يتطرق البروفسور خالد فتحي، أستاذ أمراض النساء والولادة في مستشفى ابن سينا في الرباط، لمواضيع تهُمّ تطور الطب عبر العصور وآفاقه المثيرة، مبرزا تأثيرها وتداعياتها على نظم الأخلاق والمثل والقيم التي تؤطر إلى الآن حياة الناس والمجتمعات، ويضع تحت المجهر قضايا تظل دائما مثار جدل لا ينتهي بين الأطباء والعلماء، من جهة، وبين رجال الدين والقانون وعلم الاجتماع، من جهة أخرى، كالإجهاض والإنجاب المدعوم طبيا والقتل الرحيم والاستنساخ وغيرها من المواضيع، محاولا أن يجيب عن أكثر الأسئلة الطبية إرباكا وأن يوفق بين الآراء المتناقضة والمتصارعة. لننظر معه، جميعا، إلى الطب، هذه المرة، من زوايا أخرى غير معهودة. لا يستطيع العديد من الأزواج أن يعرفوا إن كان ما يقترحه عليهم الأطباء من تقنيات مختلفة لعلاج العقم، مقبولا من الناحيتين الدينية والأخلاقية أم لا، فأغلبهم تعوزه المعلومات الضرورية لمثل هذا التقييم. ولا يملك أن يحكم لصالح أو ضد تقنية ما. ولهذا قد يحجم الناس عن وسيلة لا حرج منها، وقد يقبلون بسبب الالتباس حول أشياء يحرمها الدين وتأباها الفطرة التي فطرنا الله عليها. يقع هذا في ظل لا مبالاة الأطباء، الذين غالبا ما لا يلتفتون إلى السياق الاجتماعي والثقافي الذي يباشرون فيه علاج مرضاهم. فلا يثيرون إلا نادرا سؤال الفضيلة والأخلاق في ما لا يفتأ يبشر به التوالد من تقنيات جديدة. ولعلنا سنتفهم جدوى مثل هذا النقاش، إذا استحضرنا أن الأزواج المعنيين يوجدون دائما بين المطرقة والسندان: مطرقة رفض العقم باعتباره انتقاصا من «قيمتهم»، وسندان الحرص على قيم ومثل المجتمع الذي يحيون فيه، هذا المجتمع الذي يصل إلى أن يراقب تصرفهم أحيانا. إنه اختبار الصمود أمام ضغط الحاجة وابتزازها، خصوصا وأن كل التقنيات قابلة لأن تحيد نحو الخطأ أو حتى نحو «الخطيئة» التي قد ترتكب هذه المرة بشيء من الالتفاف والمداراة. تتساوى في ذلك كل طرق الإنجاب المدعوم طبيا، بما في ذلك تقنية الإخصاب الاصطناعي داخل جسم المرأة، والتي تعد أقدم وأبسط تقنيات الإنجاب المدعوم طبيا وأقربها إلى محاكاة الطبيعة. شيء من التاريخ: تعني هذه التقنية، كما أسلفنا في الحلقات السابقة، أن الحيوانات المنوية للزوج أو المتبرع، بعد استخلاصها يتم وضعها مباشرة بعد تحضيرها في عنق الرحم أو جوف الرحم لدى المرأة من خلال حقنة في يوم التبويض بعد استثارة مبيضها منذ بداية الدورة الشهرية للتحكم في تاريخ الإباضة ورفع عدد البويضات المرشحة للتلقيح. هناك عدة استطبابات لهذه التقنية، أهمها العقم الذكوري كأن تكون العلاقة الجنسية مستحيلة بسبب مشاكل القذف أو الانتصاب أو أن تكون الحيوانات المنوية واهنة قليلة العدد. أو قد يلجأ إليها عندما يكون الزوج قد ادخر عددا منها في أحد بنوك النطف، قبل خضوعه لعلاج يقضي على خصوبته، كعلاج السرطان على سبيل المثال. أو عندما يضطر هذا الزوج البائس بالمرة إلى «الاستعانة» بمتبرع ينجز المهمة عوضه لأنه لا ينتج حيوانات منوية. كذلك نلجأ إلى هذه التقنية لانخفاض خصوبة المرأة، كأن يكون هناك عيب في عنق الرحم أو يكون مخاطه كثيفا وعالي الحموضة بحيث يمنع مرور الحيوانات المنوية. وتنجح هذه التقنية بنسبة 10 إلى 15 % . تعود هذه التقنية للقرن 17. إذ بعد محاولات غير مثمرة على بعض الحشرات والأسماك والعنكبوت من طرف عدد من العلماء كمالبجبيه، بيبنا، جاكوبي، فيلتايم، وكليرك، كان أول من حالفه التوفيق هو الكاهن الإيطالي لازارو سبالا نزاني (Lazaro spallanzani) بعد تجارب على كلبة سنة 1782. بعد ذلك تمكن توريه (Thouret) من علاج عقم قرينتة عبر حقنها بسائله المنوي. ثم تبعه بعد ذلك بانكوست (Pancoast) باستعمال سائل منوي متبرع به. لتنتشر ممارسة هذه التقنية عبر العالم منذ ذاك التاريخ، كما تشير إلى ذلك الأدبيات الطبية، حيث تدل الأرقام على أن اللجوء إلى نطف المتبرعين قد قوى حظوظ النجاح. لأنه يسمح بتجاوز عقم الزوج أو بالأحرى يتجاوز الزوج نفسه بصريح العبارة. وهكذا تم إحصاء أكثر من نصف مليون طفل ولدوا بهذه الطريقة لآباء مجهولين إلى حدود سنة 1981 فقط. وقع هذا بينما شرع في تجريبها قبل ذلك بحيوانات منوية (حيامن) مجمدة منذ 1949 بعد أن شرعت بنوكها في الانتشار. مما جعل عددا من الجمعيات العلمية تدق ناقوس الخطر منذ سنوات الستينيات لتعتبر أن اللجوء إلى هذه التقنية بين الأزواج هو المسموح به أخلاقيا فقط، إذا كان هو الوسيلة الوحيدة لعلاج عيب خلقي أو مكتسب، حيث يمكن مقارنتها بتدخل الجراح لإصلاح ما ترتب عن الطبيعة. بينما تكون الاستعانة بنطفة لغير الزوج ممارسة لا أخلاقية تنجم عنها أضرار بيولوجية ومعنوية واجتماعية وخيمة على المجتمع. لذلك وجب نبذها أخلاقيا وطبيا وتحريمها قانونية». الإشكاليات الأخلاقية: إن هذه التقنية ليست بسيطة كما قد يتوهم البعض حين تنجز على الإنسان، فهي تقتحم حياة وعلاقة الزوجين، كما أن أهدافها ليست دائما مشروعة خصوصا عندما تلجأ إلى «خدمات» طرف ثالث وليست دائما علاجية صرفة، فقد يتطور الأمر إلى رغبة جامحة لتحسين النسل عندما لا يكون الزوج عقيما. من مساوئ هذه التقنية التي لا تصل للتحريم حين تمارس بين الأزواج، كونها تنزع الحميمية التي تسبق عادة خلق وولادة الإنسان. فالتكاثر عند البشر ليس عملية بيولوجية أو غريزية فقط كما هو الأمر عند الحيوان. ولكنه فعل ينخرط فيه المرء بجسده وروحه وقلبه. إذ إن المكون البيولوجي للعملية يندمج كليا مع المكونات النفسية والشعورية. لذلك فإن عزل المكون البيولوجي من خلال تخصيب اصطناعي يعد فصلا للجنس عن الإنجاب وللحب عن الحياة ككل. في حين أن التوالد ليس سوى النتيجة الطبيعية للتماهي الكلي بين الزوجين جسدا وروحا وعقلا في إطار خلية الأسرة. وهذا ما لا توفره هذه التقنية كذلك، إذ لا يمكن اختزال التوالد في فعل بيولوجي أو مجرد تفاعلات بيوكيميائية. ولا يمكن تصوره مجرد عملية إنتاج للبشر تتم من خلال عرض الأدوات اللازمة لذلك: البويضة من طرف المرأة، والحيمن من طرف الرجل. ولكنه فعل شامل يخترق البيولوجيا والشعور والعقل، فعل بعيد كل البعد عن أن يكون مجرد لقاء بين خلايا جنسية. ومع ذلك فإن هذا الإنجاب الاصطناعي لا يطرح مشكلة أخلاقية على اعتبار أنه مجرد مساعدة طبية لأزواج لم تثمر علاقتهم الجنسية أطفالا. وهذا هو الهدف الأساسي من الزواج. فالطبيب يقدم عونا تقنيا وينجز ما كان سينجز بشكل طبيعي لو أن الأمور سارت تلقائيا على ما يرام. إنه يقوم بفعل تصحيحي لا بفعل تعويضي. لذلك فإن العلماء والفقهاء يؤكدون جواز هذه العملية عند الضرورة «شريطة أن يتم الإخصاب بحيامن الزوج داخل رحم الزوجة أثناء حياة زوجها وفي ظل حياة زوجية قائمة. تتفق في هذا، على سبيل المثال، دور الإفتاء في مصر والأردن ومجلس المجمع الفقهي الإسلامي في مكةالمكرمة مع تأكيدها كلها على وجوب التقيد بقواعد صارمة تضمن سلامة وصحة النسب، وذلك بعد أن تثبت قطعيا حاجة الزوجين لمثل هذه العملية. وكان هذا أيضا هو نفس الرأي المتمخض عن ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام التي سبق أن انعقدت في الكويت ورأي مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. لكن الأمور لا تتماثل هكذا دائما أمامنا. إذ إن تأقلم الناس مع هذه التقنية وانتشار بنوك الحيامن قد تفاجئنا بحالات غريبة وطارئة غير معهودة، فأحيانا قد ترغب المرأة في التلقيح بنطفة زوجها بعد وفاته مما يطرح مشكلة. يكاد الفقهاء في هذه المسألة يجمعون على عدم جواز مثل هذه العملية لانتهاء رابطة الزوجية. ولكن للمذهب الحنفي رأي آخر حيث يبيح ذلك قبل انقضاء العدة الشرعية. وهذا ما ذهب إليه أيضا الدكتور الشيخ عبد العزيز الخياط وإن كان هناك إجماع داخل هذا الفريق «المتساهل» على عدم استحسان لجوء المرأة للإنجاب بهذه الطريقة، لكن المفتين بهذا الرأي ربما لا ينتبهون إلى أنه في هذه الحالة تنتفي إرادة الزوج المتوفي. التي لا يمكن التعبير عنها في حين أن الإنجاب يفترض حصول نية وإرادة الزوجين معا. هذا ما تذهب إليه حتى قوانين بعض الدول الغربية، فقانون الأخلاقيات الطبية الفرنسي ل1994 المراجع في 2004 يمنع التخصيب الاصطناعي بعد الوفاة على عكس دول أوروبية أخرى كبلجيكا وإسبانيا. بالنسبة إلى موقف الديانة المسيحية فإن المذهب الكاثوليكي سجل في رسائل بابوية ضرورة أن تستجيب الحياة البشرية للقانون الطبيعي الذي تقبله الطبيعة الإنسانية وللإرادة الإلهية، بحيث ينبغي أن تعتمده في أخلاقياتها كل التقنيات. لذلك فإن الكاثوليكية تؤكد، دون أي غموض، أن الإنجاب ينبغي أن يكون عبر نظام طبيعي لا يمكن تغييره أو تعديله عند تلاقي الجنسين، وبالتالي فإنها تنتصب ضد كل أشكال الإنجاب غير الطبيعي وضد كل تقنية يقع فيها الفصل بين حميمية اللقاء الجنسي وبين الإنجاب. ومع ذلك يجد رجال الكاثوليكية كوة ينفذون منها لتحليل هذه التقنية في إطار رابطة الزواج. حيث لا يرون مانعا في ما يصطلحون عليه بشبه التخصيب الاصطناعي (Insémination artificielle impropermentdite) والذي يستغل فيه السائل المنوي للزوج بعد استخلاصه خلال لقاء جنسي حميمي له مع الزوجة أو مباشرة بعده. فهم يرون أن الإنجاب يحافظ بهذه الطريقة على طبيعته من خلال المحافظة على الحميمية بين الزوجين. فهكذا يتم احترام الطبيعة في مفهومها الميتافزيقي الذي يعني اتحاد الجسد والروح في الكائن البشري فيكون اللقاء الجنسي هو أصل الإنجاب. ويكون التدخل الطبي مجرد مساعدة لا ترقى إلى حذف تلك الحميمية بين الزوجين.