جمعية المحامين تبدي ترحيبها بالوساطة من أجل الحوار‬    الملكية بين "نخبة فرنسا" والنخبة الوطنية الجديدة    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع محضر تسوية مع الحكومة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة        تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    كيوسك الجمعة | تفاصيل مشروع قانون نقل مهام "كنوبس" إلى الضمان الاجتماعي    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    تفاصيل قانون دمج صندوق "كنوبس" مع "الضمان الاجتماعي"    المدير العام لوكالة التنمية الفرنسية في زيارة إلى العيون والداخلة لإطلاق استثمارات في الصحراء المغربية    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    هذا ما حدث لمشجعين إسر ائيليين بعد انتهاء مباراة في كرة القدم بأمستردام    "الخارجية" تعلن استراتيجية 2025 من أجل "دبلوماسية استباقية"... 7 محاور و5 إمكانات متاحة (تقرير)    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    عودة جاريد كوشنر إلى البيت الأبيض.. صهر كوشنير الذي قد يسعى إلى الإغلاق النهائي لملف الصحراء المغربية    بالفيديو: يوسف النصيري يهز شباك ألكمار بهدف رائع في "اليوروباليغ"    هذه لائحة 26 لاعبا الذين استدعاهم الركراكي لمباراتي الغابون وليسوتو    الكعبي يشعل المدرجات بهدف رائع أمام رينجرز في "اليوروباليغ" (فيديو)    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    الشبري نائبا لرئيس الجمع العام السنوي لإيكوموس في البرازيل    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"        إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المدينة العربية.. تجسيد للتناقض بين نمط العيش التقليدي والحداثة الغربية
نشر في المساء يوم 19 - 03 - 2011

ليست المدينة مجرد فضاء هندسي معماري، موزع بشكل وظيفي يسمح للحياة اليومية أن تنجس داخله وتمارَس وللأفراد أن يتحركوا في الأمكنة، ولكنها تكثيف لعلاقات وقيم اجتماعية،
تمنح الوجود الاجتماعي للأفراد والجماعات داخلها معنى. تأسست المدينة، أصلا، كبؤرة مصغرة ضاّمة لأشكال هذا الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، المتنوع، بؤرة تصاغ داخلها العلاقات بين الأفراد في بعديها المادي والرمزي، كعلاقات تواشج وتضامن وتبادل للمنفعة، همه الأساس خلق نوع من التوازن بين مختلف المكونات والتشكيلات الاجتماعية واستدعاء الأفراد من حيث هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، ممارسين لمواطنتهم داخل الفضاء المديني العام. كان هذا العصب الأساس الذي انبنت عليه وتشيدت حوله المدينة اليونانية، كما جسدتها أثينا، أي حول الأغوار (l'agora) أو الساحة العمومية، حيث يمارس المواطنون حقهم في السجال والحوار العامّ حول القضايا السياسية والثقافية التي تعنيهم. إنه التجسيد الحي للديمقراطية اليونانية آنذاك، كما جسدتها وعبرت عنها أثينا، تلك المدينة الدولة (la ville état)، التي جسّدت، بشكل بيِّن، طابع التعايش المشترَك بين الأفراد وكونهم معنيين مباشرة بالشأن العام، سواء عبر الدور الذي لعبه الخطباء السياسيون أو الفلاسفة، الذين مارسوا التفلسف مباشرة وسط الناس، كما فعل سقراط وديوجين وغيرهما، أو لعبه رجال السياسة آنذاك.
المدينة كفضاء للعيش المشترك
ولدت المدينة، إذن، من حيث هي فضاء للعيش المشترك ولممارسة المواطنة والتمتع بالحقوق المتساوية، من رحم الديمقراطية، ولم يكن ممكنا أبدا، بالنسبة إلى النموذج اليوناني، الفصل بينهما. بل مصطلح «Cité» (مدينة) ارتبط ارتباطا وثيقا بمصطلح « Citoyen» (مواطن). كل اختزال، إذن، للمدينة، في بعدها الهندسي المادي، يلغي السمة الأساس التي تؤسسها وهي كونها فضاء متميزا للممارسات الاجتماعية والسياسية والثقافية، داخله يرتقي الأفراد إلى مستوى الإحساس بمواطنتهم وبمصيرهم المشترك ويعُون أن الوجود الجماعي يفترض اقتسام المسؤوليات بينهم والإعلاء من شأن قيم التسامح والتعايش والاحترام المتبادل، والوعي بأن الأمر يتعلق بفضاء توجهه المنفعة العامة لا الخاصة.
لنعترف، بدءا، بأن النموذج اليوناني للمدينة، كما جسدته أثينا، ارتبط بسياقه التاريخي وبالزمن الموضوعي والحضاري الذي أنتجه وبما يسمى المركزية الإثنية الأوربية، التي جعلته يمارس، في سياقات تاريخية أخرى، بأشكال ومسميات مختلفة. هذا النموذج بالذات لم ينطبق على المدينة العربية الإسلامية التي ولدت، أصلا، من رحم المرجعية اللاهوتية الميتافيزيقية، ولم يكن للسجال المدني، ذي الإيحاءات الفلسفية، حظ فيها. لم تتشيد المدينة العربية انطلاقا من مركز أو بؤرة مدنية (civique) ناظمة لها، بل انطلاقا من إحالتها على مركز أو هندسة لاهوتية، كما جسدتها بناية المسجد أولا وقصر الخليفة ثانيا، الذي مورست فيه السلطة عبر مختلف العصور، انطلاقا من إحالتها على الشرعية الدينية كمرجعية أولى. ولدت المدينة العربية، إذن، داخل هذه المرجعية الدائرية المغلقة التي جسدتها السلطة الرمزية للدين والسلطة المادية للحاكم، وانتشرت انطلاقا من هاتين السلطتين وحولهما على شكل دوائر، تتزايد أهميتها وأهمية القاطنين فيها، حسب اقترابها من فضاء هذين السلطتين أو ابتعادها عنه. تطورت المدينة العربية الإسلامية وتواجدت، على مر التاريخ، داخل هذه الدوائر المتناسلة التي تضم الأسواق والحارات والساحات، أي الأمكنة التي تتخلق داخلها التراتيبات الاجتماعية والطبقية والتمايزات بين الخاصة والعامة، بين الفقهاء والمثقفين والتجار والمسؤولين في الدولة، أو ما يمكن تسميته النخبة المسيرة والعمال والخدَم والجواري وبسطاء الناس وفقرائهم، أي بين المركز والهامش. كل شيء في المدينة العربية التقليدية كان يستمد سمات وجوده من إحالته على هذا المركز التأويلي، الناظم، المجسد في السلطتين الدينية والدنيوية. وقد جسدت مدن عديدة، في هندستها، طبيعة هذه الإحالة الواحدية، مثل فاس والقيروان والقاهرة وبغداد ودمشق وغيرها. ليست المدينة، إذن، مفهوما قارا، بل متحولا ومتلونا بطبيعة الثقافات والحضارات والأنظمة السياسية والسياقات التاريخية التي أنتجته. إن المدينة مفهوم نسبي أيضا، لأن ما يحدد أبعادها هو طبيعة الساكنة داخلها وعقلية النخب المسيرة لها والمشرفة على تدبيرها، والتي انطلاقا منها تتحدد سياستها الحضرية.
لم تعرف المجتمعات العربية المدينة الحديثة إلا من خلال صدمة اللقاء مع «الآخر»، الأوربي، كما جسدتها المرحلة الكولونيالية. أدى هذا الوضع إلى استنباب نماذج هندسية معمارية عصرية مغايرة، في أبعادها وأدوارها ووظائفها، لِما كان معروفا في المدن العتيقة، وتطلب بالتالي إعادة تخطيط وتوزيع للفضاء والامتدادات، بطرق عقلانية. هكذا، عوضت الشوارع والساحات الفسيحة والحدائق والمدارات الطرقية الأزقةَ والحارات المتاهية، التي شكلت الطابع المميزَ للمدينة التقليدية. إذا ما رجعنا إلى مفهوم «العمران» عند ابن خلدون، نجد أنه لا يحيل على المعنى الضيق الذي أصبح له الآن، في ارتباطه بالبنايات فقط، بل كان مفهوما مركبا وغنيا يحيل على الظواهر والعادات والطقوس الاجتماعية والثقافية والسياسية. ينطبق مفهوم «العمران» هذا، بشكل خاص، على طبيعة الوجود الاجتماعي داخل المدينة التقليدية ذات الهندسة المتاهية، حيث كانت كل الأبعاد الوظيفية للناس تتوقف وتتحد في فوضى منظمة ومقبولة. لكن المدينة الحديثة، التي «استنسخها» العرب، انطلاقا من لقائهم مع المستعمر الأوربي، ذات بعد وظيفي معقلن، نابع من عقلنة العلاقة مع الفضاء وتهيئته وتوزيعه بالشكل الذي يجعل التحرك داخله سهلا ومتاحا للكل، وخلق مبدأ الاختصاص داخله، والتمييز بين ما هو إداري، وما هو تجاري وما هو اجتماعي... إلخ.
ذاك ما أدى، في العديد من المدن العربية الآن، إلى بروز «وحش» برأسين، حيث تتجاور المدينة العصرية مع المدينة القديمة، ضمن نوع من التوازن الهش والصراعي، في آن.
هناك الكثير من الأمثلة التي تجسد هذا الوحش برأسين، كالدار البيضاء، حيث تزحف المدينة العصرية بعماراتها وشوارعها وتجزئاتها وإعادة تهيئتها الحضرية على المدينة القديمة، لالتهامها في زمن الجشع العقاري والمضاربات الرعناء، وحيث يتم التفريط بطريقة خطيرة حتى في التراث العمراني الموروث عن عهد الحماية، كما تجسده العديد من العمارات والمباني والواجهات التي أبدعها مهندسون تجريبيون فرنسيون حينها ضمن ما يسمى «Art déco» أو الهندسة الفنية الجمالية، التي مزجت بين المعايير الأوربية والعربية الإسلامية. ولعل أنقاض فندق «لينكولن» في قلب المدينة شاهدة على الخراب الذي طال ذاكرة الدار البيضاء المعمارية.
ولدت المدينة العربية، إذن، «معاقة» ومشوَّهة ومشوبة بالكثير من الأعطاب التي طالت تطورها. إن منطق الدولة العاري والنفعي قسم المدينة إلى فضاءين أو عالمين متجاورين، لكنهما منفصلان، تقسيما يعتمد المعايير الاجتماعية الطبقية والاقتصادية والثقافية والسياسية. هناك، من جهة، فضاء أو عالم النخبة الاجتماعية الراقية، حيث تنتشر أحياء سكنية شبيهة بمناطق معزولة ومؤمَّنة وحيث تمارس الأعمال التجارية والمضاربات العقارية و»تنبثّ» فضاءات الترفيه والمتعة ويوجد نوع من الخدمات السريعة والفعالة، وهناك، من جهة أخرى، فضاء أو عالم الفئات والشرائح الشعبية والبسيطة من ذوي الدخل المحدود أو المياومين والعمال وكل الذين يعيشون من الاقتصاد الهامشي غير المهيكل... إنه التقسيم بين الأغنياء والفقراء، أو بين «الأوليغارشيا» المدينية المتبرجزة والبروليتاريا، بمختلف أنواعها، بما فيها فئات المهمَّشين والمقصيين من دورة الإنتاج.
أفرز هذا الوضع، الشبيه بحرب اجتماعية يومية، شعبين داخل المدينة العربية الحديثة، كل واحد يعيش بمنأى عن الآخر، كل واحد يحتاج إلى الآخر وإلى خدماته، لكنه يفضل العيش بعيدا عنه ولا يريد أن يكون هناك فضاء وجودي اجتماعي مشترَك بينهما. وإحدى السمات الدالة على هذا الوضعية الثنائية المتناقضة هي الغيابُ الفادح للطبقات الوسطى أو البورجوازية الصغيرة، التي تتعرض بقاياها في المدن العربية لعوامل تعرية قاسية وحاسمة، تقودها إلى الالتحاق، حتما، بشرائح «البروليتاريا». انضافت إلى هذا التطور الحضري المشوه، الذي حول المدينة العربية إلى مستودع للكوارث والمشاكل الاجتماعية، بدل أن تكون فضاء لتنمية المواطنة الحقة وممارسة الوجود، انطلاقا من حس مدني يشعر الأفراد داخله أنهم مسؤولون واتجاه الفضاء المشترك الذي يعيشون داخله جماعة. لم تتحقق المدينة العربية بالفعل، إذن، في مدينتها من جهة، وفي مدنيتها، من جهة أخرى، وظلت مجرد حيز للتجريب، في أبشع صوره وأشكاله، نظرا إلى غياب حس المسؤولية لدى النخب المكلفة بتسييرها وتدبيرها، من جهة، ولدى شرائح كبيرة من ساكنتها، من جهة أخرى.
لا يطال هذا الوضع «المعاق» الدار البيضاء أو طنجة وحدهما، بل مدنا عربية أخرى، مثل الجزائر العاصمة... إلخ. ويكفي، للتدليل على ذلك، الوقوف عند الوضع الكارثي لمدينة مثل القاهرة، حيث تجتمع كل العناصر والمواد التي تساعد في أي انفجار اجتماعي محتمَل. هناك ظاهرة الاكتظاظ السكاني المهول، بفعل الهجرات المتتالية للقرويين من أريافهم الفقيرة، والتي دفعت صحافية بريطانية إلى القول إنها كلما رغبت في التنزه إلا وألْفت نفسها في خضم حشود كبيرة، حتى إنها تظن نفسها في مظاهرة... أدت ظاهرة الهجرة القروية إلى ترييف المدن وإلى الانتشار السرطاني للأحياء القصديرية، أو ما يسمى في مصر «العشوائيات»، وإلى ظهور أنشطة اقتصادية سرية مضرة بالاقتصاد الوطني وتعاظم ظاهرة التهميش الاجتماعي والسكن غير اللائق والسلوكات الاجتماعية الإجرامية، مثل عصابات المخدرات والسرقة والسطو وقطع الطريق... يكفي التذكير، في هذا السياق، وفي ما يخص القاهرة بالذات، بأن عددا كبيرة من سكانها يسكنون المقابر، حيث «يتجاور» الأحياء والأموات، وأن فئات كبيرة من الأقباط البؤساء داخلها يسكنون أحياء مهمشة بأكملها ويشتغلون كزبالين... إلى غير ذلك من الكوارث الاجتماعية. لا يتمتع الكل داخل المدن العربية بالحق في المدينة (Le droit à la ville) وتتعرض فئات كبيرة للاستغلال الاقتصادي وللعيش في ظل ظروف حاطة بالكرامة الإنسانية، حيث تتحكم العقلية الدنيئة في سلوك كل واحد على حدة ويصير الإنسان «ذئبا» لأخيه الإنسان، كما قال هوبز. الكل يقاتل من أجل العيش أو من أجل حد أدنى منه داخل المدينة العربية: المنعشون العقاريون يوغلون في المضاربات العقارية المتوحشة، من أجل الاستحواذ على الأراضي الأكثر مردودية مالية في القلب النابض للمدن، والفقراء البسطاء من ذوي الدخل المحدود، يناضلون، طيلة حياتهم ربما، من أجل الحصول على سكن يحفظ كرامتهم...
مدن بدون هوية
إن المدن العربية تبدو ككيانات عمرانية واجتماعية عديمة الهوية، كإنتاجات غريبة وعصية على التصنيف، كيانات بيروقراطية شرسة تنسى أن السكان داخلها، مهما كانت درجة هشاشتهم الاجتماعية، يظلون مواطنين ويجب أن يعامَلوا كذلك.
إن السلطة الحيوية، التي تمارس هيمنتها داخل المدينة العربية، تترك حشود المقصيين يعيشون داخلها، أيا كانت ظروف عيشهم، ولكنها تمارس مراقبتها للحيوات، التي تقاوم بدورها وتبتكر أشكالا جديدة لممارسة الحياة، تبتكر وتبدع أنماطا مختلفة لإنتاج المدينة، ما وراء ثنائية المركز والهامش، الداخل /الخارج، قلب المدينة والضواحي...
من الضروري، هنا، رفض العلاقة الجدلية بين ذات (قد تكون الدولة أو الرأسمال) وموضوع (قد يكون مواطنا محروما من سلطته وحقوقه أو عاملا مفصولا عن قوة عمله أو مستهلكا مهضوم الحقوق). إنه التفكير في الانبجاس الممكن لمدينة متعددة المراكز ترفض القاعدة التمييزية والإقصائية التي بنيت عليها، حيث تكتسي مجددا كفضاء للعيش المشترك وللابتكار الممكن دوما لقوى الحياة وسلط الوجود، كثافة أنطولوجية مغايرة وتؤسس لسلوك جماعي ديمقراطي داخلها. من الضروري التفكير في طرق جديدة لاستثمار الفضاء الحضري استثمارا اجتماعيا وفنيا جماليا، وسياسيا واقتصاديا وثقافيا يستنطق الجوانب الصامتة واللا مفكر فيها داخله، بالشكل الذي يخلق لدى السكان من الأفراد الإحساس بالإنسانية والمواطنة، التي غالبا ما تظل «مطمورة» ومنسية داخل أرتال الإكراهات المتعلقة بالحياة اليومية، حتى لا تصير المدينة العربية مرتبطة فقط بالسيناريوهات الكارثية المرعبة، مثل العنف اليومي، والمظاهرات والاحتجاجات التي يراق فيها دم المحتجين على الأرصفة، أي مجرد فراديس جحيمية، فضاءات منذورة لنمط الاستهلاك ولجشع الملكية العقارية وللهاجس الأمني، المرتبط بالمراقبة الدائمة، ومنذورة أيضا للتشتت والانتحار والتدمير اليومي الجماعي...
إن مسألة المدينة لا ترتبط بمجرد التدبير والتسيير الحضري ولكنها مسألة ذات علاقة وطيدة بالبعد الجيو سياسي (géopolitique) مع تحليل البعدين المكونين لها، أي التاريخ والفضاء، وممارسة النقد الاجتماعي لمختلف أنماط التمظهرات الاجتماعية داخلها، أي قراءة ونقد هذه الجغرافيا الرأسمالية المعولَمة، التي استنسخت الكثير من المدن العربية أشكالها المرئية ووظيفها وأدوارها في قلب مراكزها المالية والعقارية النابضة، دون أن تستنسخ عقليتها الحضرية وديمقراطيتها المعولمة...
في المغرب، في الدار البيضاء وغيرها وفي مدن عربية أخرى، تمحورت التناقضات الاجتماعية المعاصرة حول المجابهات والتناقضات بين تقنيات الحفاظ على الأمن والنظام وأشكال المقاومة الاجتماعية اليائسة، أي بين المدينة التي تصير مرآة لذاتها والمدينة كمسرح للعمليات. لننظر، مثلا، كيف أن انتشار المدن القصديرية يكون، أحيانا كثيرة، عاملا من عوامل زعزعة الاستقرار السياسي (علاقة كاريان سيدي مومن ب61 ماي). الفقراء مقصيون، عموما، من إمكانية السكن في مركز المدينة، لذا فإنهم يهاجرون بعيدا جدا عن المراكز، من أجل العثور على مسكن يؤوي أجسادهم المتعبة، أي يذهبون إلى مناطق تكون في أغلب الأحيان خطيرة جدا، وحتى هذه المساكن العشوائية نفسها تخضع لاقتصاد سوق غير مهيكل وتصير عرضة للمضاربات ولضرورة منح إتاوات، لكي «تسهو» عنهم الأعين... تطرح هذه الأحياء، عموما، تحدّيات كبيرة من حيث الأمن والمراقبة. كما أن ممارسة أغلب سكانها نوعاً من الاقتصاد غير المهيكل (فْرّاشة، زبالة، مياومون.. إلخ.) في ظل انعدام فرص الشغل الحقيقية، تقود إلى إعلان وممارسة «الحرب» من أجل البقاء... هنا، بالذات، تبرز العلاقة الوطيدة بين المنافسة الشرسة داخل قطاع الاقتصاد غير المهيكل، الذي تضيق مساحاته وفرصه مع تنامي الهجرة وتزايد مدها وبروز الأنشطة والممارسات الإجرامية وتضيع التقاليد الاجتماعية الموروثة، التي تعلي من شأن التضامن.
إن سكان الضواحي المهمَّشة والأحياء القصديرية يخلقون واقعا مدينيا مضادا، رغم تهميشهم القسري، إذ يستطيعون الضغط على الأنشطة الاقتصادية والتجارية داخل المدن، عبر «محاصرتها» في الشوارع والأرصفة والأماكن المفتوحة الصالحة لممارسة أنشطتها البديلة وغيرِ المهيكَلة. لقد صار الحي القصديري الفضاءَ الجديد للصراعات حول السلطة، وقد كان دالا إبان احتلال العراق أن احتلال مدينة الصدر في بغداد، والذي يعتبر أكبر حي عشوائي في العالم، قد دشن نموذجا جديدا عبر تولي الجنود المدججين بالسلاح مهمة الحفاظ على الأمن داخله. داخل المدن العربية، حيث تكون قدرة الدولة ضعيفة جدا وعاجزة عن التدبير الجيد وعن ممارسة الحكامة الحضرية الرشيدة (La gouvernance urbaine)، فإن نزيف السلطة ما يني يتطور بشكل ينذر بكوارث قادمة، لأن الناس يتوجهون نحو أنماط بديلة للسلطة (الدور الذي يلعبه السلفيون وشبكات بيع المخدرات والعصابات من مختلف الأنواع في الحفاظ على الأمن داخل هذه الأحياء).
مدن بنمو معاق
إن بؤر انعدام الأمن، إذن، داخل هذه المدن العربية ذات التطور السرطاني والنمو المعاق، ستصير، مع الوقت، مشكلا جيوسياسيا خطيرا جدا، لأن نماذج الحفاظ على الأمن القديمة ستفقد فعاليتها حتما داخل هذه الأحياء العشوائية، حيث لا وجود لمحطة كهربائية أو لأي من البنيات التحتية. ذلك بالذات ما يجعل أحياء المدينة العربية وضواحيها الهامشية مسرحا ل«الحرب» يطرح تحديات كبرى. على الجانب الآخر، وبعيدا نوعا ما عن هذه المشاكل، تطل علينا مدن عربية «مسحورة»، حدَّ الهوس، بالرأسمالية الجديدة، مثل دبي، المدينة المنبجسة من رحم الصحراء وخيرات الريع النفطي... لا تشير مدينة كدبي إلى المستقبل كتقدم وتطور، بل كطريق مسدود... إنها محمية رأسمالية تلتقي في أبراجها الزجاجية وجزرها الاصطناعية العائلات المحلية، فاحشة الثراء، ونجوم الروك والفن و«كائنات» أخرى غامضة... إن المستقبل الوحيد لمدن عربية، كنموذج دبي، هو أن تظل ملاذا للطبقات البورجوازية المتوسطة للسفر إلى غيتوهات ساحرة واصطناعية وأماكن محمية، حيث تبحث عن حيوات بديلة، بعيدا عن الأزمة التي تعيشها شرائح اجتماعية أخرى. لقد تحولت دبي، كمدينة عربية، إلى واجهة معولمة لحداثة الرأسمال، همها الأساس جلب الرساميل الأجنبية وخلق فضاء وبنيات تحتية عالمية في مجال المال والأعمال والسياحة، نظرا إلى أن مخزونها من البترول لا يسمح لها بالاستهلاك الدائم له على الأمد البعيد... وقد اعتبر عالم الاجتماع الأمريكي مايك دايفيس أن دبي هي مرحلة قصوى في الرأسمالية، لأن المدينة صارت نوعا من العلامة السياحية، تحافظ على قدرتها الجاذبة. لقد صار اسم «دبي» شبيها ب«لوغو» (logo) يجلب السياحة ذات المستوى الراقي.
لقد أدان الكثيرون الكلفة الاجتماعية الباهظة لمدينة كهذه، حيث تعيش بورجوازية معولمة راقية جدا (حوالي 20% من الساكنة) على استغلال البروليتاريا الباكستانية والفلبينية، لكن الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة غيّرت الكثير من المعطيات وأزالت الكثير من السحر عنها.


المدينة العربية مازالت في طور التكون
مازالت المدينة العربية بمختلف تلويناتها قيد التكون، لذا فإن المخاوف والمخاطر ستظل محيطة بها، ساكنةً تجاويفها السلفية. ولعل أهمّ ورش يطالها بالذات هو الدمقرطة، لأنه بدون إعادة ابتكار المدينة كفضاء ديمقراطي لتدبير الصراع قد لا تكون هناك مدينة، رغم الواجهات الزجاجية والبورصات والعمارات الشاهقة.
يقول الجغرافي الفرنسي جاك ليفي: «العالم ليس له عدو ولكن لديه مشاكل»، وهو قول يتماهى كلية مع الأحوال التي تعيشها المدن العربية، التي تعيش موزَّعة بين المطالب الحضرية لحداثة معولمة وبين العجز عن تدبير أبسط المتطلبات والمهام التي ترتبط بها الحياة اليومية لساكنتها، مثل توفير الماء والكهرباء أو جمع النفايات وغيرها، ينضاف إلى ذلك الفساد المتجذر في دواليب وأجهزة التسيير الجماعي. تقود هذه الهشاشة، المرادة والمخطَّط لها، بالضرورة، إلى تحول المدن العربية من «ميغالوبولات» غايتها توفير شروط العيش الكريم والمتكافئ لساكنتها، إلى مشاكل عملاقة «تتناسل» الواحدة من الأخرى. إن مدينة كالقاهرة أو كالدار البيضاء، شبيهة بصحارى مأهولة بالكثير من الأحياء، يحيى داخلها السواد الأعظم حياة شبه سرية تقريبا، سواء من حيث نوعية الأعمال والأشغال الهامشية التي يمارسها من أجل الحصول على قوت يومه، أو من حيث غياب أي حماية اجتماعية واقتصادية لشرائح هائلة من المنفيين الاجتماعيين والاقتصاديين وارتفاع نسبة الهشاشة الاجتماعية وتزايد نسبة أولئك الذين يعيشون تحت عتبة الفقر داخلها، أي بمدخول يومي لا يتعدى دولارا أو دولارين في اليوم، ناهيك عن التوحش المديني الذي تعيشه أعداد كبيرة من هذه الفئات الاجتماعية، والذي يجعل من هذه المدن الصحارى، ميادين مفتوحة ل»الحرب» اليومية الشرسة من أجل البقاء...
يساهم هذا التطور «المعاق» للمدن العربية، بشكل كبير، في تدني نِسب مؤشرات التنمية البشرية ويؤدي إلى خلق وتناسل مشاكل قد تقود إلى انفجارات اجتماعية عفوية ومدمرة، كما حدث في الدار البيضاء مرارا. لهذا قلنا إن مشاكل المدينة العربية لا تنحصر فقط في مجالات التدبير الحضري للشأن العام، وليست مشاكل مالية أو مرتبطة فقط بمهام واختصاصات ينبغي القيام بها أو توزيعها بين الفعَلة داخلها، بل هي مشاكل جيو سياسية في الأساس. لقد خلقت الدولة الأمنية مدينة عربية «على مقاسها»، حيث فئات اجتماعية محدودة العدد جدا تعيش حياة البذخ، بحكم امتلاكها نسبة هامة من خيرات البلاد، والباقي من السواد الأعظم تائه في «صحارى» هذه المدن «المعاقة»...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.