تحل ذكرى وفاة الكاتب الاستثنائي محمد شكري (15 نونبر 2003)، ومعها تنبجس الأسئلة المحرجة والقلقة حول جيل اختلافي ومتميز من الكتاب الذين أسسوا لأدب مغربي حديث ومغاير ولكتابة حداثية على مستوى معاييرها الجمالية ومضامينها المتمردة على السائد والمألوف. كان شكري، مع آخرين، عنوان مرحلة لم تُهادن فيها الكاتبة زمنها وسياقها التاريخيين ولم تسْكُن البيت الرمزي والتخييلي المُعدَّ لها سلفا، حيث لا مناص من إعادة إنتاج نفس النصوص باللغة التقليدانية الموروثة ذاتها وإعادة كتابة المضامين نفسها. لم يكن شكري غير عنوان من ضمن العناوين العميقة التي ضمتها مجرة من المبدعين في مجالات وبلغات مختلفة، مثل الراحلين الكاتب محمد زفزاف والشعراء محمد الخمار الكنوني وأحمد الجوماري وعبد الله راجع، وذلك التافراوتي الرحّال محمد خير الدين، الذي أذهل أواخر ستينيات القرن الماضي، لغةً ونصوصا، فلاسفةَ وكتاب مقهى «الفلور» le flore، جان بول سارتر، سيمون دوبو فوار وغيرهما، حتى وجدوا له انتسابا رمزيا إلى سلالة لوتريامون. لا شيء كان يجمع بين هؤلاء غير البرنامج السري والعميق لكل كتابة، وهو أن تتحول إلى نمط وجود، أي أن يصير المبدع كتابة وجودا. ينتمي هؤلاء إلى حلقة المبدعين المفقودين، الذين لم تكن الكاتبة بالنسبة إليهم ترفا فكريا، لغويا أو تخييليا ولا شيئا انضاف إليهم من الخارج، بل نوعا من الضرورة الوجودية الملحة التي لم يكن بوسعهم سوى الاستجابة لها، الضرورة التي دفعتهم إلى الانخراط في الكاتبة، كصيرورة مفتوحة على غرابة أسئلتها وكممارسة ملموسة ترتبط بالوضع الاعتباري للمثقف الكاتب، في مجتمع مركب ما زالت بوادر الحداثة فيه جنينية قيد التكون وما زال يبحث عن اللغة الممكنة التي عبْرها يترجم مخياله، سواء الفردي أو الجماعي. لقد عبر هؤلاء المبدعون المنتمون إلى هذه السلالة الغاربة أو المَجرّة غير المسبوقة عن كل هذا انطلاقا من تجاربهم الفردية الاستثنائية بالذات، أي وفق نوع الالتزام الفاتن والحارق في آن، الذي كانت فيه للاختيارات الفردية في الوجود والكتابة نفس القيمة والأهمية التي كانت لاختيارات الجماعة. أتت أغلب هذه الأسماء من المغرب العميق، من تلك المناطق المنسية والمهمَّشة أو عبرْتها بعمق أو انخرطت عميقا في هوامش المدينة/الغول الدارالبيضاء وعوالمها السفلية، بكل الأطياف التي تملؤها أو تعبُرها. أتى المرحوم محمد زفزاف من منطقة الغرب، محمد خير الدين من تافراوت، محمد شكري من بني شيكر في الريف، محمد الخمار الكنوني من القصر الكبير. أما عبد الله راجع، فقد أوغل عميقا سنوات عديدة في الفقية بنصالح، «جغرافيا الفيضانات السفلى»، كما سماها في عنوان أحد دواوينه، وعاد إلى بطن الحوت، الدارالبيضاء، ليقترب عميقا من موته، المدينة ذاتها حيث مارس كل من زفزاف والجوماري تيههما الوجودي الخلاق في «لمْعاريفْ»، قبل أن ينخرطا في غياب لا رجعة منه... كانت هذه الأسماء منتمية، سلاليا، إلى جغرافيا قاسية وإلى أزمنة أقسى منها، سياسيا واجتماعيا. يكفي هنا التذكير بأن محمد خير الدين ظل منفيا في باريس ما يفوق العقد من الزمن، قبل أن يعود من منفاه الاختياري ليمارس تيهه الأخير في متاهة غريبة وقاسية اسمها الوطن ويموت منسيا، معذَّبا، كما لو كان سيزيف حديثا ما يني يحمل الصخرة /اللعنة إلى الأزل. شكري مات واندغم في أتون نسيان عارٍ إلا من تنكر الأقارب والكاتب الذين أدمنوا عادة الصدقة الغاربة وكذلك الأمر بالنسبة إلى زفزاف والجوماري وراجع ومحمد الخمار الكنوني، صاحب ديوان «رماد هسبريس»، أحد أجمل الدواوين التي أرَّخت بحضورها الباذخ لحداثة شعرية مغربية قلّ نظيرها. لقد طبَّق هؤلاء، بطريقة غير مباشرة، منطوق قول الشاعر الفرنسي روني شارْ في إحدى شذرات الشعرية: «الزمْ تجاه نفسك ما وعدتَ به نفسك وحدَها»... لقد مارسوا الكتابة في لحظة تاريخية حارقة هي سنوات الجمر والرصاص، أي في لحظة انعدام كُلّي للحريات الجماعية والفردية، ومن ضمنها بالذات حرية الكاتب، مع كل ما تعرضت له الكاتبة نفسها، سواء كانت نظرية أو إبداعية من قمع وتنكيل، وما تعرَّض له شعراء وكتاب ومفكرون من نفي وسجن وتكميم للأفواه. السياق التاريخي الذي كتب فيه هؤلاء الاستثنائيون (الستينيات -السبعينيات وجزء هام من الثمانينيات) لم يكن فيه للاختيار الفردي والوجود للكاتب أي أهمية أو ضمانة، بل اعتُبِر، من خلال كتابته بالذات، سواء كانت نظرية أو إبداعية، متّهَما، سلفا، ومشكوكاً فيه، لأن الكتابة نفسَها اعتُبرت، حينها، تموْقُفاً سياسيا، حتى ولو كانت باسم الكاتب وحده. ذاك ما عرفه محمد خير الدين بالذات وعاشته، بشكل مأساوي، روايته «أكادير»، التي صدرت في الستينيات وكتبت عن الزلزال الذي عرفته المدينة وعرَّتْ، بشكل ملموس، أخطبوط الفساد الإداري والبيروقراطي، عبر المونولوغ القاسي للبطل واللغة العارية التي صيغ بها أسلوبها... ذاك، أيضا، ما نرى أصداءه حاضرة بقوة في عوالم المهمَّشين، حيث تمارَس اللصوصية والقوادة والدعارة، عالم الحانات والنسيان اليومي لماهية الوجود والانشغال الأبيقوري بمُتَع الجسد، واللذات التي تحفل بها اللحظة، كما نلفي ذلك في قصص وروايات محمد زفزاف بدءاً من «المرأة والوردة» إلى «بيضة الديك»، مرورا بنصوص أخرى، مثل «محاولة عيش» و«بيوت واطئة» وغيرهما. الشيء نفسه نلفيه حاضراً، بقوة حضوره الشعري، في ديوان عبد الله راجح المشار إليه، حيث تقترب التجربة الشعرية، صوراً ولغة، من العوالم الملموسة التي تنكب فيها وانطلاقا منها، دون أن تنسجها أو تصير مجردَ انعكاس لها. أما رواية محمد شكري السيرذاتية «الخبز الحافي»، التي نُشرت أول مرة في ترجمتها الفرنسية سنة 1972، فلم يتح لها الصدور في طبعتها الأصلية باللغة العربية إلا سنة 1982، وعلى نفقة المؤلف، وهي المسافة الزمنية البعيدة بين الطبعتين التي تترجم في حد ذاتها كل العنت والقمع المعلن أو المبطَّن الذي جُوبِه به هذا النص الأدبي غير المسبوق في الأدب المغربي الوليد حينها وفي الأدب العربي المستسلم، بشكل مازوشي، لأرثودوكسيته اللغوية والدلالية. لقد اضطر هذا النص للهجرة إلى لغة «الآخر» (الفرنسية)، عبر الترجمة، ليكتسب مشروعيته النصية والأدبية الكونية، قبل أن يعود إلى لغة الذات الأصلية (العربية) ليصدر فيها، على نفقة صاحبه طبعا، مسلَّحا بشرعية ترجماته العديدة إلى لغات مختلفة... لقد كتب هؤلاء نصوص المغايرة والاختلاف العنيد la difference intraitable، بلغة عبد الكبير الخطيبي، وهو الاختلاف الذي لم تقبله ثقافة الواحد السائدة سياسيا، دينيا، ثقافيا واجتماعيا، فتم تهميشها وقمعها من طرف الثقافة العالمة التي تعتبِر الخضوع للمنطق السائد ثقافيا وسياسيا المعيارَ الوحيد لاكتساب الشرعية الثقافية، عبر إعادة إنتاج ثقافة «الأوليغارشيا» السياسية والثقافية، كما جسدتها سير الوزاني وبن جلون والصفريوي وروايات غلاب وكتاب علال الفاسي وغيرهم. لقد كانت السلالة الرحالة (nomade) التي انتمى إليها شكري ومبدعين كبار آخرون، نظريا وممارسة، شبيهة بريح سحرية آتية من مناطق سفلى ملعونة كنَستْ، بالرغم من هامشيتها الفاتنة والمؤسسة، لغة السادة ونصوصهم. تعتَبر الثقافة العالمة نفسَها راشدة، أي بمثابة رأسمال رمزي يمتاح شرعيتَه من طبيعة الفئات والشرائح الاجتماعية التي يعبر عنها. لقد كانت الكتابة الأدبية، دوما، جزءا أساسا من هذا الرأسمال المؤسس، الذي تعيد إنتاجَه أقلام منتمية، نوعا ما، إلى ثقافة المركز وإلى نوع من الأرستقراطية الأدبية التي تتوارث مهمة الكتابة، أباً عن جد. لكن هؤلاء القادمين من هوامش نسيانهم وصموتاتهم السلالية، انتزعوا الحق في الكلام والكتابة، ضدا على السائد المألوف، وأسسوا لنوع من الأدب القاصر (mineure)، الذي عادة ما تبدعه فئات هامشية أو أقليات مقموعة داخل الثقافة والأغلبية المهيمنَيْن. لقد تدخَّل هؤلاء في الحقل السياسي الموزَّع والمؤسس سلفا وانطلاقا من ممارسة حقهم هذا في الكتابة والكلام وفي التعبير عن همومهم وأحاسيس ورغبات وغرائز وأفكار فئات منسية ينتظمها نوع من البروليتاريا الرثة، أي الفئات التي ظلت داخل المغرب الثقافي الرسمي، ولعقود، محرومة من حقها في الكلام، ملزَمة فقط بالصمت والخضوع، باعتبار أن حيواتها السلفية الهامشية هي حيوات سفَلة منبوذين لا يستحقون العيش، فبالأحرى الكلام عن أنفسهم وأحاسيسهم. إن السياسة التي مارسها هؤلاء، عبر كتاباتهم الأدبية بالذات، سياسة أقلياتية (minoritaire) تروم حفر أثلام وثقوب اختلافية داخل السياسة الكبرى التي تنتظم السلطة والمجتمع والثقافة ككل. لقد أفقدت هذه الممارسة الأقلياتية للكتابة الأدبية السلطة الثقافية والسياسية يقينَ معاييرها وثوابتها الجاهزة وأفقدتها توازنها الجمالي والأسلوبي وقداستها الأسلوبية والدلالية، لتفرض على الأدب المغربي، بدءاً من الستينيات، الانخراطَ الاختلافي العنيد في الصيرورة أقلية. إن الميزة المدهشة لهؤلاء (شكري، زفزاف، خير الدين...) هي أن السمة الفارقة لأدبهم كانت دلالية، أسلوبية وسياسية في آن، لأن جدة الأسلوب وفرادته تتواشج بقوة مع استغوار غير مسبوق للنسيج الاجتماعي الواقعي. لقد اندغموا في الجغرافيا الاجتماعية لزمنهم وشرطيتهم المادية، عبر التمرد والترحال الذاتي والاشتغال الغريزي على مادة اللغة، سواء كانت عربية أو فرنسية ليس كأسلوب متعال وموروث، بل كحشد كلمات وجُملٍ يكون مفروضا عليها، داخل كتاباتهم، محايثة نمط تفكيرهم، انزياحهم عن السائد واندغامهم في عالم حسي ملموس كثيرا ما أهمله الأدب العالم واعتبره جزءاً من السفالة والفجور والمروق عن الانتظامات العقائدية والأخلاقية والاجتماعية. كان صدور رواية «أكادير» لمحمد خير الدين رجَّة حينها هز، في الأساس، السلطة السياسية والاجتماعية التي رأت في التعرية المنهجية العنيدة التي مارسها الكاتب للفساد البيروقراطي نوعا من المس المباشر بها، مما أدى بالضرورة إلى منع الرواية وكتب أخرى للكاتب نفسه، على مدى سنوات. أحدثت الرواية التي كُتبت عن زلزال أكادير زلزالا من نوع آخر يفسر الأول على المستوى السياسي والاجتماعي، وليس على المستوى الجيولوجي. الشيء نفسه يمكن قوله عن «الخبز الحافي»، التي انتظرت عشر سنوات (1982) بعد صدور ترجمتها الفرنسية، قبل أن يُسمح لكاتبها بإصدارها. امتزجت السيرة الذاتية بالكتابة الروائية لتمنحنا نصا مزعجا للعقل الاجتماعي والثقافي السائد، نصا «عاريا»، بالمعنى الفني الجمالي والاجتماعي، خصوصا أنه حطَّم أحد الأقانيم التي تنهض عليها كل سلطة سياسية ومراتبية اجتماعية، وهي السلطة الأبوية. وُلدت رواية «الخبز الحافي» يتيمة بلا أب شرعي، ولدت آثمة معزولة كَنَيْزَكٍ، أو كحجر صغير يلقى بأنفة في بركة راكدة وآسنة ليحرك مواتها. وُلد، وهذا هو الأهم، بلا آباء شرعيين، إذ كان كما قال أنطونان أرْطو (Antonin Arthaud) عن نفسه: «هو نفسه وأبوه وأمه أيضا»... الشيء نفسه يمكن قوله عن كتابات محمد زفزاف، التي احتفت عميقا بعوالم الأطياف الليلية، حيث تجوس كأجساد ملاعبين، كما في «جحيم» دانتي، كائنات تختبر الوجود كفائض وجود فقط: عاهرات، مثليون، لصوص، سكارى، مشردون ومعطوبو الحرب الاجتماعية اليومية، تلك السلالة من الشحاذين النبلاء، كما أسماهم ألبير قصيري، الكاتب الفرنكفوني المصري في عنوان إحدى رواياته. لقد أنتجوا أدبا على مقاسهم، أدبا يليق بالزخم الجواني، الهائل والحميمي، لتمردهم وثورتهم. لم تكن ذوات هؤلاء الكتاب الملاعين في الحقيقة والتوظيف الأدبي لها ولأفكارها غيرَ ذريعة لاشتغال التعرية هذا، إذ كان اشتغال اللعنة مقلقة الغرابة في كتاباتهم هو الأهم، من حيث هي موقف وجودي وإبداعي، تماما كما كان الأمر عند رامبو، أرْطو، جان جوني، تيسير سوبول، نجيب سرور وآخرين. يكفي هنا التذكير بالأسلوب الجاف والمحايد لكل من زفزاف وشكري، والذي يُبرز المدى الثوري لنصوصهم، ليس باعتبارها مجرد احتجاجات فردية على المنظومة الاجتماعية، بل بكونها كشفا عميقا للقوى الاجتماعية التي تفرض على الكاتب أن يكتب بأسلوب جاف ومتقشف يساهم في تعرية البلاغة الزخرفية للغة العربية ويحولها إلى أسلوب تعبير عن المهمشين. الغريب أن هذه السلالة من الموتى الباذخين ما زالوا، بشكل فذ، يضيئون حيواتنا، أو على الأقل حيوات الأقلية من القراء، التي ما زالت تستقصي كتاباتهم، في زمن القحط الثقافي والتنكر القاسي وجلد الذات. الغريب، أيضا، أن هؤلاء طرحوا في الساحة الثقافية تجارب متميزة في الكتابة الأدبية ولم يؤسسوا تيارات أو مدرسة. وانطلاقا من وضعهم الاعتباري كتجارب فردية بالذات، استطاعوا التأثير بقوة داخل الأدب المغربي وخارجه، إذ لا يجب أن ننسى المنع الذي طال «الخبز الحافي» في الكثير من الدول العربية، ومن بينها مصر، ولا الضجة التي أثيرت، مؤخرا، حول رواية «محاولة عيش»، لمحمد زفزاف، بعد إدراجها في المقررات الدراسية. معنى هذا أن أدب هؤلاء الكتاب الملاعين ما زال مزعجا للِدُّوكْسَا حتى الآن، وأنهم لم يكفوا عن اختبار إمكانياتهم الوجودية الإبداعية بعد. فما الذي تبقّى من هؤلاء بعد مرور سنوات على غيابهم، وبالضبط في ذكرى وفاة «محمد شكري»؟ كيف يمكن أن يكتمل اشتغال الحداد عليهم؟ أول ما يلمسه المرء، بشكل فاجع وكارثي، هو التنكر والنسيان لشرائحَ هامةٍ من الكتاب والمثقفين لأفراد هذه السلامة الاستثنائية، وكأنهم لم يعبروا، أبدا، ولم يحتفلوا، ولو لحظة، بمُتع الوجود ويكتبوا كوارثه أسفل هذه السماء القاسية. لم تصدر ملفات خاصة عنهم في المجلات والجرائد، عدا القليل النادر، الذي لا يقاس عليهم، ولا خصصت لهم المؤسسات الجامعية، مثلا، ندوات وتظاهرات تليق بإسهامهم، وحتى الدراسات المنشورة في أدبهم وكتاباتهم تدخل في باب النادر والظرفي، في الوقت الذي نجد «نجوم الكتابة الجدد» يملؤون الساحة وهم يعيشون نوعا من السكيزوفرينيا في علاقتهم بالكتابة التي يعيشونها فقط ككلمات وجمل وليس كاختيار وجودي، إذ لا يمكن للمرء أن يكون روائيا وشاعرا حداثيا وهو يعيش حياته اليومية بعقلية فقهية محافظة!... أما «اتحاد كتاب المغرب» فهو، للأسف الشديد، ومنذ مدة طويلة في خانة الغائبين، إذ لم يبادر، أبدا، إلى تنظيم ندوة أو لقاء ثقافي حول تجارب كل منهم على حدة، بالرغم من أن هؤلاء (شكري، زفزاف، خير الدين، الخمار الكنوني، راجع... إلخ) هم، بشكل ما، الذين منحوا الأدب المغربي الحديث مصداقيته، إبداعيته، فرادته وتميزه العنيد، إزاء الآداب الأخرى المكتوبة باللغة العربية، والتي كثيرا ما أحرجتها نصوصهم. يتمنى المرء لو أن هناك مؤسسة لحفظ ذاكرة الكتاب المغاربة، مثل تلك الموجودة في فرنسا «معهد ذاكرة النشر المعاصر»، المعروفة اختصاصا بأحرفها الأولى «I.M.E.C»، حيث يمكن أن تحفظ مسودات كتبهم ورسائلهم ونصوصهم، ووضع ترتيب أرشيفي وثائقي لها، حتى تكون رهن إشارة الباحثين والدارسين والأجيال القادمة. إبان إشراف الكاتب «محمد الأشعري» على وزارة الثقافة، كان هناك مشروع خلق مؤسسة لحفظ الذاكرة الإبداعية لمحمد شكري، والشيء نفسه عن إرث الرسام والشاعر محمد القاسمي في فيلته في الهرهورة، لكنْ لا شيء من ذلك تحقق. لا أحد أيضا يدري أين ضاع أرشيف محمد زفزاف، الذي خلَّفه في شقته المتواضعة في «المعاريف»، بالرغم من أن بعض الأصوات ارتفعت، حينها، للمطالبة بالحفاظ عليها كمتحف لذاكرته، تماما كما يفعلون في فرنسا مع كتابهم الكبار (رامبو، فلوبير وغيرهما). لقد تنازع الأقارب إرث محمد شكري ومحمد القاسمي وبيع جزء من مخطوطات الأول ومخلفاته الأدبية لأشخاص أوربيين. أما إطلاق أسماء هؤلاء على مركَّبات ثقافية وعلى شوارع وساحات، فلا أحد يفكر فيه، عدا مركب محمد زفزاف في الدارالبيضاء وجمعية ثقافية في تافراوت باسم خير الدين... يبدو من القسوة أن نَدفن مع جثامين هؤلاء المتميزين نصوصَهم وذاكرتهم، هم الذين أضاؤوا بإبداعاتهم عتمات وجودنا ودفعوا الكثيرين إلى الإيمان بأهمية الكلمة في مجتمع يعاني من الأمية الثقافية ومن سيادة قيم استهلاكية فجة وعقلية نكوصية محافظة. إن راهنية زفزاف أو شكري أو محمد خير الدين وغيرهم ما زالت مطروحة بحدة وإلحاح بالنسبة إلينا، خصوصا في ظل هذا التراجع الثقافي الفادح وندرة النيازك التي تسقط عادة من سماوات اختلافية أخرى...