تتناول هذه المقالات مبحثا رئيسا في العقيدة الإسلامية، هو ما يتعلق بتوحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وسنوضح مفهوم الوحدانية، المتمثلة في شهادة أن لا إله إلا الله، ثم نفصل الكلام في صفات الله تعالى، المتفق عليه منها والمختلف، لكي نصل أخيرا إلى مبحث الأسماء المشتقة له سبحانه. أبواب علم التوحيد هو علم يبحث فيه عن وجود الله وما يجب أن يثبت له من صفات.. ما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن ينفى عنه؛ ويبحث فيه أيضا عن الرسل لإثبات رسالاتهم وما يجب أن يكونوا عليه، وما يجب أن ينسب إليهم وما يمتنع أن يلحق بهم.. وكذا ما أتوا به من شؤون الاعتقاد والغيب.. وهو يتناول دراسة محاور محددة هي: - الإلهيات: وجود الله وصفاته وتنزيهه وأفعاله، والقضاء والقدر، ورؤية الله تعالى... - النبوات: الفرق بين النبوة والرسالة، والوحي إلى الرسول، وصفات الأنبياء ومعجزاتهم... - الكونيات: أصل الإنسان، وموضوع الملائكة، والجن، والعادة والسببية... - الغيبيات: كالموت، وعلامات الساعة، وأحداث القيامة، والجنة والنار، والكرامات.. - الإيمان والكفر والردة... وهناك محاور أخرى لا تمت بصلة مباشرة إلى العقيدة، وهي: الإمامة وتعديل الصحابة... ويسمى هذا العلم أيضا «أصول الدين» و«علم العقيدة» ونقول عنه تجوّزا «علم الكلام». مفهوم التوحيد توحيد الله سبحانه وإفراده بالعبودية وحده هو الشطر الأول للركن الأول في العقيدة، المتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله، والشطر الثاني المتمثل في شهادة أن محمدا رسول الله هو التلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كيفية هذه العبودية وهذا التوحيد... وهذه العقيدة –التوحيد- عميقة الغور في التاريخ الإنساني، فقد أرسل الله الرسل –منذ فجر البشرية- بالتوحيد الخالص الكامل، فكان محور دعواتهم ومجال معاركهم في أقوامهم، فهذا نوح عليه السلام يقول عنه القرآن الكريم: «ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين، ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم». وهذا هود: «وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره». وهذا يعقوب يوصي بنيه: «إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، إلها واحدا ونحن له مسلمون». ومحمد، صلى الله عليه وسلم، جاء بالقول الفصل: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله». بل لقد أخذ الله، عز وجل، العهد والميثاق من كل الناس على توحيده قبل خلقهم في الأرض، حيث بعثهم من الذر فأشهدهم ثم رجعوا إلى ما خلقوا منه: «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنَّا ذريَّة من بعدهم؛ أفتهلكنا بما فعل المبطلون». وهذا معروف بميثاق الذرّ (انظر تفسيره في التفاسير المعروفة، سورة الأعراف آية 117). والمتأمل في القرآن الكريم يلاحظ تركيزا شديدا على تقرير هذه الحقيقة الكبرى وتعميقها في الضمير البشري، فسلك كل المسالك الموصلة إلى تعميقها واتبع شتى أساليب الاستجاشة والتأثير والإبانة، فيعمد مرة إلى استشارة العاطفة والشعور، ومرة إلى مخاطبة العقل والفكر... وهذا كله بأنواع الأساليب والبيان.. ولقد توسع هذا الكتاب في عرض جوانب هذه الحقيقة –حقيقة العبودية لله وحده- وتغلغلها في مناحي الكينونة الإنسانية كلها، كما كشف عن الآفاق التي تمتد إليها وتهيمن عليها في جنبات كل الوجود، في عالم الغيب وفي عالم الشهادة... وذلك لأن التوحيد هو القاعدة التي تقوم عليها عقيدة المسلم، فينبثق منها تصوره للوجود كله: إنها ذات أثر حاسم في تكوين اعتقاده وتقويمه وفي تصحيح كل انحراف أصاب الضمير البشري أو يصيبه، وحين يراجع الدارس ركام التصورات والعقائد التائهة -سواء في الفلسفات أو اللاهوت أو الوثنيات- يتضح له أن غموض هذه القاعدة أو تخلخلها هو السبب الرئيس وراء ذلك الخبط المر... وهي أيضا -أي قاعدة التوحيد- ذات أثر حاسم في الشعور والخلق والسلوك، والمتأمل في جميع الانحرافات والانحلالات وأمراض النفوس على مدار التاريخ، يتبين له أنه نابع من هذا الغياب –بشتى أشكاله- الذي أصاب هذه القاعدة. وهذا الانحراف يكون طبعا بمصاحبة عوامل أخرى اجتماعية وسياسية واقتصادية، ولكنها في ذاتها، ما كانت لتنشئ هذا الفساد كله لولا غياب التوحيد. وهي أيضا ذات أثر حاسم في الحياة الواقعية للبشر، بكل ما فيها من قيم وموازين، ومن مبادئ وتقاليد، ومن أنظمة وأوضاع، ومن سياسة واجتماع واقتصاد، ومن ثقافة وعلم وفن.. لأن كل قواعد التعامل مع شتى الآفاق والعوالم تنبثق من هذه القاعدة. والبشرية كانت -وما زالت- تدفع الثمن غاليا من أرواحها وأجسادها وسعادتها واستقرارها لمّا انحرفت عن قاعدة الدينونة لله وحده والتزام منهجه في الحياة ... بما فيه أمننا في شتى مناحي الدنيا. لكننا حين ندرس تاريخ البشرية وحاضرها، نلاحظ حقيقة بارزة، وهي أن مسألة وجود «إله» لم تكن قط قضية جدية من قضايا الاعتقاد، فإنكار وجود الله لوثة عارضة طارئة ليس لها جذور لا في النفس الإنسانية ولا في تاريخها ... وهذه دول المعسكر الشيوعي التي حاربت التدين، كيفما كان، وأعلنت الإلحاد، سقطت كلها وانتهت إلى الاعتراف بالإيمان وعمق الاعتقاد في الله. (راجع: «مقومات التصور الإسلامي» لسيد قطب). أقسام التوحيد فما هو إذن التوحيد المقصود والاعتقاد في الله الذي ذكرناه آنفا؟ إن علماءنا يقسمون التوحيد تقسيمين متغايرين: - تقسيم المتكلمين: وعندهم أن توحيد الله له تجليات ثلاثة: أ-توحيد الذات: أي نفي التعدد في الذات العليّة- متصلا كان أو منفصلا، الأول هو نفي التركيب في ذاته تعالى لاختصاص الحوادث بذلك، والثاني نفي لوجود ذات أخرى مماثلة للذات العلية، لأنه لا وجود لإلهين. ب-توحيد الصفات: فنحن ننفي التعدد في حقيقة كل صفة من صفات الباري، فعلمه سبحانه ليس له ثان يماثله، لا قائما بالذات العلية، لأن علمه واحد، ولا قائما بذات أخرى، بل يعلم سبحانه المعلومات التي لا نهاية لها بعلم واحد ليس له مثيل، وعلى هذا قس سائر الصفات.. ج-توحيد الأفعال: فننفي أن يكون ثَمَّ اختراع في فعل من الأفعال من أحد سوى الله عز وجل، بل هو المنفرد بكل اختراع وإبداع بلا واسطة، وليس له نظير في شيء من ذلك. (راجع مثلا: «الإرشاد» لإمام الحرمين الجويني و«الاقتصاد في الاعتقاد» للغزالي). تقسيم السلف: التوحيد نوعان أ- توحيد الربوبية: كالإقرار بأنه خالق كل شيء وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، فالله رب كل شيء ومبدعه، والقلوب مفطورة على الإقرار به، لذا لا تكاد تجد له منكِرا... فالمشركون مثلا لم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل اتخذوهما شفعاء ووسطاء تقربا إلى الباري تعالى، وليس بهذا التوحيد جاءت الرسل بل بتوحيد الإلهية. ب- توحيد الألوهية: وهو الذي دعا إليه الأنبياء وأنزلت من أجله الكتب، ولا يقبل الله غيره حتى لو أقر المرء بتوحيد الربوبية.. ومعنى التوحيد هذا ألا نعتقد خالقا أو ربا غير الله سبحانه، بصفاته الكاملة وجلاله التام، ثم ألاّ نتوجه إلى غير الله بالعبادة وأداء الشعائر: «فاعبد الله مخلصا له الدين»، ثم ألا نتلقى أحكامنا ومناهجنا في شتى شؤون حياتنا إلا من الله وما ارتضاه لنا من رسل: «إن الحكم إلا لله».. وهو بهذا يتضمن توحيد الربوبية.. ومشركو العرب لم يجادلوا نبينا صلى الله عليه وسلم إلا في توحيد الإلهية فرفضوا إفراده تعالى بالعبودية التامة، لهذا لا تصح شهادة لا إله إلا الله إلا بتوحيد الإلهية، وعامة القرآن يقرر هذا النوع من التوحيد.(راجع العقيدة الطحاوية بشرح ابن أبي العز). يتبع...