لم يشارك «التيار الوطني الحرّ»، بزعامة الجنرال مشيل عون، في المعارك التي اندلعت في بيروت وعاليه وبلدات الجبل في 7 و8 ماي 2008. لكنه –قطعا- كان أكثر الرابحين منها ومن نتائجها. فإلى كونه انتظر طويلا أن تَحْسِم المعارضةُ تردُّدَها فتُقْدِم على خطوةٍ نوعية تنهي حالة المراوحة في الأزمة الداخلية، بعد فشل الاعتصام والمقاطعة (فأتته تلك الخطوة التي أراد أو انتظر، وأَنْهَتْ تلك المراوحة التي استنزفتْهُ والمعارضة)، لم يشارك في المعارك التي صبَّت نتائجَها في رصيد المعارضة جميعِها، و-بالتالي- لن يتهمه أحدٌ بسفك دم فريقٍ أو ضرب منطقةٍ أو الوصول إلى هدفٍ من طريق استعمال القوة. وفي هذا قد تكون أرباح «التيار الوطني الحرّّ» وزعيمه أعلى قيمة من تلك التي حصَّلها «حزب الله» وحركة «أمل»، لأن الأخيريْن حصَلاَ على النتائج السياسية ذاتِها ولكن بكلفة فادحة على صورتيْهما في البيئات الاجتماعية التي وقع الصدام مع قوى سياسية منها. ما كان الجنرال ميشيل عون –زعيم «التيار الوطني الحر» – في حاجة إلى قوةٍ قتالية حليفة لتجعل منه، في لحظة الحسم العسكري، بطلا في بيئته المسيحية التي ينتمي إليها. فالبطولة سعتْ إليه، أو سعى إليها، منذ أزيد من عشرين عاما: منذ وَقَفَ بقوات جيشه –وهو قائدٌ للجيش- صامدا في جبهة سوق الغرب أمام هجوم قوات «الحزب التقدمي الاشتراكي» الزاحفة ليمنعها منها، ومنذ أنهى الحالة المليشياوية في المناطق الشرقية (المسيحية) وفَرَضَ سلطة الجيش والدولة وهو رئيس الحكومة العسكرية المؤقتة، ثم منذ اصطدم بالجيش السوري في «حرب التحرير» مغازلا المشاعر الاستقلالية للجمهور المسيحي. ثم ما لبثت بطولتُه أن انتقلت من حيّزها العسكري إلى حيّزها السياسي خلال منفاهُ الفرنسي حين تحوَّل إلى ضمير سياسي للمسيحيين في حقبة تراجُع دورهم وأيلولة أمْر تمثيلهم إلى قيادات بالغتْ في الولاء لسورية قبل الانقلاب عليها! ولم يكن العماد عون قد عاد إلى الوطن بعد أسابيع، حتى أتى الجمهور المسيحي يتوِّجه بطلاً بالمعنى التمثيلي حين حَصَدَ معظم التمثيل في انتخابات المجلس النيابي... ما كان العماد عون، إذن، في حاجة إلى حدثٍ يمنحه البطولة من نوع حدث حسم المواجهة بين المعارضة والموالاة في 7 و8 ماي. لكنه استفاد منه –كل تأكيد- كي يكرس صورة البطل في عيون جمهوره. على أن للبطل هذه المرّة معنى مختلفا عن ذي قبل. فهو هنا ليس بمعنى القائد الشجاع الذي لا يَجْبن أن يتهيَّب المواجهة، أو الذي يذهب إلى المعركة مسكونا بروح التحدّي فينتصرُ أو يَخْسَرُ المنازلة من دون أن يتنازل أو يفرِّط. ولا البطل –في هذه الحال- بمعنى من ينْفُثُ في جُنده وجمهوره الشعور العميق بالثقة بالنفس أو الإيمان بعدالة القضية التي من أجلها يناضل حتى لو كلفته كثيرا، ولا حتى هو بمعنى المتمسّك بمبادئه إن تَعَسَّرت الأحوال وادْلهَمََّتِ الآفاق.. إلخ. إنه –هنا- ليس بهذه المعاني جميعا التي اختبرها اللبنانيون ميشيل عون سابقا وسلَّموا له بأنه وحده مَن يمثّلها، إنما البطولةُ –في هذا المَعْرِض- ترادِفُ الحكمة وحُسْنَ التقدير ووجاهة الاختيار. وهو معنى محمود في الأحوال جميعا: في الحرب وفي السّلم، في أيام العسر وفي لحظات اليُسْر. فما إن حصل ما حصل في ذَيْنِك اليومين الطويليْن والصعبَيْن من أيام ماي 2008، حتى تأكّدَ لجمهور العماد عون، ولجمهور آخر أقل انجذابا إليه من الأول، أن الرجل لا يعدم الحكمة والصواب في خياراته السياسية وإن أتت خياراتُه أحيانا تُحْدث صدمات عنيفة لدى المحازبين والأنصار، بل تكاد تُفْقِد بعضَهم التوازن في رؤية الأشياء وتقديرها والقدرة على فهم ماذا يريد الجنرال. لم يكن قليلا ولا شأنا في باب التفاصيل أن يجري تحييد المناطق والبيئات السكانية المسيحية من المعارك التي دارت رحاها في بيروت والجبل وبعض الشمال. بل هي المرة الأولى في تاريخ حروب لبنان –الممتد من العام 1860 حتى اليوم- التي نعمت فيها هذه المناطق المسيحية بالأمن والهدوء والطمأنينة فيما جاراتُها تشتعل. ولعلها المرة الأولى التي لم يشعر فيها المسيحي اللبناني بأنه مستهدف على الرغم من أنه كان هناك ما يبرّر الكثير من الخوف في هذه البيئة الاجتماعية اللبنانية. فلقد كانت المعركة معركة بين المعارضة والموالاة. وكان في صفوف الموالاة فريق مسيحي كثيرا ما بدا مُشْتَدّا على المقاومة و»حزب الله»، حتى أن بعض قادة هذا الفريق نافَسَ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في التحريض على سلاح المقاومة. وكان في وُسْع أيّ كان أن يتوقع بأن يصيب هذا الفريقَ ما أصاب حَليفَيْه في الموالاة من مصائب، وخاصة مع اتهامات سابقة له باستعمال السلاح ضدّ حشود المعارضة في بيروت وبعلاقات تاريخية مع إسرائيل... إلخ. لكن المعارك وقفت عند حدود هذا «الخط الأحمر» الذي رَسَمَه التفاهُم بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحُر». حَصَل يقين مسيحيٌّ عامّ بأن التفاهُم هو ما أنقذ المناطق المسيحية أو حيَّدها من المعركة. وفي تضاعيف هذا اليقين، كانت صورة العماد عون تتبيَّن –شيئا فشيئا- بوصفها صورة زعيم حكيم يُتْقن نسج التحالفات في الوقت المناسب، ويتقن استثمار نتائجها السياسية لصالح استقرار الوسط المسيحي في بلد مضطرب ومن أجل ترسيخ أمن المواطنين فيه. ولقد سقطت تحفٌّظات كثيرين لاَح لهم «التفاهُم» –حين إبرامه قبل عاميْن ويزيد- «مغامرة» جديدة من «مغامرات» الجنرال. بل تبيّن أنه بمقدار ما خرج من «المغامرة» الأولى بطلا في وعي جمهوره، قبل ما يقل عن عشرين عاما، خرج من «المغامرة» الثانية زعيما حكيما يليق به وبخياراته أن يُطْمئَن إليها وتكون موطن ثقة وتصديق. ومثلما خرج العماد رابحا رهانه بحفظ أمن المناطق المسيحية من تيار التوتَر الداخلي العالي وحماية استقرارها الأهلي والسياسي، خرجَ رابحًا رهانَه بتكريس الدور المسيحي في الحياة السياسية اللبنانية وتعزيز موقعيته في معادلاتها. ذلك ما قام عليه دليلٌ من النتائج التي قطفها العماد من «اتفاق الدوحة»، وخاصة ما تعلّق منها بالإقرار الرسمي باعتماد قانون القضاء بدل قانون ال2000. ومع أنه في وُسْع أيّ مناهض للنظام الطائفي في لبنان أن يرى في هذا التعديل الذي جرى على قانون الانتخاب تراجعًا جديدًا نحو المزيد من تكريس طائفية النظام، ونحو إخضاع التمثيل لأحكام الحدود الطائفية المغلقة للمناطق، أي إخضاعه لمبدإ التمثيل الطائفي «الصافي»... الخ، إلاّ أن الذي يشفع له أمريْن: أولهما أن القانون السابق (قانون ال2000) ليس أقل طائفية من قانون ال60 وإن بَدَ منطق الدائرة الأوسع أخف وطأة طائفيًّا من القضاء، وثانيهما أن القانون الجديد من شأنه فعلا تصحيح التمثيل المسيحي بالمعيار الطائفي وبيان القوة التمثيلية لكل فريق سياسي داخل الوسط المسيحي. وهذا ما يسجّل للعماد عون نقطة تفوُّق سياسية في مخاطبة بيئة مسيحية شعرت طويلا بأنها لا تقرّر بنفسها وإنما يقرّر عنها غيرُها. توَّج العماد عون أربَاحَهُ الصافية بما حصل عليه في «اتفاق الدوحة»: قانون يلائم حساباته وحسابات جمهوره التمثيلية، وشراكة في الحكم من موقع حيازة حقّ النقض (= الثلث الضامن أو المعطّل). ولعلها المرة الأولى التي يعود فيها المسيحيون إلى المشهد السياسي اللبناني كشركاء في النظام منذ «اتفاق الطائف»، ولكن –ولحسن الحظ- من دون أن يدفعوا ثمنًا دمويّا منهم أو يَسْفِكُوا دمًا.