كان من النادر أن تتخلى خالتي عن عادتها اليومية في الانزواء عن الجميع كل عشية لتمارس هواية الإنصات عبر المذياع لكلمات «إمديازن»، وهم الشعراء باللغة الأمازيغية. أثناء هذا الوقت تقوم فرقتان بالتناظر شعريا، على لسان شاعرين يرتجلان القوافي ويمزجانها بالفخر والمدح وغيرهما من مقاصد الشعر. وحين كانت تشرح بعضا من هذا الشعر، كنت أدرك تشابها مع ما تبادله الشاعران الفرزدق وجرير في تناظرهما الشعري ذائع الصيت. ما الذي تجلبه ساعة من الدخول في عالم هؤلاء الشعراء لامرأة لم تزر المدرسة قط؟ ماذا يعني لها هذا الغوص اليومي داخل أصوات، تتبادل حياكة المفردات وترصها بإتقان؟ فرغم أميتها، كانت تعشق الشعر، لأنه كان ببساطة، يستدرجها كي تسترجع روحها وثقافتها الغائبة عنها في غربتها عن مكان ولدت فيه وصنعت منه. ورغم أنها لم تعد تسكنه، يظل يسكنها بعنف، بسهوله وجباله وكل روائحه وألوانه. كان «إمدياز» أو الشاعر ينثر اللغة، فيتكلم إلى ذكرياتها، ويصنع من لغتها الأم فرصة كي تلتقي بالمعاني التي تجمعها بها ألفة غير معهودة. الشعر الذي كانت تستلذ الاستماع إليه ينقل إليها مواسم الحصاد التي لم تحضرها، ويعوضها عن لحظات فرح أو حزن لم تعشها قرب أهل لها يشبهونها في كل شيء، ويقربها ممن يقاسمونها نفس العادات، فتتقاسم معهم قطعة من المشاعر، وترتشف فيهم جذور روحها المتعطشة بهذا النسيج اللغوي السحري. تذكرت هذه الطقوس في يوم الشعر العالمي، في زمن لا أحد، ربما، يذكر للشعر أي فضيلة، أو يذكر ممتنا إحساسا أو معنى زرعته قصيدة داخله. لم يعد الشعر، كما في الماضي، كتابا لسرد الأحداث والأساطير كما الإلياذة، وهو عاجز عن نقل الأخبار والتحليلات السياسية كما القنوات والإنترنت مثلا، لأن أدوار الشعر تغيرت، وتنازلت القوافي عن كثير من سلطتها على الناس، لكننا مع ذلك لا يمكن أن نطرده من حياتنا. فإذا كانت وسائط الإعلام قد نقلت إلينا، بدون رحمة، صور جثث الناس الذين سقطوا تحت همجية الحرب والاستبداد، أو فاجعة تسونامي اليابان، فمن غير الشعر يمكنه أن يرسم طوفان المشاعر الذي يجتاحنا، ويشاركنا دهشتنا وهشاشتنا الجماعية أمام كل ذلك. وحدها الثورة التي نبتت في العالم العربي، استطاعت أن تعيد الثقة في الشعر، الثقة في أن تصبح الكلمات كائنات حية، تعيش، تنمو وتؤثر، وقد تكون أشرس وأقوى من السلاح والسجن والقمع. من غير الشعر كان قادرا أن يوحد وجدان الغاضبين والثائرين؟ فبضعة من أبيات أحمد فؤاد نجم والشابي وغيرهما في ميدان الثورة كانت كفيلة بأن تقوي صمود الناس، وتوحد وجدانهم جماعيا. الشعر كذلك انفرد في الثورة بكونه لا يطيع سلطة البيانات ولا يقلد الخطابات السياسية الباردة، ويرفض أن يحتفظ برزانة نشرات الأخبار لأنه يشبه الناس، يهلل ويفرح ويخرج عن القاعدة عند سقوط أي طاغية. الشاعرية التي تتلقاها خالتي عبر الأثير كانت كافية لتسعد كل زوايا روحها، وتدخلها في دوران صوفي لا يدرك ولا يقال. وقد لقني إدمانها اليومي على الشعر أول الدروس عن ماهية الفن في الحياة. وقت «إمديازن» عند خالتي كان يشبه وقت الشاي عند الإنجليز، هو فرصة للمشاركة في طقس جماعي ممتع، وما زلت أتذكر الرقة التي كانت تعلو صوتها وهي تحذرنا من الضوضاء، قائلة: « اذهبوا للعب بعيدا. إنه وقت إمديازن».