يميز فوكو نوعين من المثقفين، المثقف الكوني الذي يُجسّد الوعي الجماعي ويتكلم باسمه، والمثقف الخاص، الخبير في ميدان معين من المعرفة. يُذكّرنا هذا بالتمييز الذي طرحه غرامشي بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي، بما أن الأول يشير إلى نمط المثقفين الدينيين، من فقهاء ومنظّرين وفلاسفة، يقدمون أنفسهم باعتبارهم مستقلين بالمقارنة مع الجماعة البشرية المهيمنة اجتماعيا. أما الثاني فيضم المثقفين الذين تخلقوا بطريقة عفوية عند ظهور أي طبقة أو جماعة جديدة. كان الهدف الأساس لغرامشي هو التنظير لدور المثقفين، بالمقارنة مع الطبقات المهيمِنة أو المهيمَن عليها، بقصد بلورة فلسفة الممارسة الخلاقة (البراكْسيسْ) والدفع إلى الأمام لبناء كتلة ثقافية وأخلاقية تستطيع، سياسيا، بلورة التقدم الثقافي للحشد. يشير هذا المشروع، ضمنيا، إلى ضرورة إيجاد طليعة أو نخبة، يتقمصها الحزب الثوري وتختص في التجسيد المفاهيمي والفلسفي للأفكار، بطريقة ملموسة وجديرة بلعب دور أساس على مستوى التنظير والقيادة. تبدو الكثير من هذه الأفكارعند فوكو، ظاهريا، مماثلة لتلك التي طرحها غرامشي، لكن العديد من الاختلافات المفاهيمية والفلسفية تفصل بينهما. لا يولي فوكو أولا أي دور هام للمثقفين، لأن الأحداث بيّنت، حسبه، أن الحشود تملك معرفة خاصة بها، لكن المشكلة تتمثل في أن أشكال معرفتها المحلية والشعبية تم التنقيص منها وتبخيسها، باستمرار، وصارت، تبعا لذلك، لا شرعية من طرف المؤسسات وعناصر السلطة، التي تتحكم في «نظام الحقيقة» المهيمِن، الذي داخله يوظف المثقف الحديث. يشير هذا، ضمنيا، إلى التحول في الوظيفة الثقافية وإلى تعويض المثقف الكوني، المالك للحقيقة وسلطة العقل، بالمثقف الخاص. يؤكد فوكو أن المثقف لم يعد قادرا على لعب دوره التقليدي، كمعبِّر عن الحقيقة الصالحة لكل الناس. لم يعد المثقف الخاص المجسدَ الأمثل للحقيقة والعدالة، بل صار مجردَ شخص يمتلك معرفة خاصة داخل فضاء نظري ومعرفي محدد. لقد أصبح المثقفون، مع ظهور نوع معين من الوظائف والاشتغالات والميادين (أساتذة، قانونيين، مساعدين اجتماعيين، تقنيين... إلخ.) يشتغلون في قطاعات محددة وفي نقاط معينة، تضعهم داخلها شروط عملهم، من جهة، أو شروط حياتهم، من جهة أخرى، وهو ما يبرر -بالضرورة- تسميتهم بالمثقفين الخاصين. إن التحول الهام، الذي يصفه فوكو، ينبع من انتشار وتصور البنيات التقنية المعرفية داخل النظام الاقتصادي والإستراتيجي وظهور أشكال جديدة للنشاط والوظائف الاقتصادية، وهو ما يشكل، في حد ذاته، سيرورة عامة لتسييس المثقفين. تحتل صورة المثقف، سواء كان كونيا أو خاصا، رغم ذلك، مكانة ثانوية في تحليلات فوكو، لأن المشكلة الأساس بالنسبة إليه هي العلاقة بين الحقيقة والسلطة، أي السياسة العامة أو «الاقتصاد السياسي للحقيقة»، الذي يميز المجتمعات الغربية. ترتبط الحقيقة، داخل هذا النوع من المجتمعات، ارتباطا وثيقا، بالمؤسسات والخطابات العلمية وتخضع لمحددات اقتصادية وسياسية ويتم إنتاجها تحت مراقبة أجهزة خاصة، كالجامعة أو الجيش والكتابة ووسائل الإعلام والنظام التربوي، التي تضمن انتشارها واستهلاكها، كما أنها تصير أيضا موضوعا للصراعات والمجابهات والسجالات السياسية. لقد اقترح فوكو، داخل هذا السياق بالذات، منح المثقف الحديث تخصصا ثلاثيا، انطلاقا من موقعه الاجتماعي، وانطلاقا من شروط حياته وعمله المرتبطة بالنشاط الثقافي وانطلاقا، في نهاية المطاف، من سياسة الحقيقة داخل مجتمعاتنا. وفي علاقة مع هذا العامل الأخير تحديدا، أدت الصراعات والمجابهات المحيطة بمسألة الحقيقة إلى الظهور المتسارع لتسييس المثقفين. إن المثقفين، بالنسبة إلى فوكو، مرتبطون، بقوة، بصراع يكون رهانه الأساس هو الوضع الاعتباري للحقيقة والدور الاقتصادي والسياسي، الذي تلعبه. والخيار المطروح على المثقفين الراديكاليين ليس -بالضرورة- هو تحرير الحقيقة من كل نظام للسلطة، لأن الأمر يتعلق بوهم، ما دامت الحقيقة نفسها سلطة، بل يتعلق هذا الخيار بالفصل بين سلطة الحقيقة وأشكال الهيمنة، اجتماعية كانت، أو اقتصادية أو ثقافية، والتي داخلها تشتغل إلى حد الآن. لقد كان الهم السياسي بالنسبة إلى فوكو في أعماله النظرية التحليلية ليس هو تبيان التمايزات بين مختلف أنماط النشاط الثقافي ولا إيلاء المثقف الحديث دورا تمثيليا خاصا به أو وصف طبقة اجتماعية عضوية، بل انحصر همه في التحليل النقدي لسياسة الحقيقة، التي عليها تنهض أشكال الهيمنة. فجّر فوكو، على المستوى التحليلي، مسألة الهيمنة، حين حرم إشكالية السلطة من قاعدتها الأساس، أي من مرجعية السيادة، وثنائية الدولة /المجتمع المدني، وحين طرح تصورا غير اختزالي للسلطة وعوض مفهوم الإيديولوجيا، الذي نظر من خلاله غرامشي إلى مسألة الزعامة الثقافية والأخلاقية، التي تنهض عليها الهيمنة، (عوضها) بتحليل علاقات الحقيقة والسلطة، التي من خلالها يحكم الناس أنفسهم ويحكمون الآخرين. إن المنهج البيداغوجي لدى فوكو يتعارض مع النظريات الشمولية والجامعة للسلطة ويتعارض مع تصور السلطة، كإنتاج وملكية في آن لطبقة معينة. لقد تعرض فوكو للكثير من الانتقادات بخصوص الآثار السياسية لمنهجه الجينيالوجي. يؤاخذ عليه الكثيرون، وخصوصا على المستوى السياسي، أن تحليلاته لا تترك مكانا أو دورا لأي رد فعل أو تدخل سياسي تقدمي أو أنه لا يترك حيزا للمبادرة. ما ينقص في أعماله النظرية، حسب هؤلاء، هو النصائح والتعاملات والجواب الصارم عن سؤال: «ما الذي يمكن فعله؟». يظهر هذا النقص من طرف فوكو أو الغياب كنتيجة منطقية لمنهجه وتوجهات تحليلاته، لا كدلالة على نقص المرونة السياسية، لأن الأركيولوجيا والجينالوجيا تتعارضان مع النظريات التوحيدية الجامعة الشاملة ومع الخطابات الكليانية، لتطرح ممارسات خاصة وتقود، عبر ذلك، إلى نتائج محددة. إن جزءا هاما من ردود فعل فوكو النظرية تتمحور، تحديدا، حول الطابع الإشكالي للعلاقات بين هذه الخطاطات أو البرامج العقلانية والممارسات الاجتماعية والمؤسساتية، المرتبطة بها وبالآثار الناجمة عنها، والتي لا تكون بالضرورة مرغوبا فيها ولا مخططا لها. من هنا بالذات، تأتي الأهمية القصوى التي يوليها فوكو في أعماله لحالات ونتائج خاصة لاشتغال تكنولوجيات السلطة والعقلانية المصاحبة لها. من الواضح بالنسبة إلى فوكو، أنه لا وجود لمجتمع تغيب عنه السلطة ولا وجود لغاية أو هدف محدد في التاريخ، قد يمكن قيادة وتوجيه المقموعين والمستغَلّين في اتجاهه، لأن علاقات السلطة، التي هي فعل يمارسه البعض على أفعال الآخرين، تنتشر، انتشار العدوى، داخل المجتمع... لهذا السبب، يعتبره الكثيرون ملاحظا متشائما للنظام الاجتماعي، في الوقت الذي يقترح علينا فوكو تحليلا نقديا لنظام الحقيقة المهيمن ولآثاره السلطوية، وهو النقد الذي يترجمه نشاط سياسي من نوع خاص جدا يرمي، بالأساس، إلى إرساء الشروط الملائمة التي تسمح لمن يمارسون الصراع بفعالية، من التكلم والفعل باسمهم الخاص، بعيدا عن كل احتكار للحديث من طرف مثقف ما. إن منهج فوكو لا يعني إهمال أو تجاهل الجانب النقدي، بل يدل على أن كل خطاب سياسي يعدنا بالتحرر والانعتاق ليس سوى نوع من الخطاب البلاغي. إن هدف أعماله الفلسفية التحليلية (تحليلية السلطة والحقيقة مثلا في علاقته بدور وظيفة المثقف) ليس التحليق في أثير إستراتيجيات المجابهة التي تسمح، في النهاية، بتفجير علاقات السلطة، بل بالتحليل النقدي للطريقة التي تمارَس من خلالها السلطة. لقد دفعت الأهمية القصوى التي يوليها فوكو لممارسة السلطة وللعقلانيات المصاحبة لها النقاد إلى القول إن إحدى النتائج الضمنية لأعماله هي ابتلاع أشكال المقاومة ومحوها من طرف علاقات السلطة. لا أساس لهذا النقد، لأن تجاهله، نسبيا، مشكلة المقاومة لا يعني، بالضرورة، محوها أو ابتلاعها من طرف علاقات السلطة، إذ يقوم بتحديد السلطة بطريقة تجعل من المقاومة ورفض الخضوع شرطا أساسيا لوجود السلطة نفسها. بعيدا عن الحد من البعد الهام والضروري، تحليليا وسياسيا، لأشكال المقاومة والصراع، يؤكد فوكو أن هذه الأخيرة يمكن أن تكون نقطة الانطلاق لتحليل ممكن للسلطة. ورغم أن فوكو لا يتوقف كثيرا عند تحليل المقاومات التي تستدعيها السلطة، فإن الصراعات هي تلك التي خيضت كرد فعل على انبثاق ما سماه «سيادة الفردانية»، أي تقنيات الفردنة، التي تقوم بها السلطة داخل الحياة اليومية وتطبقها على الأفراد. لقد تكونت أشكال الهيمنة انطلاقا من ممارسة هذه التقنيات بالذات وحولها، أيضا، ظهرت أشكال للصراع والمقاومة يمكن أن تكون، بدورها، نقطة انطلاق لإستراتيجيات مضادة للهيمنة. تتغيى أعمال فوكو الفلسفية والتحليلية بناء جينيا ل»وجبات» نقدية للتجربة الإنسانية ولعلاقات السلطة وأشكال المعرفة، بالشكل الذي يبين أن تاريخ أشكال التناسق والانسجام الاجتماعي والهيمنة هشة ومعقدة دائما. إن أعماله تشكل، في مجموعها، إسهاما ضروريا يسمح لنا بالفهم النقدي لأشكال الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.