من يتابع توجهات العهد الجديد في مصر يكتشف لأول وهلة أنها تركز بالدرجة الأولى على مصلحة البلاد الأمنية والاستراتيجية، وبما يعيد إليها دورها الذي تقزم في عهد الرئيس المعزول حسني مبارك، على الصعيدين الإقليمي والدولي. العنوان الأبرز هو الاستقلالية المطلقة والابتعاد عن سياسة المحاور، وعدم التصرف بطريقة «ذيلية» للولايات المتحدةالأمريكية، ودول الخليج، والمملكة العربية السعودية على وجه التحديد، وهذا ما يفسر ابتعادها الكامل عن الأزمة البحرينية، وسعيها لتطبيع العلاقات مع كل من سورية وإيران. الدكتور نبيل العربي مهندس السياسة الخارجية المصرية الجديدة فاجأ الجميع، والولاياتالمتحدة ودول الخليج خاصة، عندما استقبل بالأمس السيد مجتبي أماني مدير مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، وأعلن في أعقاب اللقاء الذي تم في مقر وزارة الخارجية، أن الاتصالات الجارية حالياً بين القاهرةوطهران هدفها تطبيع العلاقات، لأن «مصر الثورة» تريد إقامة علاقات طبيعية مع كل دول العالم. وقال إنه قبل دعوة من وزير الخارجية الإيراني لزيارة طهران. من الواضح أن العهد المصري الجديد يسير على النهج نفسه الذي سارت عليه «تركيا أردوغان» أي تطبيع العلاقات مع جميع الجيران على أساس «عداء صفر» معها، وتغليب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية، واللجوء إلى سياسة الحوار لتسوية كل النزاعات القديمة. وجاء الدليل الأبرز على هذه السياسة المصرية الجديدة في عدة تطورات رئيسية يمكن حصرها في النقاط التالية: أولا: الزيارة السرية التي قام بها اللواء مراد موافي رئيس جهاز المخابرات المصرية الجديد الذي خلف عمر سليمان لسورية، ولقاؤه مع مسؤولين سوريين كبار لبحث ميادين التنسيق الأمني والاستراتيجي بين البلدين في ملفات عدة. ثانيا: السماح لعدد من قيادات حركة «حماس» في قطاع غزة بالمرور عبر مطار القاهرة إلى دمشق للمرة الأولى منذ أشهر وفي كسر واضح للحصار الذي فرضه نظام الرئيس المخلوع الذي كان يشترط توقيع الحركة على ورقة المصالحة الفلسطينية للسماح لهم بمغادرة القطاع المحاصر إسرائيليا. ثالثا: الموافقة على مرور سفن حربية إيرانية عبر قناة السويس في طريقها إلى ميناء اللاذقية السوري والعودة دون أي مضايقات رغم الاحتجاجات الإسرائيلية والأمريكية. رابعا: تخفيف اللهجة العدائية تجاه حزب الله وحلفائه في لبنان، واستبدالها بتوجهات أكثر ودية، والابتعاد في الوقت نفسه عن تحالف الرابع عشر من مارس بزعامة السيد سعد الحريري رئيس الوزراء السابق. خامسا: اختيار السيد عصام شرف رئيس الوزراء المصري الجديد السودان كأول دولة يزورها بعد توليه مهام منصبه، مما يؤكد أن حوض نهر النيل يشكل أولوية بالنسبة إلى العهد الجديد، ويتقدم على الأولويات السابقة وخاصة امن منطقة الخليج. اللافت أن هذا الانفتاح المصري تجاه إيران يتزامن مع تصعيد خليجي إعلامي وسياسي ضدها، ومن يطالع الحملات الإعلامية السعودية على إيران هذه الأيام يعتقد أن الحرب باتت وشيكة، خاصة بعد التصريحات التي أدلى بها السيد أحمدي نجاد رئيس إيران التي طالب فيها المملكة العربية السعودية بالاعتذار عن وجودها َالمتغطرس» في البحرين. صحيح أن إيران ارتكبت خطأ كبيرا عندما تدخلت بصورة سافرة وغير مقبولة في شأن البحرين وهو شأن عربي صرف، ولكن المسؤولين الإيرانيين يبررون هذا التدخل بأنه جاء مثل نظيره السعودي الذي تمثل بإرسال 1500 جندي إلى البحرين في إطار قوات درع الجزيرة. أن إقامة علاقات طبيعية بين القاهرةوطهران لا تعني خروج الأولى مما كان يسمى بمحور «الاعتدال» العربي المعارض لإيران وسورية وحزب الله وحماس فحسب، وإنما سيمنح السياسات الإيرانية في العالم العربي صك الشرعية الذي كان ينقصها، وسيحدث ثغرة كبيرة في التحشيد والاستقطاب الجاري حاليا في المنطقة، وتقوده دول خليجية على أسس طائفية، أي تقسيم المنطقة إلى معسكرين الأول سني والآخر شيعي، وهو الاستقطاب الذي نرى إرهاصاته في لبنان وأخيرا في البحرين. مصر تتغير بسرعة، ولكن دول الخليج في المقابل ترفض أن تتغير، وما زالت تصر على اتباع السياسات القديمة وآلياتها، وهذا خطأ استراتيجي كبير للغاية يكشف عن قصور في الرؤية والقراءة الصحيحة للتحولات المتسارعة في الخريطة الإقليمية، بل والخرائط الدولية. الولاياتالمتحدةالأمريكية بدأت تعترف بهذه المتغيرات وتتكيف معها، ويتضح ذلك من إعلانها بالأمس إنهاء عملياتها العسكرية في ليبيا، وتأكيد وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون على عدم وجود أي نوايا لدى حكومتها للتدخل عسكريا في سورية لمساندة الانتفاضة الديمقراطية فيها على غرار ما فعلت في ليبيا، ومطالبتها، أي السيدة كلينتون، الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بتسليم السلطة ومغادرة البلاد. في تخل واضح عن اقرب حلفائها والعمود الفقري في حربها ضد تنظيم «القاعدة». الرئيس الأمريكي باراك أوباما لا يريد أن يلعب دور «الحارس» لدول الخليج أو إسرائيل، ويخوض حروبا لتغيير أنظمة لا ترضى عنها زعامات هذه الدول بسبب عقدة الخوف المسيطرة عليها، فقد جرب سلفه جورج دبليو بوش لعب هذا الدور وورط بلاده في حربين، الأولى في العراق والثانية في أفغانستان، فجاءت النتائج كارثية على مختلف الصعد. الرئيس الأمريكي جعل معركته الأساسية في الداخل الأمريكي ولتحسين الاقتصاد بالذات، لإيمانه محقا أنه السلم الوحيد الذي سيوصله إلى الفوز بمدة رئاسية ثانية، أما رمال الشرق الأوسط المتحركة فهي الوصفة السحرية المضمونة للخسارة. نحن بصدد خريطة سياسية واستراتيجية جديدة للشرق الأوسط بسبب التوجهات الوطنية والقومية للسياسة الخارجية المصرية المنبثقة من ميدان التحرير، وثورة الشعب المصري ضد نظام قمعي ديكتاتوري متغول في الفساد. ومن المؤسف أن دولا خليجية حاولت وقف عجلة التاريخ بتحريضها الإدارة الأمريكية على التدخل بكل الطرق والوسائل لمنع سقوط هذا النظام، وتعهدت بفتح خزائنها لدعم هذا التوجه غير المقدس المعادي لطموحات الشعوب في الديمقراطية والعدالة والشفافية والعيش الكريم. الصحوة المصرية التي نلهث لمتابعة إفرازاتها الوطنية التي انتظرناها لأكثر من أربعين عاما، ستغير وجه المنطقة، لأنها أعادت رسم سلم الأولويات الاستراتيجية، وجعلت عدم الرضوخ للإذلال الإسرائيلي على قمته، بعد أن كانت إيران هي العدو الأول، وبتحريض أمريكي إسرائيلي خليجي نقولها وفي فمنا مرارة العلقم. مثل هذه السياسات الارتجالية التي تبناها النظام المصري المخلوع هي التي قدمت العراق على طبق من ذهب لإيران، وأجهضت حرب الكرامة العربية في فلسطين، وقسمت العرب إلى محاور بين الاعتدال والممانعة، وجعلت من كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة السيدة التي تأمر فينحني زعماء كبار أمامها طاعة وإجلالا.إيران استحوذت منا على العراق، مثلما احتوت حركات المقاومة، والقضية الفلسطينية ومقدساتها، بينما عرب الاعتدال منشغلون في تقديم المبادرات والتنازلات، وها هي «مصر الجديدة» تنهض من وسط ركام الإذلال، وتحاول استعادة الدور العربي الضائع بطريقة ذكية تنطوي على الكثير من الكرامة وعزة النفس، وعلى أسس ديمقراطية بعيدا عن أساليب التسول والتذلل السابقة وهذا هو الأهم.. فهل تسمع بقايا دول محور الاعتدال وترى هذا التحول؟