لم يكن مفاجئا، إطلاقا، بالنسبة إلي أن أحلم بكابوس يكون الصديق القديم رشيد نيني حاضرا فيه بقوة، فقبل هجوعي إلى النوم، جرى الحديث عنه بيني وبين بعض أفراد عائلتي ونحن على مائدة العشاء، كما قرأت أخبارا عنه، خلال اليوم نفسه، خصوصا في الجريدة التي يرأس مجلس إدارتها. ورغم أن جدتي -رحمها الله- كانت تنصحني بعدم سرد أحلامي على أي أحد، لحكمة تعلمها هي وحدها وتجنبتْ أن تذكرها لي، مكتفية بالقول «ما مزيانش وصافي».. فإنني أستسمحها لي هذه المرة أن أسرد هذا الحلم، أو بالأحرى الكابوس، الذي عشته في ليلة من ليالي الأسبوع الماضي، وأنا على يقين من أنني لست الوحيد الذي سبق له أن حلم برشيد نيني، خصوصا خلال هذه الأسابيع الأخيرة، حيث يقضي العقوبة الحبسية المجحفة وحيث لا يمر يوم دون أن نذكر اسمه ونطّلع على ظروف اعتقاله وغير ذلك من المستجدات المرتبطة بتجربته المريرة. لم يسبق لي أن زرت أمريكا الشمالية ولا الجنوبية ولا الوسطى، ولكن كيف حدث أن حلمت أنني في مأزق مع رشيد نيني على سلم عمارة شاهقة في ولاية واشنطن؟ كنا نصعد درجات لا حصر لها ولا عد، لبلوغ ما يفوق الطابق الخمسين، دون أن نفكر في استعمال المصعد، مع علمنا بوجوب الصعود إلى ذلك الطابق، حيث يوجد مطعم، في حين قال لي رشيد نيني إنه ليس هناك مطعم بل معرض تشكيلي، فيه عدة لوحات للشعيبية طلال، لمزيد من التوضيح، وأنا أقول له إن الشعيبية ماتت ولا يمكن أن تكون هناك وإنه مطعم وليس معرضا تشكيليا، وأذكّره بأنني «جائع» وبأنه علينا أن نصعد إلى المطعم حالا.. كنا قد التقينا، صدفة، تحت ممر أرضي وعبّرتُ له عن أنه كان علينا أن نأتي إلى ولاية أخرى غير واشنطن، وقال لي إنه من الأحسن أن يكون المرء بالقرب من «جحر الأفعى»، ولم أفهم قصده، ثم فاجأني بالقول إنه سيرافقني إلى المطعم، لكنه لن يأكل أي شيء.. - أنا: هل تغذيت؟ - رشيد نيني: لا، لم أتغذ ولا أفكر في الأكل. - أنا: إذا كانت شهيتك مقفلة، يمكن أن تفتح الشهية بعصير برتقال.. كنا قد ولجنا العمارة، حيث يوجد مطعم في أحد طوابقها البعيدة، لكنْ ونحن نصعد السلالم ونتصبب عرقا وأنفاسنا تكاد تنقطع، باغتتنا خادمة المطعم، وقد عرفنا صفتها من خلال بذلتها الفضفاضة، المائلة إلى البياض، والتي كانت مرسومة عليها بشكل فني كلمة «food»... ما تزال هذه الكلمة ماثلة أمامي حتى كتابة هذه السطور. كانت خادمة المطعم ذات حجم مرعب: بدا أنها تزن أكثر من طن، إلى حد أننا تجنبنا التوجه نحوها أو حتى النظر إليها.. لاسيما أنه بالإضافة إلى كل تلك الأوصاف، كان شعرها أشعث، غير أنها أخذت تتعقبنا، بعد أن انتبهت إلى أننا غيّرنا وجهتنا وشرعنا، هذه المرة، نهبط السلالم التي لا حصر لها.. يا للكابوس! وكنا نتفادى أن تخبطنا بيديها، وكانت تستفسرنا حول وجهتنا، وهي تدعونا إلى مطعمها وتردد الكلمة ذاتها بصوت خشن: «فوود.. فوود.. فوود».. وكان علي، في الصبيحة نفسها، حتى قبل أن أتوجه إلى العمل، أن أفك خيوط هذا الحلم المزعج، فقد كنت قرأت عنوانا بالبنط العريض، على رأس الصفحة الأولى للجريدة التي يرأس رشيد نيني مجلس إدارتها، مفاده أن التضييق عليه متواصل وأن ندوة في واشنطن تطالب بالإفراج عنه، إذن لهذا السبب كان الحلم قد جرى في هذه الولاية الأمريكية بالذات، لكن لماذا ذكر أنه لم يتغذ وأنه لا يفكر في الأكل؟ لا بد أن هذا الحادث له صلة باحتجاجه على المضايقات التي ما فتئ يتعرض لها في السجن -فكََّ الله أسره- إلى حد أنه هدد بالإضراب عن الطعام، بعد أن أضرب، فعلا، عن الخروج إلى الفسحة. ولكنْ ما موقع الفنانة التشكيلية طلال -رحمها الله- في هذا الحلم المزعج؟ الحقيقة، أعترف أنني لم أتوصل إلى معرفة السبب، وهذا شيء طبيعي، فأغلب الأحلام، أو بالأحرى الكوابيس، لا يكون منطقيا، لكنْ لماذا كان المطعم في الطابق ال57 وليس في الطابق السفلي مثلا؟ أعتقد أن السبب واضح، وهو أنه في ذلك اليوم كان عدد الأيام التي قضاها رشيد نيني وراء القضبان، بالضبط، سبعا وخمسين (57) يوما، وقد اطّلعتُ على هذه المعلومة في أعلى الصفحة الأولى للجريدة التي يرأس مجلس إدارتها، أما الجثة الضخمة لخادمة المطعم، التي كانت ترغب فقط في أن تخبطنا بيديها لتزهق أرواحنا، فهي الكابوس بعينه. ذكريات قديمة واقعية، قد تسعف في إضاءة هذا الكابوس: -الذكرى الأولى، في أواسط التسعينيات من القرن الماضي في مقهى «المثلث الأحمر» في الرباط: «تواطأ» رشيد نيني وجمال بودومة ضدي وسلباني بعض القطع النقدية حين وضعتها سهوا فوق الطاولة، وهما يسخران مني بعد أن عبّرت لهما، بكل سذاجة، عن عدم جدوى هذا المبلغ المالي الزهيد، وكنا جميعا في شبه عطالة عن العمل. -الذكرى الأخرى ونحن (نيني والدامون وأنا) في بداية الألفية الثالثة، على متن باخرة «كوماريت»، عائدين من الخزيرات، بعد أداء مهمة صحافية بمناسبة موسم عبور الجالية المغربية في الخارج، حذرنا رشيد نيني من خطورة الريح ودعانا، بإحساس غامض، إلى أن نبتعد حالا عن سطح الباخرة، وهو يجرني أنا بالخصوص بكلتا يديه. -تحية لرشيد نيني، إنه مبدع وليس مجرما أو إرهابيا، ولهذا ينبغي إطلاق سراحه. صحافي في جريدة «بيان اليوم» - عبدالعالي بركات