لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....» هي طروادة، تلك المدينة القديمة التي تقع في غرب تركيا بمنطقة الأناضول، التي ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد واشتهرت بقصتها مع حصانها الشهير «طروادة»، ذلك الحصان الخشبي الذي صنعه أوديسيوس واختبأ بداخله الجنود الإغريق وتسلّلوا ليلا لفتح أبوابها، التي ظلّت منيعة بعد حصار دام عشر سنوات تقريبا من طرف جيش الملك منيلاوس وأخيه أجاممنون لرد الاعتبار للشعب الإغريقي. كانت طروادة منذ بداية نشأتها حصنا منيعا حيث يعيش بين جدرانه ملكا مع أسرته وخدمه في عدد من البيوت القليلة المحاطة بأسوار متينة، أما الفلاحون وأرباب الحرف والتجار فكانوا يعيشون خارج أسوارها على منحدرات الجبال والسهول قبل أن يأتيها حصانها الشهير (طروادة) الذي سحقها وعمد إلى تدميرها بعد عشر سنوات من حصار جيوش الإغريق لها لاسترجاع زوجة الملك «هيلين»(تقول رواية أخرى بأن اسمها بيرسيس) التي خطفها «باريس» ابن الملك بريام لحظة زيارته لقصره. خدعة طروادة يروى أن باريس ابن الملك بريام حاكم طروادة قد حكّم في منافسة جمال بين المعبودات الإغريقيات هيرا، وأثينا، وأفروديت فاختار للفوز الأخيرة «أفروديت» بعد أن كانت قد وعدته بتزويجه من أجمل امرأة في العالم، فقام «باريس» بعد هذه المنافسة بزيارة منيلاوس ملك اسبرطة في قصره فوقع في غرام زوجته «هيلين» التي كانت تُعرف بأنها أجمل امرأة في العالم، فقرّر باريس اصطحاب زوجة الملك (بعد أن أوقعها في غرامه) إلى طروادة، وعندما علم الملك منيلاوس بالأمر غضب غضبا شديدا وقرّر الثأر لنفسه ولشعبه باجتياح طروادة لتنطلق الحملة التي قادها «اغاممنون» أخ الملك مينلاوس وضمت إلى جانبه كلا من اخيليوس (أخيل) واديسيوس (يوليسيس كما في اللاتينية) وكثيرا من رجالات وأبطال الإغريق الآخرين. كانت طروادة أشبه بقلعة كبيرة تتهاوى أمامها الجيوش الضخمة التي تفشل غالبا في احتلالها، لكن الإغريق أصرّوا على احتلالها وتدميرها والثأر لملكهم واسترجاع زوجته «هيلين»، فدام الحصار قرابة العشر سنوات دون أن ينجح الإغريق في اقتحامها خاصة وأنها حُصّنت بأسوار حجرية عالية ومتينة، وفي عتمات ليلة ساكنة لاحت لأوديسيوس فكرة وحيلة غابت عنه طوال فترة الحصار الطويلة وهي بناء حصان خشبي يتسع داخله لبعض الفرسان ولا يفتح إلا من الداخل، على أن يتم ترك الحصان خارج أسوار طروادة وينسحب الجيش ويرابط قرابة البحر الذي يقترب من المدينة، ويتسلّل بعض الفرسان ليلا وخلسة إلى داخل الحصان الخشبي الذي لربما يصطحبه الطرواديون إلى داخل أسوارهم، وهكذا كان، فسرعان ما أعطى «اوديسيوس» الأمر للعمال لبنائه، الذين سرعان ما أنهوا العمل به لتنسحب في الصباح الباكر الحملة العسكرية برمتها ويتم تنفيذ الخطة التي رُسمت سابقا. تقول رواية هوميروس: «كان أهل المدينة يراقبون الجموع من فوق الأسوار العالية وأعينهم لا تصدق أن الحصار انتهى وأن جيوش الإغريق غادرت، ولكنهم لاحظوا ظلُا كبيرا لا يزال يرقد في الساحة خارج الأسوار فانتظروا حتى جاء آخر جندي ثم بعثوا برسولهم يستطلع ما بال النصب الواقف على شكل حصان، ليجدوا حصانا خشبيا ضخما. أثار الحصان الخشبي فضول الطرواديين فقرُروا سحبه إلى داخل المدينة على الرغم من تحذيرات الكاهن الطروادي «لاوكون» لهم بأن لا يفعلوا ذلك، لكن أفراح القوم بالجلاء جعلتهم غير آبهين بحجم الكارثة القادمة إليهم في صمت ودهاء، فعمت الأفراح في أسوار طروادة وبدأت الاحتفالات التي أخذوا يروُحون بها عن أنفسهم من عناء الحصار الطويل، فطالما انفك الحصار فليشربوا الآن دون تردد وليأكلوا حتى ما فوق الشبع وليحتفلوا فهو يوم فرح ومرح وترويح، لكنهم لم يعرفوا بأنه يوم تشيب له الولدان ويتقرُر فيه مصير مدينة بأكملها ظلت صامدة أمام أعتى الجيوش والإمبراطوريات. وبعد انتهاء الليلة الصاخبة بالشرب والخمر والضجيج والاحتفالات، وبعد أن تأكد الفرسان الرابضون داخل جوف الحصان الخشبي من حلول الظلام ومن حالة السبات العميق التي أضحت تخيُم على أهل طروادة، تسلّلوا وفتحوا باب المدينة أمام بقية القوات الإغريقية الرابضة في انتظار إشارة النصر التي سرعان ما دخلت طروادة ونفذُت فيها مذبحة ذهب ضحيتها شعب بأكمله بعد نهب المدينة وإحراقها وإعادة «هيلين» زوجة الملك «منيلاوس» ومقتل باريس العاشق الولهان الذي سبّب الكارثة، لتكون المدينة ومع نسمات الصباح الساحرة قد اُهلكت بالسيف والنار واختفت معالمها من الوجود وقضى أهلها حتفهم بالسيف. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب