مسار قطعته على امتداد أربعة عقود مجموعة ظهرت في قلب سوس وفي أحد الأحياء الهامشية في حي الجرف في إنزكان على الضفة اليمنى من وادي سوس عند مصبه في المحيط الأطلسي. من أجواء الألم والفقر والحزن والخوف، طلعت أشعة مجموعة غنائية استقرت تسمياتها، أخيرا، على «إزنزارن»، التي تعني مجموع الأشعة. في هذه الحلقات، التي تنفرد «المساء» بنشرها، سنحكي حكاية هذه المجموعة الفنية التي تفردت بنمطها الغنائي واستطاعت أن تجمع حولها محبين بالملايين. كان أغلب المسؤولين عن الإذاعة الجهوية من «المحافظين» فنيا، حيث كانوا ينفرون كثيرا من «المجموعات»، التي كان أغلب أفرادها من «الهيبيزم»، المعروفين بشعورهم الكثيفة والمنفوشة في أحيان كثيرة. كما كان هؤلاء العاملون في الإذاعة لا يحبذون إدخال الآلات الجديدة على الطرب الأمازيغي، بل كانوا يعتبرون «الرباب» و«الناقوس» و«لوطار» الآلات «المقدَّسة» في الفن الأمازيغي ولا يقبلون غيرها، بل كان منهم من يعتبرونها مثل «فرائض الصلاة»... لذلك اعتبروا «البانجو» والكمان وغيرهما من الآلات «دخيلة» على الفن الأمازيغي فضربوا «حصارا» خانقا عليها المجموعات، وكان فن «الروايس» هو الوحيد الذي يملك جواز المرور عبر إذاعة أكادير الجهوية... عندما بدأت الإرهاصات الأولى للمسيرة الخضراء تلوح في الأفق، كانت عناصر المجموعة تترنم بكلمات أغنيتي «ميد لاركوك» وبكلمات أغنية أخرى عن عيد العرش، واللتين ستتحولان، في ما بعدُ، إلى «المفتاح السحري» الذي سيفتح «أبواب» الإذاعة في وجه «إزنزارن»، أبواب ظلت موصدة في وجه هذه المجموعة الفتية، والتي ما زال أعضاؤها يتلمسون طريق النجاح. «ميد لاركوك ميد تورارت أوملال.. ميد للواح دي إغربان أغ كانتين صرفن لاجدود نغ إلي التاريخ أيت لاصل إليتن وراتن ما كا غاود أكينان إكوساغ»... وترجمتها «كم من مساحات ممتدة وكم من تلال رملية، كم من الأبواب والجدران ما زالت قائمة تشهد على مرور أجدادنا من هنا ويشهد على ذلك التاريخ.. نحن أصحاب الأرض الأصليون وتشهد على ذلك الكتابات.. فمن يكون هذا الذي يقول إنه ورث هذه الأرض عنا؟»... لم يكن أفراد المجموعة يتوقعون أن الخطوة الأولى التي خطَوْها على عتبة مقر الإذاعة الجهوية في أكادير ستكون أول خطواتهم على درب الشهرة. كان عدد الميكروفونات لا يتجاوز خمسة. تم استقبالهم من طرف مدير الإذاعة وتم تسجيل الأغنيتين الخاصتين بعيد العرش والصحراء المغربية، لم يكن طموح المجموعة، ساعتها، يتجاوز التعريف بهذا النمط الجديد للأغنية الأمازيغية، المتمرد على الأنماط التقليدية، رغم وفائه لروح الكلمة القوية والملتزمة، التي ستتبلور، بجلاء، في الألبومات الأولى التي تم تسجيلها للمجموعة. تم تسجيل هذه الأغاني لأول مرة كان بالمجان، حيث لم يتقاض أفراد المجموعة أي مقابل عن ذلك، ولم يكن همُّهم المال بل إن مجرد انفتاح أبواب الإذاعة في وجههم والسماح لهم لكي يذيعوا أغانيهم على أوسع نطاق قد أغناهم عن السؤال عن المقابل المادي، كما أن العديد من تصريحات أعضاء المجموعة كانت تجمع على أن الهاجس المادي كان آخر شيء يتم التفكير فيه، رغم أنهم أغلبهم كانوا يعيشون ظروف اجتماعية متواضعة، لنهم كانوا يعيشون من أجل فنهم. في تلك الفترة، كانت الآلة الجديدة التي دخلت هي آلة «البانجو»، هذه الآلة القادمة من أمريكا اللاتينية، والتي أدخلت عليها «إزنزارن» تعديلات طفيفة من أجل أن تتناسب مع الإيقاعات السوسية الأصيلة، التي ظلت الفرقة وفية لها. بعد أن تمت إذاعة أغاني فرقة «إزنزارن» على الهواء مباشرة، فوجئ أعضاؤها بأن لديهم جمهورا واسعا، وتمثلت ردود الفعل الأولى في كثرة الطلبات التي «انهالت» على المسؤولين على الإذاعة تطالبهم بإعادة بث أغاني مجموعة «إزنزارن»، فكانت تلك أولى الخطوات على درب الشهرة.. لكن أغنية «إمي حنا» كانت علامة فارقة في حياة الفرقة. في مارس 1976، كان عبد العزيز الشامخ قد غادر الفرقة من أجل تأسيس فرقة جديدة تسمى «إزنزارن -الشامخ» وواصل البقية رحلة بحثهم عن المجد الموسيقي، حيث كان الموسيقي المعروف عبد النبي الجيراري، حينها، يشرف على برنامج «مواهب»، الذي يبث على قناة التلفزة المغربية الوحيدة آنذاك. قامت المجموعة بمراسلته، طالبة المشاركة في برنامجه. لم يتأخر رد عبد النبي الجيراري كثيرا، حيث جاء الجواب في أقل من أسبوع، لتقرر المجموعة السفر إلى الرباط من أجل المشاركة في البرنامج. تدبر أفراد المجموعة مصاريف التنقل إلى الرباط انطلاقا من محطة إنزكان، وعندما وصل أفراد المجموعة إلى الرباط، احتضنهم الطلبة من أبناء مدينة إنزكان وقاموا بترحيلهم من الفندق وخصصوا لهم بيتا من بيوت الطلبة للإقامة فيه، وظل ذلك البيت مَحَجّا لجميع طلبة جهة سوس المقيمين في الرباط وكذا لمحبي المجموعة، الذين علموا بوجود أعضاء «إنزارن» فحجوا بكثافة للقاء المجموعة إلى أن حان موعد بث برنامج «مواهب»، الذي كان يبث كل يوم سبت. استقبل عبد النبي الجيراري أفراد المجموعة الذين ما زالت ذاكرتهم تحتفظ بلطف ورقة التعامل، الذي حظوا به من الفنان عبد النبي الجيراري. عندما كانت المجموعة تستعد للعزف في تلك الحلقة من «مواهب»، نبه عبد النبي الجيراري عبد الهادي إيكوت، الذي كان يعزف على آلة «البانجو»، إلى أنه لم تتم «تسوية» الوتر الأخير بشكل جيد، لكن عبد الهادي رد عليه بأنه سيعزف بعض الأغاني بهذه «الدرجة»، فطلب منه عبد النبي الجيراري البدء في العزف، فكانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إلى «قناص المواهب»، كما كان الجيراري يُلقَّب ساعتها.. ظل عبد النبي الجيراري مشدوها أمام البراعة التي أدى بها عبد الهادي التقسيمات الأولى. وأدت المجموعة، بعد ذلك، مجموعة من أغانيها، وعلى رأسها «أهو أيهو ياتسانو»، وهنا تنبأ عبد النبي الجيراري بمستقبل موسيقي للمجموعة وأخبر أعضاءها بأنه، لأول مرة، يسمع مثل هذا النوع من الفن، وشجعهم على المضي قدما، مؤكدا لهم أنهم سينجحون، لا محالة. كانت تلك العبارات ترفع دقات قلوب أعضاء الفرقة، الذين رجعوا بمعنويات عالية من هذا المحطة وطُلب منهم أن يعودوا في يوم السبت الموالي من أجل التسجيل والمرور عبر الهواء مباشرة في التلفزة المغربية آنذاك.. كانت هذه الأحداث تدور في شهر أبريل من سنة 1976. وعندما حل يوم السبت، اتجهت المجموعة إلى مقر الإذاعة من أجل التسجيل، وكانت حشود من الطلبة برفقتهم، تجاوز عددهم 80 طالبا من أبناء منطقة سوس ومن المحبين للمجموعة، ممن علموا بخبر التسجيل.