لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المولى جل وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المهمة الجليلة،هم رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم هم ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا لخدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المسلمين المضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضاة الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام وتفضيله على متاع الحياة الدنيا، رجال ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون، وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ....» فتح التاريخ سجلاته ليظهر لنا إحدى شخصياته البارزة، التي كان لها الفضل الكبير في رفعة الإسلام والمسلمين بعد أن تمكن بحنكته العسكرية وقيادته لجيش المسلمين من إلحاق الهزيمة بالتتار وكسر شوكتهم ووقف زحفهم نحو البلاد الإسلامية حين انتصاره العظيم بمعركة عين جالوت، بعد تربعه لفترة قصيرة على عرش سلطنة مصر قبل أن يتم اغتياله غررا على يد عدد من أمراء المماليك وعلى رأسهم «بيبرس البندقداري» في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1260. الملك المظفر إنه الملك المظفر سيف الدين قطز (محمود بن ممدود ابن أخت السلطان جلال الدين خوارزم)، الذي تم اختطافه عقب انهيار الدولة الخوارزمية عام 1231 على يد المغول قبل أن يحمل هو وغيره من الأطفال إلى دمشق يباع ويشترى في سوق الرقيق إلى أن انتهى به المطاف في يد «عز الدين أيبك» أحد أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر. مهارات قتالية أوكل «عز الدين أيبك» لغلمانه تعليم الطفل الصغير «قطز» اللغة العربية والقرآن الكريم ومبادئ الفقه الإسلامي، وعندما وصل مرحلة الشباب تدرّب على الفروسية والمهارات القتالية واستخدام السيف والرمح وغيرها من فنون الحرب، ليرتقي سريعا كقائد لجند أيبك ثم قائدا للجيوش عقب تربع عز الدين أيبك على عرش السلطنة مع زوجته شجرة الدر. دوام الحال من المحال بدأ دور قطز يتضح ويبرز شيئا فشيئا عقب تولي «عز الدين أيبك» السلطنة في مصر وأصبح قطز يده اليمنى، ولما كانت الأوضاع غير مستقرة داخل السلطنة نتيجة للتهديدات المستمرة للتتار وزحفهم على الدولة الإسلامية من جهة، وازدياد الفتن الداخلية التي كان منبعها فارس الدين اقطاي زعيم المماليك البحرية ومن حوله من رجال وفرسان المماليك (كان يرغب في التربع على عرش السلطنة وانتزاعه من عز الدين أيبك) من جهة ثانية، فإنها منحت لقطز حرية التخلص من اقطاي وأتباعه الذين تم القبض على عدد منهم وفرار من تبقى منهم إلى الشام بعد تفويض من عز الدين أيبك. لكن دوام الحال من المحال، فما هي إلا سنوات قليلة حتى قُتل «عز الدين أيبك» ولحقت به زوجته شجرة الدر ليصعد المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك إلى كرسي السلطنة وكان حينئذ طفلا صغيرا لا يصلح لأمور السلطنة والحكم، فعمّت الاضطرابات البلاد والتي كان يثيرها عدد من المماليك البحرية، الذين هربوا إلى الشام سابقا من قبضة أيبك، وزاد من حدة الأزمة تهديد التتار المتنامي، ورغم نجاح قطز في إخماد بعض الثورات الداخلية والاضطرابات والقلاقل، إلا أنه لم ينجح في كبح جماح تهديد التتار الخارجي وبعض المنشقين من المماليك، الذين يرأسهم اقطاي نفسه الحالم دائما بالسلطة والتربع على العرش، فقرر قطز عزل السلطان الصغير «نور الدين علي بن المعز أيبك» والإمساك بمقاليد الحكم وإرجاع الاستقرار للدولة. ضم الصفوف بعد أن تولى قطز العرش بمصر سارع الزعيم التتاري «هولاكو» بإرسال رسالة إلى قطز تمتلئ صفحاتها بالتهديد والوعيد يدعوه فيها إلى الاستسلام، فما كان من قطز إلا أن قام بحبس رسل هولاكو وقتلهم وتقطيع رؤوسهم على أبواب القاهرة في إشارة لهولاكو إلى عدم خوف المسلمين وقدرتهم على تحدي التتار والوقوف بوجهه، بل زاد من حدة ذلك بأن بعث قطز برسالة إلى هولاكو يدعوه فيها لملاقاته للحرب، فأخذ قطز يجمع قواته ويلملم صفوفها مستدعيا بذلك أمراء المماليك البحرية (المنشقين المتواجدين في الشام) وأحسن معاملتهم واستقبالهم بعد أن منحهم ألقابا أميرية وولاهم قيادة الجيش وكان من بينهم «بيبرس البندقداري»، وبدأ تحرك قطز وجنوده لملاقاة التتار الذين علموا بتقدم المسلمين باتجاههم، فحشد هولاكو جيشه وجعل على رأسه القائد التتاري (كتبغا نوين)، واتجه لملاقاة المسلمين الرابضين في موقعة عين جالوت بالأراضي الفلسطينية المحتلة في الثالث من شتنبر 1260، واشتعلت نيران الحرب بينهما وانقض الفارس الهمام قطز على جنود التتار يقاتل ببسالة باعثا روح الحماس داخل جنوده خالعا خوذته شاهرا سيفه مسارعا للشهادة لا يبالي بسيوف الأعداء ولا يبالي سوى بنصرة المسلمين صارخا بالمسلمين وهو يبكي بالقول: و«ا سلاماه.... يا أمراء المسلمين من للإسلام إذا لم نكن نحن»، ليكتب الله لهم النصر في (الثالث من شتنبر 1260ميلادية) الذي تم من خلاله إنقاذ الأراضي الإسلامية وتراجع المغول من دمشق التي دخلها قطز وفرض سيطرته عليها وعلى سائر بلاد الشام مقررا العودة إلى مصر في الرابع من أكتوبر 1260. لكل بداية نهاية لكن لكل بداية نهاية وبعد كل حياة موت، فكانت نهاية الفارس سيف الدين قطز عقب إحرازه لنصر عين جالوت ووقف الزحف التتاري وردعه عن أراضي المسلمين، ففي طريق عودته إلى مصر وقبل أن يحتفل مع شعبها بالنصر الذي أحرزه وأمراء المسلمين، تآمر عليه عدد من أمراء المماليك الذين أضمروا له الحقد وأوغلوا قلب «بيبرس البندقداري» نحوه، فقرروا التخلص منه والانفراد بالحكم خاصة بعد أن اخلف قطز وعده له بتوليه على حلب فقام بمراقبته مع غيره من الأمراء وتحيّنوا الفرصة للقضاء عليه وكان لهم ما أرادوا، حيث انتهزوا فرصة خروج قطز بمفرده عائدا إلى مصر وانقضّ عليه بيبرس وبعض الأمراء لتمزق سيوفهم جسده، ليقتل الفارس بعد أن أحرز النصر الذي لم يهنأ بالاحتفال به وسط شعبه وكانت وفاته في الرابع والعشرين من أكتوبر 1260. كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب