لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....» من يقرأ الرواية الإسرائيلية لموقعة بنت جبيل خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان (حرب يوليوز 2006)، وكيف قلبت قياداتهم وقواتهم رأسا على عقب وفقا للتفاصيل التي نشرتها صحفهم حول بكاء الجنود الإسرائيليين وراء أقنان الدجاج في مستوطنة «افيفيم»، بعدما وصلتهم الأخبار المأساوية لما آلت إليها أحوال رفاقهم في مواجهة الأمتار القليلة على الحدود، فمن يقرأ ذلك لن يخطر بباله أن مقاوما واحدا قام بذلك كله وأن مخلفات القتلى التي تركوها في الميدان قد سُحبت إلى خارج بنت جبيل بعد ساعات على الواقعة وتحت نيران كثيفة لعناصر حزب الله اللبناني وخرجت تلاقيهم على شاشات تلفزيون المنار مساء اليوم ذاته كغنائم حرب. الرواية الإسرائيلية جاء في الرواية الإسرائيلية تفاصيل ما حدث في معركة بنت جبيل حسب ما تداوله الموقع الصهيوني على الشبكة العنكبوتية www.debka.com، ونشرته فيما بعد (27 يونيو 2006) صحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية ونقلت فيه اعترافات الجيش الإسرائيلي عن واقعة بنت جبيل بالقول على لسان أحد جنود الاحتلال: «بعدما أعلن رئيس الأركان «دان حلوتز» أن تحصينات خط الدفاع الأول لحزب الله قد سُويّت بالأرض، وبعدما توهّم لنا بأن تلك التحصينات قد انتهت وأفرغت بفعل عنف ضرباتنا الجوية ضدها، تعرضت مجموعة من نخبة القوات الخاصة لتسيطر عليها وتحتلها، فاكتشفت بأن مقاتلي حزب الله كانوا يخادعون وأنهم كانوا يختبئون طوال الوقت في شبكة من الأنفاق السرّية التي أغاروا من خلالها على قواتنا وألحقوا بها خسائر جسيمة، كان مقاتلو حزب الله يتحركون عبر تلك الأنفاق بكل أريحية ليضربوا من هنا ولينسحبوا من هناك وليظهروا من مكان ثالث عبر فتحات مموهة معدة مسبقا. تحطيم رمز الثورة اللبنانية ويضيف جندي آخر بالقول: «كان الضباط الإسرائيليون على الحدود يؤكدون لنا بأنهم يسيطرون على بنت جبيل أكبر معاقل حزب الله والهدف الرمزي الهام، فهناك احتفل حسن نصر الله زعيم حزب الله بانسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان قبل 6 سنوات وأصبح ذلك المكان رمزا للنضال والثورة بالنسبة للبنانيين، وكان لا بد لنا من تحطيمه والقضاء عليه بأي ثمن، لكن تصوّراتنا ومخططاتنا كانت فاشلة تماما في تحقيق الهدف، فعندما بعثت القيادة العسكرية بلواء قوات المشاة الخاصة المعروفة باسم «غولاني» لتأمين البلدة حُوصر المئات من الجنود الإسرائيليون بكمين لحزب الله وتم قتل 12 جنديا على الفور واستغرق الأمر فترة طويلة ليتم نقل القتلى والمصابين لمسافة ميلين تحت إطلاق نار شديد وتغطية جوية كبيرة قبل أن ينجح في التقاطهم بطائرات الهيلوكبتر ويتم نقلهم إلى مستشفيات حيفا، لقد كان يوما صعبا لنا كجنود وكان هدفنا الأول والأخير هو الدخول والسيطرة على تلك المنطقة «بنت جبيل» مهما خسر الجيش بغية تحطيم رمز الثورة والمقاومة من ذلك المكان الذي ألقى فيه حسن نصر الله خطاب النصر قبل ست سنوات، لكن جنود حزب الله كانوا لا ينقطعون ويتوارون عن الأنظار سريعين في الكرّ والفرّ، يتضاعف عددهم باستمرار عكس ما كانت عليه التوقعات التي رسمتها القيادة. الزيتون يطلق الرصاص ويضيف الجندي الإسرائيلي الذي أشار إلى اسمه الأول فقط «ساهار» بالقول: «كان القتال ضاريا وعنيفا واستمر وقتا طويلا، فقد أعطبت العديد من الدبابات خلال كمين أسفر عن مقتل قائد الكتيبة وتركت الدبابات في مكانها، لأن استعادتها خلال ساعات اليوم كانت عملية محفوفة بالمخاطر والخسائر كانت هائلة في صفوف الجيش، وأخذت القيادة تقارنها بالخسائر التي وقعت في صفوفها خلال غزو لبنان 1982 عندما قتل 100 من أفراده خلال الأيام الأولى للحرب فقط، استمر الحال هكذا طيلة يومين تقريبا حاولنا من خلالها الدخول إلى بنت جبيل دون جدوى وحاولنا مرات ومرات، وأتذكر أنه في التاسع من غشت وأثناء محاولاتنا الدخول إلى بنت جبيل مجددا عبر مدخل «عيناتا الشمالي» تقدّمت قوة كبيرة قدّر عددها (بناءا على المشاهدات) 200 جندي، ولدى دخولها إلى أراض تصنّف عسكريا بأنه مقتل (أي في مرمى نيران المقاومين من دون أن يكون هناك أي مكان للاحتماء)، جرى إطلاق نار عنيف من كل جانب، كنا نشعر فيها بأن الزيتون يطلق علينا الرصاص وأن خلف كل حجر يوجد مقاوم (مخرب حسب تعبيره) ولم يدم الاشتباك طويلا بعد أن وليّنا الأدبار حاملين القتلى والجرحى ممن أصيبوا تاركين العتاد في أرض المعركة. الرواية اللبنانية يروي أحد أبطال معركة بنت جبيل بالقول: «كان من بين أسباب الدمار العظيم الذي ألحقه العدو الصهيوني ب«بنت جبيل» (رغم فشله في احتلالها) هو الانتقام منها وتحديدا لأن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله ذهب إليها بعد التحرير في عام 2000 وألقى فيها خطاب النصر والمقاومة، ويضيف بالقول: «كانت بنت جبيل قد تعرضت خلال الحرب لثلاث مراحل للهجوم والسيطرة عليها ابتدأ الأول بعد عملية أسر الجنديين الإسرائيليين مباشرة (من الثالث عشر إلى الرابع والعشرين من يوليوز) قام فيها الاحتلال بقصفها جوا ودون الدخول في هجوم بري، أما المرحلة الثانية (24-29 يوليوز) فقد جرت فيها محاولات التقدم بغية احتلالها عبر تلّة مارون الراس وبلدة عيناتا وتلّة مسعود، لتنتهي بالمرحلة الثالثة والأخيرة (من 29-8 غشت) وتعرضت خلالها بنت جبيل للقصف التدميري الانتقامي بعد أن فشلت محاولاتهم البرية في الاستيلاء عليها واحتلالها، كل ذلك كان قد تم بعد أن قام جيش العدو بمحاولات لاحتلالها كانت قد بدأت في الرابع والعشرين من يوليوز عندما حاولت كتيبة مشاة من جيش الاحتلال التقدم نحو المدينة عبر تلّة مارون الراس التي سبقتها محاولة قوة من الجيش معزّزة بالدبابات للدخول من الناحية الشرقية لمارون الراس فدّمر المقاومون ثلاث دبابات وأوقفت خسائر بشرية في صفوفهم مما اضطرهم إلى الرجوع من حيث أتوا. ويضيف بالقول: «كانت تلك القوات قد جاءت من مستوطنة «افيفيم» إلى مارون الراس ثم عيناتا وتسللت القوة ليلا معتمدين على أسلوب التسلّل الليلي ظنّا منهم أنه لن يراهم أحد ولن يتم اكتشافهم، لكن انتشار المقاومين أدى إلى وقوع القوة في كمائن المقاومة في المنطقة وتعرض أفرادها للقصف بالقنابل والأسلحة الرشاشة والمتوسطة والخفيفة وجرى التحام بين المقاومين وجنود الاحتلال فقتل معظم أفراد القوة الإسرائيلية وجرح آخرون واعترف العدو حينها بسقوط ثمانية قتلى وإصابة 31 بجروح بالغة، وبالتزامن مع ذلك كله كانت قوة أخرى للعدو تتقدم من جهة تلّة مسعود التي سرعان ما تم اكتشافها من طرف عناصر المقاومة وإلحاق الهزيمة بها وإجبارها على العودة إلى نقطة الصفر. وأمام هذه الخسائر الهائلة وفشل المحاولات المتكرّرة التي قام بها العدو لاحتلال بنت جبيل، قرّر العدو في التاسع والعشرين من يوليوز الانسحاب من الأماكن التي احتلها (أمتار معدودة) ببنت جبيل وأعلن خروجه منها، فبدأ جنودهم يهمّون بمغادرة المكان دون أن ينجحوا في تحطيم إرادة المقاومة أو أي رمز من رموز حزب الله اللبناني. .كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب