يكفي أن نجيل النظر من حولنا لنرى أرتالا من الكائنات البشرية التائهة في الأزقة والشوارع والساحات، كائنات تعيش كالأطياف بيننا، نراها دون أن نراها بالفعل، ونتواصل معها، داخل الحياة الاجتماعية، بشكل أقل، أي من خلال تجاهلها كلية. إنها مجموعات المهمشين والمنسيين والمقصيين من الدوائر التي تنتظم العقل الاجتماعي، بمواضعاته وقوانينه وعلاقاته، ومن الدوائر الاقتصادية النفعية. إنها كائنات تم رميها بعنف معلن أحيانا، مبطّن أخرى، خارج المجتمع، في المناطق المعتمة للهامش أو للحياة الهامشية، حيث تعيش تيهها اليومي بلا وعي، كما لو أنه المصير الأوحد الذي كان بانتظارها أو اختير لها. هناك، في تلك المناطق المعتمة للهامش، نعثر على هذه الكائنات الأطياف، التي تتكون من المشردين والعاهرات والمجانين والأشخاص الذين لا يجدون سقفا يلوذون به. إنهم شبيهون، نوعا ما، بالملاعين الذين وصفهم دانتي في «الكوميديا الإلهية»، والذين لا يتوقفون عن عبور دوائر الجحيم، أو بشخصية «غودو» في مسرحية صامويل بيكيت الشهيرة، الذي يظل مجرد شخصية متخيلة متعذرة على الإتيان. لقد كتب مبدعون مغاربة اختبروا بقوة حياة الهامش هذه، بكل كوارثها وعتماتها ولقاءاتها وصيروراتها، اللا مدركة، مثل محمد شكري في «الخبر الحافي» ونصوصه الفرنسية في «موحا الحكيم، موحا المجنون» و«حرودة».. وكتب عنها عبد الله سرحان، في روايته «مسعودة»، وآخرون في كتابات ونصوص أخرى، معيدين الاعتبار لأدبياتها، دون أن ننسى أن عوالم جان جوني الروائية اكتظت بصور ونماذج لهؤلاء المهمشين والمنسيين الضائعين في متاهات الحياة الهامشية ليلا ونهارا... إلا أنه في الثقافة المغربية المعاصرة، ورغم حضور المعالجة القصصية والروائية لشخصيات الهامش هذه، فإننا نادرا ما نعثر على كتاب يحاول التفكير والكتابة عنها نظريا وإبداعيا، كما نجد ذلك في كتاب حسن اسماعيلي «صور من الحياة الهامشية» (figures de la marginalité)، المكتوب بالفرنسية والصادر سنة 2009 عن «منشورات ملفات تادلة» في بني ملال. يشتغل الكتاب على نماذج دالة في مدينة بني ملال لهذه الحيوات، المنسية والتائهة في القسوة الصامتة والمتكلمة للهامش، الذي لا اسم ولا عنوان له، والذي يمتد ويتناسل، وفق التناسلات السرطانية لمدينة ممنوحة للقيظ والعطالة والتراب، مضغوطة بين منطقة الدَّيْر في الأطلس المتوسط وسهل تادلة، الخصب والفسيح. كل من أقام في تلك المدينة، التي عانت وما زالت، من التدمير المنهجي لسحر محيطها البيئي ومن الزحف الأرعن والجشع لغابات الإسمنت، المحايدة، هناك ما وراء «طْريقْ الخْمسينْ»، إلا ويعرف أسماء ووجود بعض هذه الشخصيات، الهامشية المنسية، المستسلمة لهِبَات اختلافها العنيد. أثثت الكثير من هذه الأسماء المدينة، بأزقتها وساحاتها المتربة لسنوات مثل «الشاعر»، الذي كنت أراه من نافذة قسمي في الثانوية التي أدرس بها، يتمرن في ملعب العامرية صباحا، وأراه أمام «مكتبة السلام» و»مقهى النهضة» يكنس الرصيف.. ومثل «حادة سروال العرب» و»ملاكم الخرّوبة» وغيرهم... ينطرح كتاب «صور من الحياة الهامشية»، نوعا ما، كاستعادة أركيولوجية لهذه الحيوات، التي لا يعيرها الآخرون، أحيانا كثيرة، أدنى انتباه، بل يعتبرونها بمثابة مظاهر نشاز في سياق الحياة الاجتماعية ومواضعاتها المهيمنة. وفي سياق تلك القسمة الصارمة جدا بين العقل والجنون، المركز والهامش، المقبول اجتماعيا والمرفوض، الوظيفي والنفعي من جهة، والهامش غير النافع، من جهة أخرى، يتوقف الكتاب عند هؤلاء الذين يعتبرون كنفايات وكأنذال وسفَلة، لا موقع اجتماعيا لهم، ويحاول أن يضيء حيواتهم، الباهتة، بضوء مْشكاله، ليعيد إليهم، من خلال سرد حكاياتهم، البعض من إنسانيتهم، التي طالها العنف والنسيان. جاء كتاب «صور من الحياة الهامشية»، كما قال الكاتب في مقدمته، نتيجة للعلاقات التي انتسجت بينه وبين محل إقامته الجديد، وإحساسه بالمسؤولية إزاء المدنية وضرورة البحث عن وسائل ملائمة للاضطلاع بها، عبر الاشتغال على التاريخ الشعبي المحلي، والبحث في المنطقة وتاريخها، لكنه واجه الكثير من الصعوبات مرتبطة بالسرود والحكايات المحلية، التي بلغت درجة كبيرة من التباين والاختلاف، وصعوبة إيجاد ساردين يصعب عليهم سرد حقيقة المنطقة والسخرية من صاحب مشروع البحث والشك فيه، لذا تخلى الكاتب عن صرامة المنهج العلمي واكتفى بالملاحظة المباشرة وفتح الباب أمام الصدفة، ليعرف من الأخبار ما لن يخبره به أي خطاب. أعاد وحده، عبر المجاورة الحميمية، اكتشاف الكائنات والأشياء والمؤسسات، كما هي لا كما تعودنا على رؤيتها عادة، ومن بين معارفه الجدد كان المهمشون، تلك الكائنات الحية التي هي ضحايا القمع والإقصاء والظلم، التي أهّلها وضعها الاعتباري هذا إلى تكوين أفكار وصور مغايرة عن المجتمع ومخالفة لمعاييره وأحكام قيمته. إنهم أقلية مهمشة لم تستطع تطوير قدراتها الإبداعية، لكنها قاومت النحت العاري للأدمغة. إنهم نوع من السفلة (Infâmes) والحثالة، كما يرى الكاتب، لكنهم يظلون شرفاء، تماما كما العاهرة أو المتشرد الذين يعلماننا أن نرى أنفسنا وجها لوجه وأن نرى أيضا بشاعتنا وأن نزيل الأقنعة عن وجوهنا. هكذا، يستعيد المهيمن عليهم سلطتهم الخفية والمسكوت عنها. إنهم ضحايا يتمردون ويختارون حياة التيه بلا سكن مستقر ولا يعملون، لأن العمل والاستقرار قيمتان أساسيتان في الحياة الاجتماعية. يبقى المجانين، تلك الكائنات الهشة والمسالمة، الحالمة والأليمة، التي تبقى بعيدا عن الأسوياء العقلاء حتى لا تصيبهم بجنونها. إنها الكائنات التي يطرح وجودها أسئلة مقلقة الغرابة، تصدم ما يسمى الذوق العام وتفض المعايير والثوابت المؤسسة للنظام الاجتماعي، ومع هذه الكائنات وبجوارها، يرى الكاتب، في مقدمته، أن المرء يبدأ، شيئا فشيئا، في عدم معرفة أين يوجد العقل وأين يوجد الجنون. لكن هؤلاء الرجال والنساء بإمكانهم، كلما سنحن الفرصة لذلك، أن يكشفوا معدنهم الإنساني الخفي، وأرواحهم المسكونة عميقا بمشاعر الأخوة. إن ما يهدف إليه حسن إسماعيلي، هو دعوتنا لإعادة النظر في أحكام القيمة الجاهزة التي يكونها العقل الاجتماعي عن هذه الشرائح من المهمشين والمجانين، ووضع تصورنا لخط القسمة بين العقل والجنون موضع أزمة، رغم أنه يظل مرتبطا بالخارج ومفتوحا عليه، أي الخارج الذي يوجد ما وراءنا والذي يفلت من إدراكنا وتمثلنا. لقد سبق لديكارت، في تأملاته الميتافيزيقية، أن ارتقى بالجنون إلى مستوى «الكورجيتو» واستدعاه، على مستوى الأطروحة، داخل الفكر، حتى يضمن خلو لغته وفكره من الآثار الفعلية لأي جنون. أما فوكو فإنه يرى أن مأسسة الحياة العقلانية تنهض على تجربة جنون الآخر باعتباره حد التجربة نفسها، أي الحد المتمرد المحايث لكل فكر. يقول حسن اسماعيلي، في مقدمة كتابه: «داخل هذا الهامش الذي يظل ساذجا دائما وخالصا دائما، يصير بإمكاننا، أيضا، أن نقرأ شذرات من التاريخ الحقيقي». كأني بالكاتب يقول إن المدن والفضاءات، عموما، يجب أن تقرأ انطلاقا من هوامشها الإنسانية الصامتة، المنفية، المقصاة والمسكوت عنها، وهي مشاريع نظرية ما زالت في انتظار الباحثين في السوسيولوجيا، مثل قراءة منطقة شاسعة بأكملها، انطلاقا من ضريح «بويا عمر»، الذي يتوسطها، أو المنطقة الأخرى المجاورة لها، انطلاقا من البؤرة المركزية، المتمثلة في ضريح «بويا رحال»، أو بؤر ومناطق أخرى هائلة العتمة، بالغة الهشاشة، كثيفة الصمت، مرعبة الصخب، رابضة في هوامش الهامش، حيث تتلاشى الأجساد والأرواح وتضيع الحيوات... لقد اختار الكاتب ألا يستدعي حيوات المهمشين من خلال الكتابة التاريخية الحقيقية، بل تعامل معها كتابة انطلاقا من الأحاسيس والمشاعر، ومن المجاورة الحميمية، المليئة بالأحلام والغضب، أمام عظمة ونبل هذه الأرواح، الساذجة، التي تختفي وسط الكثافة المبهمة للحيوات العادية. تبدو الفصول التي خص بها حسن إسماعيل مجانين ومهمشين بني ملال شبيهة بقصص قصيرة أو بحكايات حيوية حول هذه الكائنات الأشباح. تبدو، أحيانا، مثل قصائد غريبة تنسج حيوات حقيقية ومتخيلة لشخصيات مثل «عازف الناي» و«حادة سروال العرب» و«عايدة» و«الفاطمي» و«الرجل الذي لا اسم له» و«الشاعر الكناس» وآخرين... إنها قصص قصيرة حول حيوات مخنوقة، انحبست تحت ضوء السلطة الاجتماعية والسياسية أو تحت كوارث خاصة، لتنسحق وتلج ليلا غامضا لا رجعة منه، إنهم شبيهون بأبطال إشكاليين، يتحركون داخل محيط من السواد، ف«عازف الناي» ضاعت أرضه قرب قصبة تادلة واكتشف مكر السلطة، ليصرخ ضد الجنون.، أما «حادة سروال العرب» فقد اعتقدت، سنوات في جنونها الهستيري، أنه يمكنها أن تقاوم، كما كانت، وتدافع عن فضيلة الخضوع للأسرة وللمخزن، وعن الجمود الاجتماعي، تماما كما أنها تمارس فعلا سياسيا وهميا قادها إلى حتفها انتحارا في إحدى أغصان شجرة الزيتون، التي نامت أسفلها لسنوات، وتصدّت لِما رأته مصدر الشر، أي المرأة حين تمسك بعصاها في يد وبسيجارة في يد أخرى، وتلاحق الفتيات والنساء عاريات الأرجل، لتضربهن وهي تصرخ «سروال العرب»، الذي صار لقبها... لقد كانت، داخل جنونها، عاملا من عوامل الحفاظ على ما هو سائد وجامد، أي على علامات الانتماء (اللثام، الجلابة، البلغة، القميص، الصدرية)... كانت تجوب شارع الحنصالي وساحة الحرية وباب فتوح وغيرها من المناطق، تصرخ صرختها الحربية، بعصاها وسيجارتها وصفارتها. كان الجنون يسكنها، كطبيعة أصلية لها، كنوع من العودة إلى ذاتها وكنوع من الحل الذي لا بد منه، ولكنه حل ساخر، كما سماه نيتشه، معتقدة أنها تحارب الخيانة عبر جنونها، لكن حكايتها المأساوية لم ترحمها.. يقول الكاتب: «لقد حكم السر على حادة بالجنون وحكم عليها الجنون بالموت». لقد ماتت وكفى، لا يتعلق الأمر في هذا الكتاب فقط بمجموعة من البورتريهات، بل بمكائد ومصائد وأسلحة وصرخات وحركات ومواقف ومكر.. كان الجنون والتهميش القاسي وسيلة التعبير العارية عنها، لقد انلعبت حيوات في تلك الأمكنة الممنوحة للقيظ، المضغوطة وسط البؤس والنسيان والصمت والكتمان. لم تحاول البورتريهات، التي اتخذت شكل قصص قصيرة، إزالة غموضها بل حافظت عليه كما هو، وهل يمكن قول الجنون؟ هل يمكن قول كوارث الحياة الهامشية؟.. إن أراضي ومناطق المنفى تكون، دائما، قريبة ومجاورة، لكنْ نعجز، أحيانا كثيرة، عن قولها. إن مصائرها الوجودية التائهة تتخذ، أحيانا، الشكل العاري والقاسي للعلاقة مع السلطة وقواها، وتتخذ، أحيانا أخرى، شكل مصائر منذورة لتيه تتحكم في مآلية الصدفة وسوء الحظ، كما هو الحال بالنسبة إلى الشخص عديم الاسم، الذي صار، بسبب تشوهه الخلقي المركَّب وتواجده بالصدفة بالقرب من منازل مات فيها أشخاص، بمثابة نذير الشؤم و«ضاع» اسمه، لأن الكل صار متشائما منه ومتطيرا وخائفا من نطق اسمه، محكوما عليه بالنفي وسط أشباه من الآدميين.. النصوص أشبه ما تكون بأركيولوجيا سرية لحيوات السفلة، الذين لا يسجنون في مستشفيات ومعازل المجانين، كما في القرن ال17 الأوربي، بل يظلون تائهين، مهمشين ومقموعين وسط مستشفى ومعزل مفتوح وشاسع. إن كتاب حسن إسماعيل هو، بحق، أول كتاب حقيقي يستحق أن يكون تاريخيا موازيا للمجانين والمهمشين، معتمدا على الرواية الشفهية والأخبار المستقاة من ساردين حقيقيين، صاغها الكاتب أدبيا في أسلوب فرنسي جميل وعميق في آن لا يخلو من لمحات والتماعات فكرية ونظرية، لأن الهمّ النظري يظل كامنا في ثنايا الكتاب وبين سطوره، حتى ولو لم يكن مصرحا به سلفا. ثم إن الكتاب، أيضا، احتفاء وإعادة اعتبار إلى تلك الفئة من المهمشين والمجانين، كثيفة الحضور في أزقة بني ملال وساحاتها ومقاهيها، نوع من الاحتفاء السلفي، الذي لا يجب أن يظل أسير حيواتهم ومصائرهم، وبإمكاننا قراءة الكتاب بفصوله، متوالية تشكل رواية مركبة حول هؤلاء المهمشين النبلاء، الذين كانوا، بشكل من الأشكال، مبدعين أيضا، كما الشاعر الذي يكنس أرصفة المقاهي والمطاعم والحوانيت، الشاعر الحقيقي، الذي لم يردد غير بيت شعري واحد فوق أنقاض بيته المنهار وأمام نافذته الوحيدة...