لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....»
هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي، الذي شرح الله صدره للإسلام في الثامن للهجرة مع كل من خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة بعد أن شهد موقف النجاشي حاكم الحبشة حين رفضه تسليم المسلمين الذين هاجروا إليه واحتموا به، ومما قيل وروي في ذلك: «قبل أن يعلن عمر بن العاص إسلامه كان له أحد المواقف مع النجاشي حاكم الحبشة، الذي كان قد استجار به عدد من المسلمين فرارا بدينهم من المشركين واضطهادهم لما عرف عن هذا الحاكم من العدل، وحينها قام المشركون بإرسال كل من عمر بن العاص (كان صديقا للنجاشي) وعبد الله بن ربيعة إلى ملك الحبشة محملين بالهدايا العظيمة والقيمة بغية تسليمهم المسلمين الفارين من قبضة المشركين وهاجروا إليه ليحتموا به، فرفض النجاشي أن يسلمهم دون أن يستمع لهم، وعندما حدث ذلك (استمع إليهم) رفض رفضا قاطعا تسليمهم إلى عمرو وصاحبه فقال له النجاشي حينها: يا عمرو كيف يعزب عنك أمر ابن عمك فو الله إنه لرسول الله حقا، فقال له عمرو: أأنت تقول ذلك؟، فقال النجاشي أي والله فاطعني يا عمرو، فخرج عمرو بن العاص من الحبشة قاصدا المدينة وكان ذلك في شهر صفر سنة 8 للهجرة فقابله في الطريق كل من خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة وكانا في طريقهما إلى النبي (صلعم) لإعلان إسلامهما فساروا جميعا وأسلموا بين يدي الرسول (صلعم) ليعلن النجاشي إسلامه فيما بعد.
يقول عمرو بن العاص: «عندما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي (صلعم) فقلت ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه وقبض يديّ وقال مالك يا عمرو؟، فقلت أردت أن اشترط يا رسول الله، فقال اشرط ما شئت، فقلت أن يغفر لي الله، فقال أما علمت بأن الإسلام يهدم ما قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله؟».
المهمة الأولى
كانت أولى المهام التي أسندت إلى عمرو بن العاص عقب إسلامه حينما أرسله الرسول (صلعم) ليغرق جمعا لقضاعة يريدون غزو المدينة، فسار عمرو على رأس سيرة قوامها ثلاثمائة مقاتل وآزرهم رسول الله (صلعم) بمائتين من المهاجرين والأنصار كان من بينهم عمر وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح وكتب النصر لجيش الرسول، وباتوا ليلتهم في العراء دون أن يوقدوا النار للتدفئة، وعندما سأله الرسول (صلعم) عن سبب رفضه إشعال النار قال عمرو : كرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم، وكرهت أن يوقدوا نارا فيرى عددهم وقلتهم، فحمد الرسول الكريم حسن تدبيره.
توالي الفتوحات
وسرعان ما توالت فتوحات وانتصارات عمرو بن العاص في الشام (كان قد شارك في معركة اجنادين ومعركة اليرموك) فأخذ يوجه نظره إلى مصر فرغب في فتحها بعد إقناع الخليفة عمر بن الخطاب الذي أعد له العتاد والعدد من أجل التوجه لفتح مصر، فسار على رأس جيش مكون من أربعة آلاف مقاتل فقط وكتب عمر بن الخطاب رسالة إلى عمرو بن العاص قال فيها: «إذا بلغتك رسالتي هذه قبل دخول مصر فارجع، وإلا فسّر على بركة الله»، كانت تلك الرسالة قد وصلت لعمرو بن العاص وهو في طريقه إلى مصر وقد علم بما تحتويه فرفض فتحها حتى وصل مشارف مصر وقال للصحابة أين نحن الآن في فلسطين أم في مصر؟، فأجابوه في مصر، فقال إذن نسير في سبيلنا كما يأمر أمير المؤمنين.
كان أول اشتباك له مع الروم بمدينة «الفرما» التي قهر جيشها وفتح «بلبيس» بعدها وقهر قائدها الروماني «ارطبون» الذي كان قائدا للقدس كذلك وفرّ منها مسرعا من جيش عمرو بن العاص، فحاصر حصن «بابليون» حيث المقوقس حاكم مصر من قبل هرقل الذي اضطر إلى الاستسلام ودفع الجزية.
توالت فتوحات عمرو بن العاص بعد ذلك في المدن المصرية الواحدة تلو الأخرى حتى بلغ أسوار الإسكندرية، فحاصرها وأرغم من فيها من الروم (50 ألفا) على الاستسلام ودفع الجزية رافعا شارة النصر للخليفة عمر بن الخطاب ومستقبلا من طرف أهلها استقبال الفاتحين بالفرح والترحيب قائلا لهم: «يا أهل مصر لقد اخبرنا نبينا أن الله سيفتح علينا مصر وأوصانا بأهلها خيرا حيث قال الرسول الكريم: «ستُفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لهم ذمة ورحمة»، ليبقى عمرو بن العاص واليا على مصر حتى جاء عثمان بن عفان للخلافة وقام بعزله وتعيين عبد الله بن سعد بن أبي سرح واليا عليها ليعود إلى ولايته من جديد في عهد معاوية بن أبي سفيان ويبقى فيها حتى وفاته في 43 للهجرة بعد نطقه بكلماته الأخيرة التي قال فيها: «اللهم أمرتنا فقضينا ونهيتنا فما انتهينا ولا يسعنا إلا عفوك يا ارحم الراحمين».