوح وضمان اندراجنا في التاريخ. فهي صحيحة بمقدار ما تساعدنا على العبور نحو المستقبل، وتحقيق حداثتنا المنتظرة، لا بدلالتها على الماضي ولا بما يمكنها أن تقدمه لنا للاحتفاظ بهذا الماضي أو استمرار الوفاء له أو الانتماء إليه. بهذا المعنى لا ينبغي أن ننظر إلى الدعوة العربية على أنها تكريسا لقرابة قائمة، ولا ينبغي أن تكون كذلك. ولا يشكل الاشتراك في التراث مبررا كافيا لتبني أي هوية أو وحدة سياسة. بل قد تكون القرابة، من دون مشروع للمستقبل، غير ذات قيمة ولا فائدة، وأحيانا مصدرا للمنازعات الدائمة على الزعامة والمواقع التمثيلية، كما يدل على ذلك واقعنا العربي اليوم. وقد أثبتت التجربة التاريخية، تجربتنا، أن دعوة العروبة القائمة على وحدة الثقافة والتراث لم تشفع لأحد ولا أوصلت العرب إلى أي مكان. بالمقابل يمكن للعروبة أن تكون قاطرة رئيسية لدفع المجتمعات العربية نحو التفاهم والتلاقي والتعاون والطموح إذا كانت دعوة مستقبلية وارتبط تحقيقها بتأكيد قيم ومبادئ وقواعد عمل إنسانية مرغوبة ومنشودة، وبالنجاح في الارتقاء بمشاركتنا في تقدم الحضارة وتعزيز حضورنا في التاريخ، تاريخ الأمم والشعوب، والعلم والثقافة والتقنية والصناعة. الواضح اليوم أن الدولة العربية تعاني أزمة مريعة إن على صعيد التنمية أو السياسية والثقافة، فضلا عن الانقسامات العرقية والطائفية التي باتت تعصف بها، فهل هذا ناتج عن فشل دولة التجزئة العربية، وهل هذا يطرح أولوية مشروع الوحدة العربية مجددا؟ - هذا ناتج كما ذكرت عن فشل الدولة نفسها وإفساد مفهومها وتحويلها إلى أداة للسيطرة الخاصة ولتحقيق مصالح آنية ضيقة أيضا، في كل قطر وعلى صعيد السياسة ما بين القطرية. ولا يرجع هذا الفشل إلى الدولة نفسها أو إلى نموذجها، وإنما إلى الذين استخدموا الدولة وقاموا بتسييرها وإدارتها، أي إلى نخبنا السياسية التي هي جزء من نخبنا الاجتماعية عموما. وفي اعتقادي أننا كنا ولا نزال مستهلكين ومستعجلين على قطف الثمار، ومفتقرين للنظرة التاريخية البعيدة، ولمعاني الحياة السياسية والمسؤولية العمومية. الدولة سيطرت علينا ومسخت مجتمعاتنا بسبب ما ميز هذه المجتمعات من فقر أخلاقي وضعف في الرصيد السياسي والاجتماعي، وبالتالي بسبب الافتقار للنخب القادرة على الارتقاء بسلوكها داخل الدولة إلى مستوى الفعل الأخلاقي والسياسية الوطني وتجاوز إغراءات المصالح الفردية والخصوصية والمحسوبيات البلدية التقليدية. والمثل الشعبي يقول الموس في يد الجبان يجرح. ذهبتم في بعض كتاباتكم إلى أن تاريخنا العربي يشكل ثقلا لا يمكن التحرر منه إلا في حالات الثورات الحماسية الكبرى التي تفجر الوعي الماضي، وتنشئ وعيا جديدا بالفعل. فلماذا علاقتنا بتاريخنا تبدو متأزمة إلى هذا الحد؟ ولماذا هذه الرغبة في تأسيس “القطيعة” مع الماضي؟ ” القطيعة لا تحصل مع التاريخ ولا ضده وإنما تحصل داخل التاريخ، وتبقى لذلك محتفظة بعناصر أساسية فيه “ - ليس تاريخنا هو الذي يشكل ثقلا كبيرا علينا وإنما أي تاريخ. التاريخ يحد ذاته عطالة أو عامل عطالة، أي تثبيت واستمرار وضمانة لإعادة إنتاج النظم والأوضاع كما كانت. لذلك يحتاج التجديد في النظم والأفكار وأساليب العمل والإنتاج إلى قطيعة، أي إلى ابتعاد وانفصال، لهذا الحد أو ذاك، عن النماذج والقيم والأفكار وأساليب العمل الموروثة والشائعة والمتبعة، وإلا لن يكون هناك أي جديد. والتجرؤ على القطيعة مع الماضي تحتاج إلى قوة معنوية وأخلاقية ونفسية كبيرة، ومقدرة على مواجهة المخاطر وتحمل المسؤوليات، ومواجهة روح المحافظة الطبيعية وعدوان المحافظين. ولا تتحقق هذه الإمكانية على مستوى الجماعات إلا في فترات حماس استثنائية، كما يبرز ذلك تاريخ النبوة وتاريخ الفتوح وتاريخ الفتوح المدهشة التي قادها رجال لم يخرجوا من صحرائهم أو من مدنهم الصحراوية، فصاروا فاتحين متميزين وملوكا معظمين. لكن القطيعة لا تحصل مع التاريخ ولا ضده وإنما تحصل داخل التاريخ، وتبقى لذلك محتفظة بعناصر أساسية فيه. ففكر الإسلام شكل قطيعة مع فكر الجاهلية، لكنه استخدم الشعوب نفسها والشخصيات نفسها وأماكن العبادة نفسها وأعاد تأويلها وتفسيرها وتحميلها بالمعاني والقيم والأفكار والدعوات الجديدة. وفكر النهضة العربية الحديثة مثل قطيعة مع الفكر العربي والإسلامي السائد في القرن التاسع عشر، لكنه لم يقطع مع التاريخ العربي وإنما استعاده في صيغة أخرى. فاكتشف مفكرين وفلاسفة وأدباء كانوا قد نسوا، وفي مقدمهم ابن خلدون الذي كرس رائدا لعلم الاجتماع العالمي، وابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين الذين عرفوا بمنزعهم العقلي، بالإضافة إلى كتاب ألف ليلة وليلة الذي لن يمل العالم الحديث من ترجمته والتأمل فيه. القطيعة داخل التاريخ لا تعني القطيعة مع التراث ولا مع الماضي، فالماضي يبقى، لكنه يتحول إلى تاريخ ماض نهائيا، أو يدخل في بناء التاريخ الحديث. وقديما قيل من لا قديم له ليس له جديد، والعكس صحيح. _______________ مراكش بريس 2010/ج.ع. مركز الجزيرة للدراسات/ أجرى الحوار سيدي أحمد ولد أحمد سالم