لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....» ولد هانيبال (أو هنبعل كما يلفظ عادة) في قرطاج (تونس حاليا) عام 247 قبل الميلاد لينشأ في كنف أبيه «هاميلقار برقة»، ذلك المحارب العظيم الذي قاسى من ويلات الحرب ضد روما التي جرّدته هو وقرطاج من الشرف والأرض معا، فاعتاد على مرافقة والده إلى معبد قرطاجة الكبير الذي بات يُقسم فيه باستمرار أن يظل عدوّا لروما طالما بقي على قيد الحياة، وسرعان ما انتقل هانيبال إلى الثغور يقاتل ويحارب وهو لم يتجاوز من العمر الثانية عشر ربيعا ممتطيا الفيل وجواده إلى جانبه وقد أوعز السبب في ذلك بالقول لوالده عندما لاحظ ذلك: «إن الفيل بطيء جدا، وحين أريد أن انقّض على روماني انتقل من فيلي إلى جوادي»، فأعجب والده بالفكرة وقرّر مرافقة الخيل دائما إلى جوار الفيلة في المعارك. غزو روما كان حلم هانيبال هو غزو روما والإطاحة بها نظرا لما عانته الشعوب الرازحة تحت قبضتها، وعندما شعر بأنه يقترب من تحقيق هدفه ورأى نفسه مهيّئا ومعّدا لتحقيق ما ولد من أجله، انتهز فرصة ثمينة لإثارة حنق روما وإشعال فتيل الحرب وهو جل ما كان يصبو إليه، فعندما هاجمت «ساجونتيم» (مدينة اسبانية حليفة لروما) حلفاء إسبان موالين لقرطاج، عبر هانيبال إلى اسبانيا وقام بمهاجمة «ساجونتيم» لتعلن روما غضبها على قرطاج وطالبت مجلسها بتسليم هانيبال إليها، لكنها رفضت ذلك معتبرة بأنه تطاول جديد من روما على السيادة القرطاجية لتنّدلع الحرب بين الطرفين. كان الوضع الطبيعي أن يقوم الرومان بمهاجمة حلفاء قرطاج الإسبان أولا ثم مهاجمة قرطاج نفسها، وكان من المتوقع أن يقوم هانيبال نفسه بتحصين دفاعاته في انتظار وصول الرومان، لكن ما حصل هو أن البطل المغامر هانيبال قرر مهاجمة الرومان في عُقر دارهم وفي روما تحديدا، كانت روما حينها قد سيطرت على كامل البحر المتوسط ولم يعد هناك من سبيل أمام هانيبال سوى طريق البر المليء بالدوريات والقلاع والحصون الموالية لروما والمليء أيضا بقبائل «الجاول» التي لا تدين لأحد، فقرّر هانيبال عبور جبال الألب حيث وعورة الطريق وبرد الشتاء القارس عبر ثلوج جباله البيضاء التي تغطي القمم حتى السفوح، يمضي في جيش قوامه 50 ألف جندي و37 فيلا ينقصها الغذاء والماء وتحتاج إلى مزيد من الغذاء وبكميات كبيرة لتحمل ذلك الطقس، الذي لم تعتد عليه منقبل. الكابوس الروماني بدأ الكابوس الروماني بمجرد زحف هانيبال على روما سنة 218 قبل الميلاد انطلاقا من مدينة قرطاج وقاعدتها العسكرية تاركا وراءه أخيه «هازدربال» للدفاع عنها في حالة هجوم الرومان عليها، كما كان متوقعا حدوثه، وهكذا قاد هانيبال أركان جيشه قائلا: «في حالة وصولنا نهر «البو» قبل فوات الأوان فإننا سنمسك بتلابيب جيوش الغزو الرومانية داخل ايطاليا نفسها وبالتالي لا تصبح مدينة قرطاج ميدانا للحرب، وحينئذ تقع تكاليف الحرب لأول مرة على الرومان وعلى بلادهم فيكتوون بآلامها ويحرقون بنارها، فالسرعة ثم السرعة» مردّدا بعبارته الشهيرة: «إما أن تقهر عدوّك وإما أن تقبل مصير المقهورين». سرعان ما تمكن هانيبال وجيشه من عبور جبال الألب في خمسة عشر يوما بعد أن هلك جزء كبير من جيشه (حوالي 15 ألف جنديا) وبقي قسمه الأكبر ليخوض أول معركة له «معركة تسينو» التي دارت رحاها على شواطئ نهر تسينو وحسمها هانيبال لصالحه بخطة سريعة لعب فيها الفرسان الامازيغ دورا حاسما عندما طوّقوا من الخلف كتائب الرومان الثقيلة التي لم تصمد رماحهم الطويلة أمام حراب الأمازيغ القصيرة والخفيفة النافذة، ليندّحر جيش روما بقيادة القنصل «ببليوس» أمام جيش هانيبال ويولّي الأدبار جريحا ومهزوما لروما وهو يردد مع نفسه: «كيف وقع من صهوة جواده وسط فرسان غرباء لم ير مثلهم في حياته لسرعة الكرّ والفرّ لديهم. دع الأرض تقاتل عنك لم ترض روما بهزيمة قنصلها «ببليوس» أمام جيش هانيبال القادم إليها، فأسرعت بتوجيه جيش آخر بقيادة جديدة هو القنصل «طيباريوس سمبرونيوس» لملاقاة جيش هانيبال ومحو هزيمة معركة تسينو، لكن هانيبال سرعان ما أرجح الكفة لصالحه وألحق هزيمة أخرى بروما وجيشها الجديد في معركة كاني (أو كاناي) على ضفاف بحيرة «ترازايمين» وهو يردّد مقولة أبيه «هملقار برقة»: دع الأرض تقاتل عنك، وكان من نتائج تلك المعركة أن تحالفت مع هانيبال شعوب «غال سيسالبين» التي انضمت إليه بجيش قوامه 14000 مقاتل فاستقبلهم هانيبال وهو يردد بالقول: «إذا أحرزت نصرا انضم إليك الجميع حتى خصومك، أما إذا حاقت بك الهزيمة تخلّى عنك حتى محبوك». وفي شهر يونيو 217 قبل الميلاد تجمعت جماهير روما بساحة «الفوروم» بعد أن وصلت كوارث الهزيمة إليها وبقيت أبواب مجلس الشيوخ مغلقة أمام الجماهير التي طالبت برد قوي ضد هانيبال وجيشه القادم لاحتلال روما، وبعد إلحاح من الجماهير خرج عليهم القنصل «بومبونيوس» بمفرده واعتلى درج مدخل المجلس وألقى على الجماهير خطابا قصيرا يتكون من إثني عشرة كلمة فقط قال فيه: «لقد قهر العدو جيوش روما في موقعة عظيمة مات فيها أحد القنصلين (القنصل فلامينوس)». الطريق إلى روما أضحت الطريق ممهدة أمام هانيبال نحو روما، لكن هانيبال سيتخذ قراره بعدم دخولها والتروي لبعض الوقت حتى يستريح الجيش الذي أنهكته الحرب (كان لهذا القرار نتائج وخيمة احتل فيها الرومانقرطاج وقاموا بتدميرها وإحراقها كليا فيما بعد) مطلقا العنان لجيشه لكي يستريح قائلا: «يبقى على الطهاة الآن أن يعدّوا لنا وجبة شهية ويسخروا لها كل فنونهم وتقدم مصحوبة بالخمر إلى الجنود من سائر الرتب، فقد آن للجيش أن يستريح، وهنا صاح مساعده العجوز الامازيغي بالقول: هانيبال اسمعني جيدا، في خمسة أيام فقط يستطيع الجيش أن يتناول هذه الوجبة في روما نفسها، فتطلّع هانيبال مليّا إلى وجه مساعده العجوز وأجابه بالقول: هذا ممّا يسهل قوله لكن يجب إمعان التفكير في الأمر وتقليبه على عدة وجوه. وقد يحتاج إلى مزيد من الوقت، فلم يتمالك العجوز نفسه وصاح بغضب قائلا: «هانيبال لقد حبتْك الآلهة بنعم كثيرة وأنت تعرف كيف تحرز النصر، لكنك لا تعرف كيف تستخدمه وتستغله. أمام تلك الانتصارات التي حققها هانيبال ضد غيرمته روما (التي قطعت عليه الإمدادات من مؤن وطعام نظرا لأنه يتواجد على أراضيها)، كانت هناك عيون رومانية ترقب السقوط المروّع لكل جنرالاتها وجنرالات روما وترقب عن قرب كذلك الأحداث عن كثب وتتأمل وتتعلم، كانت تلك العيون للقائد الروماني «بابليوس كورنيليوس سيبيو» الملقْب «بسيبيو إفريقيا» الذي أخذ العبرة من هانيبال نفسه وقرّر غزوه في مسقط رأسه قرطاج. وبينما كان هانيبال غارقا في التفكير والتمعن لغزو روما من عدمه، كان بابليوس يتجه إلى قرطاج على رأس جيش جرار مزود بالعدْة والذخيرة عبر به البحر ووصل مشارفها ليستولي عليها ويدمْرها ويحرق كل من فيها ويسقط هانيبال وتسقط قرطاج بعد أن دُمرت إلى الأبد. يقول المؤرخ اليوناني «بوليبيوس» الذي رافق القائد الروماني سيبيو الإفريقي في وصف عملية تدمير قرطاج: «كان سيبيو الإفريقي يبكي بكاءا شديدا لحظة تدمير قرطاج وإحراقها متأثرا بما آل إليه عدوه، فاستعرض أمامه الحقيقة المتمثلة في أن الأفراد والأمم والإمبراطوريات نهايتها محتومة وكذلك نصيب مدينة طروادة العظيمة ونهاية الإمبراطوريات الآشورية والميدية والفارسية، إنها نفس الكلمات التي أوردها هكتور في «الياذة هوميروس» حين قال: سيأتي اليوم الذي تسقط فيه طروادة المقدسة وكذلك الملك بريام وجميع رجالاته المسلحين معه، وعندما سألته ماذا تقصد بذلك التفت إليُ وقال بتأثر: هذه لحظة عظيمة يا بوليبيوس لكن الخوف يتملكني من أن نفس المصير سيكون لوطني في يوم من الأيام. *كاتب وصحفي فلسطيني مقيم مقيم في المغرب