لا حل لأزمة ليبيا إلا أن يختفي العقيد القذافي بالأقدار أو بالاختيار، ولا حل للأزمة إلا أن تتوقف هجمات حلف الأطلنطي وأن تنتهي مهمته العدوانية تماما، التي جاوزت دعوى حماية المدنيين إلى قتل المدنيين وتدمير المنشآت المدنية. نعم، لا حل لأزمة ليبيا بغير نزع طابع الحرب الأهلية عنها والعودة إلى الأصل، وهو أن تستعاد وحدة ليبيا وبلا خطوط تقسيم قادت إليها الحرب المشؤومة، وأن يترك للشعب الليبي حقه، وحرية اتخاذ قراره، وصياغة مصائره بإرادته المتحررة من كل قيد وضغط . والمطلوبُ اتفاقٌ مباشر بين الأطراف الليبية، اتفاق بين جماعة طرابلس وجماعة بنغازي، وقد سعت أطراف دولية وإفريقية إلى اتفاق من هذا النوع، وبدت الإعاقة ظاهرة في موقف العقيد القذافي الذي يصر على الاستمرار في موقع القيادة، وبلا مبرر معقول ولا مقبول، فالرجل حكم ليبيا لأربعة عقود وتزيد، وآن له أن يريح ويستريح، خاصة أن بقاءه اليوم يعني تقسيم ليبيا بعد إراقة دم الليبيين . ولا يعقل أن تسعى روسيا إلى وساطة أو أن تتطلع تركيا، بينما لا دور عربي سياسي في ليبيا اللهم أدوار إمارات خليجية تعمل بمعية الأمريكيين وحلف الأطلنطي، وهذه ليست الأدوار العربية المقصودة ولا أدوار الإغاثة الحميدة التي تنهض بها مؤسسات مهنية، كاتحاد الأطباء العرب أو غيره، والأخيرة أدوار نصرة إنسانية وليست أدوارا سياسية تسعى إلى حل الأزمة وإيقاف نزيف الدم، صحيح أن موقف الجامعة العربية كمؤسسة زاد من تعقيد الموقف، وبدت الجامعة كمحلل عربي للتدخل الغربي، ومن دون أن تقرر تدخلا عربيا خالصا، كان الأليق أن تعطى الأولوية في ما يتعلق بليبيا كبلد عربي، وقد لا تكون الفرصة قد فاتت نهائيا بعد، خاصة أن الجامعة العربية نفسها في مرحلة انتقال، وفي بيئة تغير ملموس في الدور المصري الحاكم، مع تولي الدكتور نبيل العربي أمانة الجامعة خلفا لعمرو موسى، والدكتور العربي عربي فعلا، ومن مدرسة الوطنية الخالصة في الدبلوماسية المصرية، ونتصور أن يعطي أولوية مستحقة للنزاع الدموي الليبي، وأن يدفع إلى إعادة نظر شاملة، فنحن لا نريد لليبيا أن تنتهي إلى مصير العراق البائس، وقد سبق للدكتور نبيل العربي أن بذل جهد استقصاء أولي في الموضوع الليبي، ومن خلال مبعوث خاص هو الدكتور هاني خلاف، الذي أجرى لقاءات استطلاعية مع جماعة طرابلس وجماعة بنغازي، والمطلوب الآن انتقال من الدرس إلى الفعل، وتكوين وفد عربي برئاسة مصرية أو برئاسة نبيل العربي نفسه، ولو استقامت الإرادات وحسنت النيات، فكل شيء ممكن. من الممكن التوصل إلى وقف نهائي للاشتباكات وإطلاق النار، والاتفاق على قوة مراقبة عربية خالصة لصفقة تهدئة شاملة، ونزع الغطاء عن الحاجة المدعاة إلى هجمات حلف الأطلنطي، وبدء إجراءات تنظيم انتخابات رئاسية في ليبيا، يفتح الباب لمراقبتها عربيا ودوليا وإفريقيا، ومع التوافق على حظر مشاركة العقيد القذافي بشخصه فيها، ومساعدة ليبيا على اجتياز فترة انتقالية آمنة واستعادة وحدتها السياسية. الحل ممكن جدا، وليس مستحيلا كما العنقاء والخل الوفي، فلا يعقل أن يتفرج العرب على ما يجري في ليبيا، وأن تهتم دول من آخر الدنيا، بينما لا تبدي مصر المجاورة اهتماما يذكر، رغم أن ليبيا امتداد طبيعي للأمن الوطني المصري، ثم إنها غاية في الأهمية للأمن القومي العربي، والدور المصري غاب عن السودان فتمزق، ولا يليق بعد الإطاحة بمبارك أن تتكرر المأساة، وأن يغيب الدور المصري فتتمزق ليبيا، وأن تحاصر مصر من الشرق بكيان الاغتصاب الإسرائيلي، ثم أن تحاصر من الغرب بقاعدة تغلغل أمريكي ميداني، ونثق بأن ذلك مما لا تريده جماعات ثوار في الشرق الليبي، تفتقد الحضور المصري المؤثر في مجرى الحوادث الليبية، والفرصة الآن أكثر من مناسبة، فقد انتهى التدخل العدواني لحلف الأطلنطي إلى تجميد الموقف، وزيادة عناصر الارتياب فيه ومفاقمة مخاطر تقسيم ليبيا، وليس نصرة الثورة، ولا ضمان حق الشعب الليبي في طلب الحرية، فلا أمريكا ولا فرنسا ولا إيطاليا ولا بريطانيا تهتم بحرية الشعب الليبي ولا بوحدة تراب ليبيا ووحدة دولتها، ولا يعنيها في ليبيا سوى كونها خزان بترول، وقد كانت مصالحها جارية مع نظام العقيد القذافي، لكن نظام العقيد لم يعد قادرا على الاستمرار، وساءت سمعته أكثر بعد إزهاقه الوحشي لأرواح آلاف الليبيين، وصارت تكلفة التعامل معه أكثر من فوائدها المحققة، فانقلبوا عليه بمنطق المصلحة البراغماتية البحتة وبدعوى حماية المدنيين، بينما لا يهمهم إن جرى إفناء الليبيين جميعا، فالأهم عندهم هو آبار البترول ومخازنه وخطوط نقله، والوصول إليه بأيسر طريق وبأقل تكلفة وبسيطرة شركاتهم على الموارد الليبية، في ليبيا موحدة، أو في «ليبيتين»، لا يهم، فهم يريدون حكومات من الدمى، لم يكن القذافي من صنعهم لكنه صار طوع بنانهم في النهاية، وهم يريدون هذه المرة صناعة بدائله من أول لحظة، وهي نتيجة لو تحققت، فسوف تكون الكارثة العظمى، ومعناها ببساطة إجهاض ثورة الشعب الليبي، وبأكثر مما أراده القذافي بهجماته الدموية، فالمحصلة صناعة حكم بالوكالة يشبه حكومة الدمى في بغداد، وزرع قواعد عسكرية دائمة ونهب ليبيا على طريقة نهب العراق. وقد وقعت ليبيا في المأزق بخطيئة القذافي وبأخطاء جماعات نسبت نفسها إلى الثوار أيضا، فقد وفر القذافي بطبعه الدموي ذريعة مناسبة للتدخل الغربي ومن وراء أقنعة إنسانية، وأكملت جماعات نسبت نفسها إلى الثوار أو اندست في صفوفهم، خطة الاندفاع إلى المأزق، بالوعي والقصد أحيانا، وبغياب الوعي في غالب الأحيان، وحرفت الثورة الشعبية الليبية عن طريقتها السلمية الخالصة، فقد بدأت الثورة الليبية على الطريقة المصرية وقبلها التونسية، وبالشعار نفسه، وهو أن «الشعب يريد إسقاط النظام» وبدأ زحفها السلمي يمتد من مدن الشرق، وبانحياز قطاعات من القوى المسلحة النظامية إلى رغبة الشعب، وكف يد الأذى عن المتظاهرين السلميين، وتوالت التحركات الشعبية السلمية في مدن إلى الغرب الليبي وفي داخل طرابلس ذاتها، وواجه النظام ثورة الشعب بطريقة دموية مفزعة وأراد تحويلها إلى حرب أهلية، وهنا وقع الخطأ في صفوف الثوار، وهو الرد على السلاح بالسلاح، كان الخطأ تراجيديا، فالرد على السلاح بسلاح أوقع المزيد من الضحايا والشهداء وسهل التورط في خطأ أكبر، وهو طلب النجدة من الأجانب الاستعماريين. والمحصلة فقدانُ الثورة الليبية تفوقَها الأخلاقي، وتردت إلى مقارعة دموية الديكتاتور بدموية مضادة، ومخاطبة غرائز غير ثورية بطبيعتها كنزعة التعصب القبلي والجهوي، والوصول إلى نقطة تجمد، خلطت الحق بالباطل، وقد آن الأوان إن لم يكن فات للخروج من الخطأ واستعادة حيوية الثورة السلمية التي توحد، بدلا من الحرب الأهلية التي تفرق وتمزق.