أنهت اللجنة الخاصة بمراجعة الدستور الجولة الأولى من الاستشارة مع الفاعلين الحزبيين والنقابيين، وستنتقل إلى تنظيم منتديات استماع ونقاش مع الجمعيات المدنية وتمثيليات الشباب، وأصبح أمامنا مع نهاية هذه الجولة عدد كبير من المذكرات الحزبية التي تشرح وتقدم تصوراتها حول الإصلاح الدستوري المقبل، انطلاقا من مداخلَ مختلفة، وأحيانا، متقاطعة المضامين في بعض المقتضيات الدستورية. والآن، وقد بدأ النقاش الاجتماعي والسياسي يستقر تدريجيا، فإنه من الممكن طرح السؤال التالي: هل الملكية البرلمانية، كمطلب حملته بعض التنظيمات الحزبية وحركات الشارع، ممكن في التعديل الدستوري المقبل؟ في الإجابة على هذا السؤال يمكن توضيح ما يلي: أولا، إن التحليل السياسي والدستوري لمطلب الملكية البرلمانية يبين أن من حملها يستعملها كشعار سياسي أو مطلب سياسي دون ضبط لميكانيزماتها الدستورية، وقد لاحظنا أن بعض الأحزاب السياسية التي أشارت إلى الملكية البرلمانية طرحتها في مقدمة مذكراتها، وانتقلت في المضمون إلى تقديم مقترحات مختلفة تتناول ازدواجية السلطة التنفيذية وليس ملكية برلمانية. ثانيا، يبدو أن الأحزاب السياسية التي حملت شعار الملكية البرلمانية كمطلب وصرّحت أنها اعتمدت على مقدراتها البشرية الذاتية في صياغة المذكرات دون اللجوء إلى خبرات دستورية -حسب تصريحاتها- تستعمل المفهوم كشعار سياسي ولديها صعوبة في ضبط حمولته الدستورية، وهي غير قادرة على وضع حدود مميزة بين الملكية الدستورية والملكية البرلمانية، وهما عبارتان تحيلان في القانون الدستوري على أن الملك مقيد بالدستور. ثالثا، يُلاحَظ أن الأحزاب السياسية التي حملت شعار الملكية البرلمانية لم تعد إلى التجارب الدستورية التي تبيّن أن الانتقال إلى الملكية البرلمانية هو مسلسل وليس حالة تقع بين عشية وضحاها، مسلسل يحتاج مرحلة زمنية توضع فيها البنيات والمؤسسات القابلة لاستيعابه وتطبيقه دستوريا، بل إنها لم تنتبه إلى أنه داخل مسلسلات بناء ملكيات برلمانية يحتفظ الملك بسلطاته ولكنه يقرر، تدريجيا مع الزمن، عدم ممارستها عندما تكون البنيات مهيَّأة ومستقرة، سياسيا وسيكولوجيا. لكنْ، دعونا نتناقش صراحة، هل المغرب مهيأ في التعديل الدستوري المقبل للعمل بأدوات الملكية البرلمانية؟ أعتقد أن المغرب غير مهيَّأ لاستيعاب الحمولة الدستورية للملكية البرلمانية في التعديل الدستوري المقبل، وهو رأي قد لا يعجب الكثيرين، ولكن له حججه الداعمة: الحجة الأولى أن النظام السياسي، وإن شهد تطورا بتغير التوازنات وبروز القواعد العامة للعبة السياسية وانتقال الصراع بين الفاعلين السياسيين إلى نقاش حول الإصلاح ومقارباته ومناهجه، فإنه ما زال لم يجرب ازدواجية السلطة التنفيذية، ومن الصعب، سياسيا ودستوريا، الانتقال مباشرة من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية دون الاشتغال الدستوري بمعادلة ازدواجية سلطة تنفيذية يمارس داخلها الوزير الأول، لأول مرة، بعض الصلاحيات الدستورية، إلى جانب الملك. الحجة الثانية أن انتقال الدولة في المغرب من دولة موحدة بسيطة إلى دولة جهات اقتصادية وتمثيلية موحدة يتلاءم مع نظام ازدواجية السلطة التنفيذية أكثر من الملكية البرلمانية، لأن هذا التحول في نقل السلطات من الدولة إلى الجهة يحتاج إلى المحافظة على الاستقرار الدستوري للمؤسسات الكبرى في الدولة، الناقلة للسلطات إلى الجهة. الحجة الثالثة، أنه داخل التطور الذي شهده المغرب، تأسست بعض القواعد وأرست مبدأين أساسيين هما: ارتفاع درجة تحكيم القانون في العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات وبداية نمو علاقة أثرية بين تدبير الشأن العام وبين المطالب التي يعبر عنها المواطنون في شكل حركات اجتماعية محلية ووطنية. وبالتالي، فهذان المبدآن ما زالا لم يصلا درجة الاكتمال النهائي، وبذلك فالأولوية هي لبناء المنظومة الداخلية للقانون (التسييج بالقانون) داخل ازدواجية في السلطة التنفيذية، لأنه لوحظ داخل الملكيات الأوربية أن بناء واستقرار المنظومة القانونية يعد عنصرا أساسيا في المسلسل الزمني للانتقال التدريجي نحو الملكيات البرلمانية. الحجة الرابعة، وتتمثل في حالة النخبة السياسية في المغرب، هل لدينا نخبة سياسية قادرة على استيعاب حمولة الملكية البرلمانية وأثرها الدستوري؟ فدورة النخب السياسية تتغير بشكل بطيء في المغرب، ويبدو أن الكثير من النخب السياسية تستعد للانتخابات التشريعية المقبلة، مما يعنى أنه يجب انتظار 2017 لميلاد جيل جديد من السياسيين، وبالتالي، فالذين يطالبون بملكية برلمانية، كشعار سياسي، لا ينتبهون إلى حالة النخب الموجودة. وتُبيّن هذه الحجج أن شعار الملكية البرلمانية، المتبنّى من طرف بعض التنظيمات السياسية وحركات الشارع، شيء والحمولة الدستورية للملكية البرلمانية، كما تقدمها لنا المعاجم الدستورية والتجارب الدستورية التي أمامنا في العالم، شيء آخر مختلف، له شروطه وقواعده. إننا في هذه المرحلة من النقاش السياسي أمام مطالب متعددة، فيها مطالب الفاعلين السياسيين والنقابيين وهيآت المجتمع المدني ومطالب بعض حركات الشارع المحدودة، الكل يناقش الدستور ويقترح، لكن الكثير ينسى أن الدستور هو عقد سياسي في شكل اتفاق على حد أدنى من التعايش السياسي بين مجموعة أطراف تسمى أطراف اللعبة السياسية، اتفاق على حد أدنى، بمعنى أنه ليس هناك أي تجربة في العالم تتفق على كل شيء، ولكنها تضع مقابل ذلك وثيقة تكون بمثابة سقف ضابط لتفاعلات الحقل السياسي. كما أن ولادة الدستور لا تعني نهاية الحياة السياسية، ولكن بدايتها، لهذا فقد لاحظنا في اقتراحات بعض الأحزاب أنها تريد تضمين الدستور كل شيء، في حين أن النماذج الدستورية القوية من الوثائق هي تلك التي تبني المبادئ، وما لا ينتبه إليه الكثيرون، ممن كانوا يعيبون على البرلمان محدودية تشريعاته، هو أن البرلمان كان يفتقر في دستور 1996 إلى سقف أعلى من المبادئ التي تُمكّن من التشريع انطلاقا منها. إن المثير للانتباه في مذكرات الأحزاب السياسية هو تباعد المسافة الزمنية في التفكير والمرجعيات بين من يريد نقل ميكانيزمات دستورية من النموذج الإيراني، ومن ما زال يفكر بمنطق نقاش توازنات صراع سنوات الرصاص، وهنا يثار السؤال: أين سنضع المصالحة وكيف يمكن دسترة المصالحة وإعادة بناء الذاكرة؟ من هنا، فالمطلوب الآن، بعد استقرار النقاش، وقد استمعت اللجنة الخاصة بمراجعة الدستور إلى الأحزاب السياسية والنقابات وستستمع إلى تمثيليات المجتمع المدني وفئات الشباب، هو تجاوز الشعارات ذات الحمولات غير المضبوطة والاشتغال على قاعدة ثلاثية في بناء الوثيقة المقبلة، مبنية على صياغة ميثاق سياسي جديد يستمد فلسفته الدستورية من المصالحة، ووضع قواعد دستورية تؤسس لازدواجية ممارسة السلطة التنفيذية بحجم يتلاءم مع حجم الديموغرافية السياسية للطبقة الموجودة وما يمكن أن تقدمه من وزير أول في الانتخابات المقبلة، إضافة إلى الاشتغال على دسترة أدوات الحكامة. فالملكية البرلمانية، بمعناها الدستوري، هي مسلسل زمني من التراكم ينطلق من تجريب الوزير الأول كسلطة تنفيذية أولا وانتظار النتائج واستقرارها، كما أن الملكية البرلمانية تحتاج إلى نخبة سياسية تزن اقتراحاتها، والملكية البرلمانية لا يمكن أن تشتغل أدواتها الدستورية بوجود أحزاب صغيرة تختفي وتعود في المناسبات الكبرى، وتصوغ مذكراتها في شكل «شكوى سياسية» تقف في حدود سقف التفكير الانتخابي، الذي يضمن لها عتبة تبقي اشتغالها إلى جانب الأحزاب الكبرى.