الصحافة هي ملحمة العالم الحر، فحيث توجد ديمقراطية عظيمة، توجد، بالضرورة، صحافة عظيمة، وحيث توجد صحافة عظيمة، توجد، أيضا، تقاليد راسخة في ثقافة القراءة، فالقراء الجيدون يصنعون الصحيفة الجيدة، كما تقول القاعدة الذهبية في مجال الصحافة... من هنا نفهم معنى أن تحتكر صحافة الدول الديمقراطية كل الأرقام القياسية، فنجد صحيفة مثل «نيويورك تايمز»، الأمريكية، عمرها قرن ونصف، و«ديلي ميرور»، البريطانية، توزع مليون نسخة في اليوم... فالعالم الحر سمح للصحافة ولوسائل الإعلام، عموما، بالانتقال من كونها إحدى وسائل إخبار الرأي العام إلى الوسيلة الرئيسية لصناعة الرأي العام، ليتم تتويجها «صاحبة للجلالة» على كل أنواع السلط أو «سلطة السلط»... التجارب الصحفية الفرنسية تعد مدرسة قائمة بذاتها، سواء في أسلوب عرض الأخبار أو توجهات المحللين وكتاب الرأي، بل حتى في شكل منابرها وطريقة إخراجها الفني، بالإضافة إلى خصوصية القضايا التي يمكن أن تحتل الصفحة الأولى، تبعا لخصوصية القارئ الفرنسي والثقافة الفرنسية وطبيعة المشهد السياسي. صحيح أن هناك اختلافات تكاد تكون كبيرة في مقاربة موضوعات داخلية كالموقف من قضية طرد الغجر الهنغاريين، مثلا، أو قضية النقاب، لكن في الموقف من قضايا السياسة الخارجية لا تخرج توجهات الجريدة عن الموقف الرسمي إلا في بعض التفاصيل، حتى أن هناك من يعيب عليها كونها ناطقة رسمية باسم وزارة الخارجية، وخصوصا الموقف من الدول الإفريقية وصراع الشرق الأوسط، فالفرق بين الصحف اليمينية والصحف اليسارية يظهر بالأساس في القضايا الداخلية. «لوفيغارو» Le Figaro هي صحيفة يومية فرنسية ليبيرالية محافظة، تعتبر من أقدم صحف العالم. ظهرت في البدء على شكل صحيفة صغيرة تصدر بشكل غير منتظم بتوجهات تعتمد السخرية أسلوبا في التحرير، لتصبح بعد ذلك صحيفة يومية بخط تحريري جدي ابتداء من 1866. يتم تحريرها في باريس، وتعتبر إلى جانب صحيفة «لوموند» الفرنسية إحدى أهم صحف الرأي الفرنسية. تأسست في 15 يناير 1826 على يد مثقف فرنسي متعدد الاهتمامات معروف آنذاك هو فيلاديلف-موريس ألوي، الذي كان يؤمن بجريدة مكرسة للسعادة والرضا والالتزام الأخلاقي والخير للعموم، وعرف أيضا بتأسيسه منابر أخرى مثل «le Journal des familles». لكن تبقى «لوفيغارو» أهم منبر صحفي أسسه مع إتيان أراغو ليبيعه بعد شهرين لسان-ألم لوبواتفان، ثم فيكتور بوهان. وأصل التسمية هي أن «لوفيغارو» هو اسم إحدى الشخصيات الساخرة للكاتب بومارشي. كانت الجريدة تصدر في حجم صغير وبأربع صفحات، وكانت تستهدف انتقاد بقايا الملكيين تحت إشراف إيبوليت دي فيلمصان، وهو مثقف بورجوازي لا يخفي طموحاته في صناعة جريدة تنخرط في النقاشات، التي ظهرت عقب ثورة الأنوار، ليحولها إلى منبر للطبقة البورجوازية الفرنسية، حيث عاشت أزهى أيامها في المرحلة التي يسميها الفرنسيون «La Belle Epoque»، وهي المرحلة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، حين عاشت فرنسا طفرة هائلة على جميع المستويات. وتكرس التوجه الليبرالي للصحيفة مع بيير بريصون سنة 1946، الذي قاد حروبا فكرية وثقافية ضد الشيوعية والنازية، وكان من أشد المدافعين عن فكرة الاتحاد الأوربي وحلف الشمال الأطلسي، الذي سيعرف فيما بعد بالناتو، واستطاع أن يستقطب كبار المفكرين والكتاب في تلك المرحلة ليكتبوا في صحيفة «لوفيغارو» مثل رايمون أرون وأندريه جيد وفرنسوا مورياك، وتصبح الصحيفة صحيفة النخبة المتنورة والمتحررة. نوعت «لوفيغارو» من موادها واشتهرت بتحقيقاتها، التي ينجزها صحافيوها في الميدان، سواء في فرنسا أو في الخارج، ونوعت صفحاتها لتشمل الفن والأدب والموسيقى، بل كانت تنظم حفلات موسيقية. وباختصار أصبحت الجريدة تجسد الحياة المعاصرة. وفي سنة 1947 أصدرت «لوفيغارو» مجلة أسبوعية أدبية لمحاربة الهيمنة الشيوعية في مجال الثقافة والأدب، وتبنت نظرية «الأدب من أجل الأدب»، وهي نظرية مناهضة للنظرية الأيديولوجية. وفي سنة 1975 اشترى «لوفيغارو» روبير هيرسان، الذي كان يملك شركة للمطبوعات تملك جريدتين محليتين، لتصبح الجريدة من أشد المدافعين عن قيم الليبرالية المحافظة. وفي سنة 1984 حاولت الأغلبية اليسارية في البرلمان الفرنسي إصدار قوانين تمنع الاحتكار في الصحافة لضرب إمبراطورية روبير هيرسون، ومن ثمة تصفية الحساب مع «لوفيغارو»، لكن لم يتحقق لها ذلك عندما أصدرت المحكمة الدستورية قرارا لا دستورية قوانين كهذه. وقد تعدت اهتمامات هيرسون مجال الصحافة المكتوبة فأسس القناة التلفزية الفرنسية الشهيرة «la cinq». وابتداء من 2004 اشترت «مجموعة داسو» المختصة في صناعة الأسلحة والمعدات الحربية الجريدة لتدخل مرحلة أخرى، حيث غيرت حجمها وجددت إخراجها الفني وأصبحت تصدر كل جمعة ملحقا من ثمان صفحات يضم نخبة من مقالات الصحيفة الأمريكية«نيويورك تايمز». وما يميز «لوفيغارو» اليوم هو أنها «مقربة جدا» من حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الفرنسي، الذي أنشئ عام 2002 والذي يرأسه نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي المنتخب في ماي 2007. ومن أطرف الفضائح التي تورطت فيها «لوفيغارو» بسبب انحيازها اللامشروط لليمين ما فجرته أسبوعية «ليكسبريس» الفرنسية إبان الحكومة الأولى لساركوزي، التي كانت رشيدة داتي وزيرة العدل فيها، وهي فضيحة إعلامية وأخلاقية كانت بطلتها كما قلنا صحيفة «لوفيغارو» المقربة من قصر الإيليزيه. واستنادا إلى معطيات كشفت عنها «ليكسبريس»، فقد حذف من الصورة الرئيسية لغلاف يومية «لوفيغارو»، خاتما من أصبع رشيدة داتي، وزيرة العدل الفرنسية من أصل مغربي، حيث تم تعديل الصورة من قبل قسم الصورة بنفس اليومية لأسباب مجهولة. وفي بحثها عن دوافع هذا السلوك الغريب من قبل إدارة يومية «لوفيغارو»، أوضحت مجلة «ليكسبريس»، في سبقها الصحفي، أن صورة رشيدة داتي، التي ظهرت على الصفحة الأولى من يومية ««لوفيغارو»، تم تعديلها تقنيا لإخفاء خاتم من الذهب والماس بقيمة 15 ألفا و600 أورو. وفي تعليقها على هذا الحدث، صرحت ديبورا ألتمان، رئيسة تحرير قسم الصورة بيومية «لوفيغارو»، لإذاعة «فرانس آنفو» بأن الأمر يتعلق ب«خطأ في التقدير»، وأن سبب هذا التعديل يتمثل فيما أسمته «تجنب التركيز على شخص رشيدة داتي من خلال خاتمها، في وقت كان الموضوع هو خبر عريضة القضاة ضد وزيرة العدل»، وتساءلت مجلة «ليكسبريس» عن السبب الحقيقي لاستعمال صورة لرشيدة داتي التقطت من قبل مصور «لوفيغارو» يوم 17 يونيو المنصرم، ولم يتم نشرها إلا يوم 19 نونبر مع تعديلها تقنيا وإخفاء خاتم نادر من الذهب الرمادي مرصع بأحجار الماس، لا يقل ثمنه عن 15 ألفا و600 أورو، في وقت نفت فيه مصالح الوزيرة داتي كل علاقة لها بهذا الحادث، الذي تتحمل فيه إدارة يومية «لوفيغارو» كل مسؤولياتها المهنية والأخلاقية. إدارة تحرير قسم الصورة بيومية ««لوفيغارو»» اضطرت أكثر من مرة إلى توضيح الأمر، خاصة بعد أن أخذت المسألة بعدا سياسيا بعد اتهام اليومية الفرنسية المقربة من نيكولا ساركوزي بالتدخل دوما من خلال خطها التحريري لإخفاء أخطاء وزراء الحكومة وتلميع صورتهم أمام الرأي العام، والتزمت في تصريح رسمي لوكالة الأنباء الفرنسية بعدم تكرار هذا الحادث، الذي وصفته أوساط إعلامية فرنسية ب«الرغبة والنية في تغليط الرأي العام وتوجيهه لأسباب سياسية».