مثل كل الشعوب الحية والمتطورة، يعيش المغرب حراكا هاما على كافة المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية، هذا الحراك الذي يعتبر ظاهرة صحية ودليلا على وجود بذور التغيير نحو الأحسن في أحشاء هذه الأرض الطيبة، التي تمتلك من التاريخ المشرف ومن تضحيات أجيال من المغاربة ما يمكنها من حماية وجودها وما يخول لها استشراف آفاق القادم والمستقبل بالكثير من الأمل في غد أفضل. ومسرح البدوي، الذي انبثق من بين خلايا المقاومة التي شكلت منه مسرحا مغربيا وطنيا، يرى أن شرف هذا الانبثاق والوفاء لمبادئ الحركة الوطنية الشريفة ولتضحيات المقاومة التاريخية، عاملان أساسيان في أن يتجاوز هذا المسرح حدود الركح المسرحي وهموم وأعباء أب الفنون لينخرط، بصدق وبوطنية لا تقبل المزايدة أو المساومة أو التشكيك، في كل القضايا ذات البعد الوطني الشامل، وفي كل اللحظات الفعلية التي كونت السياق العام للمسار التاريخي للأمة المغربية، بل إن مسرحنا يرى أن قدره الأول والأخير هو الاهتمام الكلي بالشأن العام الذي ينعكس على حياة المواطن المغربي الشريف المرتبط بثوابت الأمة ومقوماتها الوطنية والدينية، فالمسؤولية -في نظرنا- تقتضي أن يكون التزامنا الوطني أكبر من مجرد عروض مسرحية أو إنتاج وطني، نضمن من خلاله للمواطن حقه في التثقيف اللازم وفي الترفيه البعيد عن الميوعة وعن كل مظاهر الاستلاب الحضاري. ومن هذا المنطلق الذي يمتح جذوره من البعد التاريخي لمسرحنا ومن مشروعية انتمائنا إلى هذا الوطن المعطاء، وباعتبارنا مسرحا احترافيا جاوز ستة عقود ونصف العقد من الحضور اليومي، اعتبرنا أن من حقنا أن نبدي وجهة نظرنا حول كل هذا الحراك الثقافي والفني الذي تشهده الساحة الإبداعية في الآونة الأخيرة، ومن خلال هذا البيان الموجه إلى كل الرأي العام الوطني وفق مبادئنا التي لا تؤمن بالمقعد الفارغ ولا بالصمت المتواطئ، والتي تؤمن أيضا بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس. بداية، نحن لا ننازع أحدا حق الاحتجاج ضد جهة أو مصلحة أو وزارة أو أشخاص، فالدفاع عن الحقوق المشروعة أمر مقدس في كل القوانين السماوية والأرضية، وهو ما مارسناه نحن، كمسرح، طيلة مسارنا خصوصا حين تآمر المفسدون علينا وبقينا وحدنا في مواجهة الظلم والإقصاء والتهميش، وفي مواجهة حصار جائر مارسته ضدنا، ظلما وعدوانا، وزارة الثقافة على عهد وزير سابق تعرف الساحة الثقافية والفنية الآن كل ما اقترفه في حق الثقافة والفن، وبالتالي فنحن لا ننازع أحدا في أن يسلك مسلكا وجدناه نحن، قبل كل هذه السنوات، وسيلة للنضال ولإسماع صوتنا، رغم كل مظاهر القمع الثقافي والفني الذي عانيناه منذ أزيد من عقد ونصف، فقط لأننا رفضنا خلط الأوراق، وإنزال الموظفين والهواة محل المحترفين، وتمييع الثقافة والفنون من خلال خلق الأجهزة المفبركة الفاقدة للمشروعية، وتهميش الرواد ليحل محلهم وليتكلم باسمهم وباسم فرقهم من قضوا أعمارهم في الوظيفة وامتيازاتهما أو من حولوا الثقافة والفنون إلى أرصدة بنكية وثراء فاحش، ولأننا رفضنا أن نكون جزءا من القطيع فقد أدينا الثمن الغالي الذي يعرفه الجميع. وهؤلاء المفسدون يحاولون، اليوم، أن يركبوا موجة الاحتجاجات والوقفات خوفا من المحاكمة ولكي يضمنوا لأنفسهم مكانا في المرحلة القادمة. ليس دفاعا عن وزارة الثقافة لأننا، ببساطة، كنا ولا نزال، أول من نادى بخلق المجلس الأعلى للثقافة ليكون الجهة الرسمية الوحيدة المخولة بكل ما يتعلق بالشأن الثقافي والفني من منظور وطني يراعي خصوصيات الأمة، وبالتالي فالثقافة والفنون التي يحتاجها مواطن هذا الوطن هي أكبر بكثير من منظور وزارة محدودة الإمكانيات المادية والبشرية. وتاريخ وأرشيف كل الندوات والمؤتمرات الدراسية، التي عقدت في كل سنوات الاستقلال، هي شاهد وأكبر دليل على مواقفنا، وعلى آرائنا، وعلى تصوراتنا، وعلى مقترحاتنا التي قدمناها في هذا الصدد، وعلى من يجهل هذا التاريخ والمعطيات العودة إلى هذا الأرشيف. وليس دفاعا عن وزير الثقافة الذي ثمن مقدمَه ودبج في مدحه عند تعيينه وكتبت في ذلك الكثير من المقالات والآراء والشهادات، عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، الكثيرُ من الذين يتزعمون اليوم هذه الوقفات ويقفون في صفوفها الأولى حاملين شعارات هم أول من لا يؤمن بها. ولعل مثل هذه التناقضات الصارخة تنزع عن مثل هاته الوقفات أي شرعية أو مصداقية لأنها لا تنطلق من الصالح العام ولا تروم مصلحة الساحة الثقافية والفنية، ولا تتوخى الدفاع عن قضايا كبرى تهم كل الساحة، بقدر ما تستغل الظرف المتحرك للدفاع عن القضايا ومصالح أشخاص أو أجهزة تريد توريط الآخرين من أجل تعبيد الطريق أمامها. من هذا المنطلق الموضوعي، من حقنا، كمواطنين وفنانين محترفين ومستقلين عن أي توجه وعن أي جهة، أن نتساءل عن ماهية الوجوه التي تصدرت الوقفات وطبيعة الأشخاص الذين حملوا لافتات التنديد؟ نجد، بكل أسف، متقاعدين أو متفرغين من الوظيفة العمومية، لا علاقة لهم بالثقافة ولا الفنون إلا علاقة التطفل والإنزال، نجد، بكل أسف، هواة حصلوا على مال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية باسم الهواة، ويريدون أيضا حقهم المزعوم من كعكة الاحتراف! وجوها استفادت من الذهاب إلى الحج في الموسم الأخير على حساب وزارة الثقافة الحالية، ولم تخجل من أن تتظاهر ضدها ضد كل الأعراف والقيم وأخلاق الثقافة والفنون السامية، وجدنا أشخاصا لم يرعووا عن استغفال الآخرين وسوقهم إلى التظاهر والاحتجاج، فقط لأن الوزارة نقصت من الأظرفة المالية التي اعتادوا الحصول عليها في كل مناسبة ثقافية أو فنية، رغم أن الوزارة مسؤولة عن ترشيد إنفاق المال العام، ولأنهم شعروا بأن الوزير الحالي استغنى عنهم وتجاوزهم في منظوره للتسيير. وبالتالي، فلو تركهم على حالهم المعروف ولو سايرهم في عبثهم لما انقلبوا على الوزارة وعلى الوزير بهذا الشكل المفضوح، وبالمقابل لم نجد رجال الفن الحقيقيين ولا المثقفين الذين يحملون همّ الثقافة الوطنية، لأن أماكنهم ملئت واحتلت من طرف المدعين والانتهازيين والوصوليين وذوي السوابق. فهل بمثل هؤلاء يتم الاحتجاج؟ وهل بمثل هؤلاء الذين يستنزفون المال العام في الهواية وفي الاحتراف تكون الوقفات؟ إنه العبث وتمييع الصف الثقافي والفني ولا شيء غير ذلك. كنا نتمنى أن نسمع شعارا هادفا أو نقرأ لافتة تحمل بديلا ثقافيا أو فنيا يهم الثقافة الوطنية والفنون ويرتبط بالمثقفين والمبدعين الحقيقيين، كنا نتمنى أن نجد طرحا موضوعيا ينم عن تفكير عميق في كل الإشكالات التي تعوق الثقافة والفنون، عوض هذا التظاهر المصلحي والأناني الذي عم الساحة منذ زمن وانعكس بوضوح على هاته الوقفات والاحتجاجات التي أظهرت، لمن لازال يحتاج إلى دليل ملموس، أي درك متدني وأي حضيض أوصلت إليه هذه الأجهزة المفبركة المصنوعة من طرف وزارة الثقافة نفسها أيام الوزير السابق، والتي خلقت لمحاربة المحترفين الوطنيين ومناوءتهم في حقوقهم المشروعة واحتلال أماكنهم والسطو على حقوقهم المشروعة في العمل وفي الإنتاج الوطني، فهل بمثل هذه النماذج الكارثية تساهم الثقافة والفنون في كل هذا الحراك العام الذي تشهده الساحة الوطنية؟ ثم لمصلحة من يقصى ذوو الخبرة والاحتراف في التعبير عن همومهم وقضاياهم باعتبارهم المعنيين بالأمر؟ لقد آن الأوان لتنظيم الساحة الثقافية والفنية من منظور وطني يساير ما يطمح إليه المغرب -ملكا وشعبا- من إصلاحات جذرية، ولا يجوز -بأي حال من الأحوال- أن تكون الثقافة والفنون خارج هذا السياق، فقد عانى المثقفون والفنانون الوطنيون الكثير من التهميش والإقصاء ومن تزوير إرادتهم بإحلال المدعين والموظفين والهواة محلهم. ولعل أولى بوادر هذا الإصلاح أن توكل أمور التنظيم إلى أهل الميدان، وما على المحترفين في الثقافة وفي الفنون الآن إلا أن يأخذوا زمام المبادرة، بخلق جهاز خاص بهم حتى لا يعطوا فرصة للمفسدين أن يمتطوا موجة التغيير التي نعيشها. إن مسرح البدوي إذ يدين ويشجب كل هذا العبث وهذا التكالب المفضوح والمدان على قضايا الثقافة والفنون وقضايا رجالها ونسائها، يعلن رفضه القاطع لأن تظل الثقافة والفنون خارج منظومة الإصلاح والتغيير، مطالبا بتوضيح المواقف والأهداف والمرامي خارج هذا التمييع المقصود وهذا الخلط الممنهج لكل الأوراق، ويهيب في نفس الوقت بالمحترفين الوطنيين الشرفاء وذوي التفكير السليم توحيد صفوفهم وخلق المنظمات الشرعية القادرة على ترجمة مطالبهم المشروعة إلى حقوق مكتسبة، بعيدا عن الهيمنة المصنوعة لأغراض لم يعد السكوت عنها وعن أصحابها أمرا مقبولا في مغرب الإصلاح والمؤسسات. فهل نكون جميعا في مستوى اللحظة؟