الحديث عن التطرف ليس لصيقا بما هو ديني، وحتى إذا سلمنا بذلك فلا يعني أنه خاص بالدين الإسلامي كما نراه في الموجة الإعلامية والثقافية المعاصرة والتي تغافلت عن التطرف اليهودي والمسيحي والبوذي ... أما أن تعالج هذه الظاهرة بالميزان العلمي الدقيق والمنصف فهو الصواب لبروزها على مستوى الأفكار والإيديولوجيات والدين. فما هو التطرف ؟ وهل الإسلام دين تطرف؟ ينقسم التطرف إلى قسمين: مذموم ومحمود. والتطرف المذموم: هو خروج النفس عن كل ما تتلقاه الطبائع السليمة بالقبول، مما يعني أنه مخالف للبنى الفطرية الإنسانية، إن كانت في الدين فهي خروج عن مقاصد الدين المتمثلة في خدمة الإنسان بتنظيم علاقته مع ربه ومع نفسه ومع غيره، وإن كانت في الإيديولوجيات فهي الخروج عن الأهداف البناءة لتعايش الإنسان وبقائه. والتطرف المحمود: هو طلب النفس لاستخدام المدارك في الوصول إلى حد يفوق تصور الإنسان خدمة له، تدينا كالمتعبدين الذين جردوا أنفسهم عن كل شيء إلا العبادة. وفي الخلفيات الفكرية كالتي تسعى إلى استنهاض المعارف وانتفاضها لخدمة المصالح الإنسانية عموما. والقول بالتطرف الديني ليس سليما، لأن هذا التركيب ينسب التطرف إلى الدين بوجود ياء النسبة في الدين، بل الأسلم أن يقال التطرف في الدين، بحكم أن «في» هنا تعليلية حسب ما أورد بعض النحويين، أي التطرف بسبب الخطأ في فهم الدين، حتى يبقى التطرف منسوبا إلى الشخص بحسب طبيعة فهمه، لا إلى أحكام الدين ومبادئه. فهل الإسلام دين تطرف ؟ الإسلام دين رسالته عالمية، وهذا يعني أن خطاب مصدري التشريع فيه «الكتاب والسنة» خطاب توافقي مع الإنسان بكل أجناسه واختلافاته، ولم يستثن فئة معينة عن أخرى أو جنس عن آخر. قال تعالى : «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، سورة الأنبياء الآية 103، ولكن إذا كانت أحكامه لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فإنها تختلف في فهمها بحسب اختلاف المطَّلع عليها مما يجعله عرضة للعالم والعامي. والتدين بالإسلام يضفي شرعية المسلم على صاحبه، مما يوجب عليه الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه . والتدين بأحكامه وأخلاقه إما أن يكون : - تدينا قويما: وهو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما بينه أهل الاجتهاد وسطروا مفاهيمه ومبادئه «عقيدة وعبادة وأخلاق»، مستندين على النقل الصحيح ومستدلين بالدليل الكامل الصريح، طلبا لبيان رسالة الإسلام الصائبة والكاملة. - تدينا عقيما : وهو التدين المحكوم بالهوى والقناعة الراسخة بالفكرة حتى وإن كانت خاطئة، ما دامت قد استقرت في ميزان صاحبها أنها صائبة، وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه بالتطرف. - تدينا سقيما : وهو ما بين القويم والعقيم أصحابه ينتهجون ما أرشد إليه المتخبطون في الفهم لا إلى القويم السليم ولا إلى العقيم. لكن تبقى نيتهم راشدة تستقطب في كثير من الجوانب، الرؤية الخيرية الموافقة لقناعتهم الفطرية. إن مبادئ دين الإسلام عالمية وقد برز اصطلاح أصبح مشاعا في المحافل العلمية والإعلامية، وهو ما يسمى بالإسلام الوسطي، وهو طرح يحتاج إلى التصحيح وإعادة الصياغة، لأن الاصطلاح بالوسطية يفرض الاصطلاح بالتشدد والانفتاح، فيسمى الإسلام المتشدد والإسلام المنفتح، إذ الصفة السلوكية للمتبني لا تعكس جوهر الدين، مما لا يحق نسبة السلوك إلى الإسلام وعدم نسبته إلى الشخص. والصواب أن طرق الفروع ليست معيارا في الحكم على الأصل والنبع، وقد أجمع أهل الإنصاف والحقائق العلمية على أن الإسلام جاء لتنظيم الطبيعة الإنسانية من حيث المبنى والمعنى وتكامله مع الطبيعة الكونية من حيث التسخير والاستثمار، والدليل على هذا التوافق علما وتاريخا، مما يعني أن الإسلام ليس دين تطرف. والتطرف في الدين كظاهرة لها مقابلها كالتطرف في الأفكار والإيديولوجيات، كالأقوال والأفعال والتصرفات، وعموما جميع الخلفيات التي هي وليدة الظواهر الإنسانية وهو ما سيأتي الحديث عنه. غير أن التطرف في الدين عموما، له أسبابه الخاصة نورد بعضها فيما يلي : -1 أنه ناتج عن المحيط الذي يعيش فيه الشخص من حيث القوة والضعف، فيكون الشخص مرهف الحس لين الحكم على ما يراه، مما لا يوافق مبادئه المقتنع بها، العامل على تطبيقها مما تتناسب مع اجتهاداته. -2 أنه ناتج عن اتباع مطلق دونما بحث أو اجتهاد في معرفة الصواب واتباع الحق، والعامل الأساسي فيه هو الاستقطاب من قبل بعض المتدينين للعامّة . 3- أنه ناتج عن الأخذ بحرفية النصوص دونما رجوع إلى أهل المعارف العلمية التي تحكم قراءة النصوص، وكذا توجيهات العلماء ورجال أصول الدين. -4 أنه ناتج عن قناعات نفسية بأفكار خاطئة. وتجدر الإشارة إلى أنه توجد في الدين فئة لا ينظر إليها على أنها متطرفة، لأنها لا تنتج أحكاما على الآخرين ولا تنسب الصحة والصواب لنفسها، لكن حكمها على من خالفها إبداء للرأي الشخصي بمستند حقها في حرية إبداء رأيها، ومثال ذلك، ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال لمعاصريه من الصحابة والتابعين: «إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات». وكانت أمنا عائشة رضي الله عنها تنشد بيتا لبيد بن ربيعة : ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلق كجلد الأجرب وتقول أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها: رحم الله تعالى لبيد، كيف لو عاشوا إلى زماننا هذا؟ وكان ابن أختها عروة بن الزبير وقد عاش بعدها زمنا ينشد البيت ويقول: رحم الله لبيدا وعائشة كيف لو عاشوا إلى زماننا. وهؤلاء رضي الله عنهم كان تدينهم سليما قويما وكان وسطهم ملتزما بالدين في كل شيء، فقالوا ما قالوا دونما إطراء على أنفسهم أو اتهام للآخرين. والتطرف في الإيديولوجيات، كما سبق، لا يخول لأصحابه الحق في أن يقفوا موقف المتهمين للغير دونما انتباه أو التفات لأنفسهم، وما أخذوه من أفكار وما اقتنعوا به، هل هو متطابق مع توجهات الآخرين أم لا؟ ولا يحق لهم أن ينصبوا أنفسهم قضاة على غيرهم في بت الأحكام دونما نظر صائب محايد مبني على الصبغة العلمية السليمة. والتطرف في الأفكار مقابل للتطرف في الدين من حيث التقسيم وهو إما : فكر القويم: هو الفكر الذي يسعى إلى خدمة الإنسان في المجالات التوافقية مع طبيعته الكونية. فالتطرف في فكرة الوصول إلى الاختراعات العلمية السليمة قويم ما دام يسعى إلى خدمة البشرية دونما إيذاء . فكر العقيم: هو الفكر الإقصائي الذي يسعى إلى أن تكون المنفعة الذاتية هي أساس تفوقه، وهو فكر ميت لقيامه على نجاحات لحظية ومرحلية. فكر السقيم : هو الفكر الذي يسعى إلى خدمة الإنسان غير أنه لا يستند على المعادلات العلمية التي تحكمه، فينجرف إما إلى خدمة البشرية أو إلى هلاكها، غير أنه يبقى وليد رغبة تحقيق خدمة الصالح العام. والتطرف في الأفكار له أيضا أسبابه والمتمثلة في : -1 الانبهار بالفكرة. -2 الاقتصار على ظاهرها. -3 الاقتناع بصلاحيتها . -4 التعصب والتشدد لها. -5 محاولة فرضها على الغير. وهذا ما يحيلنا على أن الفكر القويم والتدين القويم من التطرف المحمود. والفكر السقيم والتدين السقيم ما بين المحمود والمذموم والفكر العقيم والتدين العقيم من التطرف المذموم. إذن ففكرة التطرف ليست مجاورة لما هو ديني فقط بل هي عامة تشمل الدين والخلفيات الإيديولوجية. فما حكم الإسلام في التطرف ؟ لا يمكن الحكم على من تمسك بآداب الإسلام وأحكامه أنه متطرف لمجرد قناعة غير المتدينين به، لأن هذا في حد ذاته تطرف إيديولوجي عقيم، كما أنه لا يحق للمسلم أن يكره الآخر على الدين امتثالا لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين). بل ميزان الفصل والحكم يبقى لما أثبته هذا الدين وهذه الأفكار من منهج يساير البناء الإنساني عموما لتبقى الصلاحية للأصلح لا للأقوى. والإسلام دين يرفض التطرف المذموم وينظم التطرف المحمود، فمن تحكمت قناعاته به عقيدة وعبادة وأخلاقا، نظمه وأرشده إلى أن ينسجم مع متطلباته الروحية والعقلية والجسمية. أما التطرف المذموم فقد رفضه الإسلام رفضا تاما ونهى عنه ولم يجزه. ففي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وإسناده صحيح، وفي حديث ابن مسعود في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون»، قالها ثلاثا، وهم المتعمقون الظاهريون الغالون في تدينهم، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. وفي حديث سهل بن حنين عنه صلى الله عليه وسلم: «لا تشددوا على أنفسكم فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات». رواه الطبري في الأوسط والكبير. فالغلو أو التطرف في الدين لا أصل له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، طلقا، سمحا، كريما. وقد سلك صحابته الكرام منهجه في تدينهم كما أرشدهم إلى رحمة هذا الدين وانسجامه مع متطلباتهم عموما. وقد جاء عبد الله بن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «أو لم أكن مخبرك أنك تقوم الليل وتصوم النهار، قال: بلى يا رسول الله قال: فإن فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك وإن لنفسك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فصم وأفطر وقم ونم. «ويقول الله عز وجل مخاطبا ومربيا حبيبه صلى الله عليه وسلم: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك». وروي عنه صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: «إذا سمعتم الرجل يقول : هلك الناس فهو أهلكهم ». - ومن أوجه التطرف المذموم، ما وقع فيه الخوارج في فجر الإسلام والذين كانوا من أشد الناس تعبدا لله صياما وقياما وتلاوة للقرآن ولكنهم أتوا من فساد الفكر، لا من فساد الضمير، ومن ثم وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وقيامه إلى قيامهم وقراءته إلى قراءتهم» ومع هذا قال عنهم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». ووصف صلتهم بالقرآن فقال: «يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم». وذكر علامتهم المميزة بأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. وقد روي أن أحد العلماء حين وقع مرة في يد بعض الخوارج فسألوه عن هويته فقال: مشرك مستجير، يريد أن يسمع كلام الله، وهنا قالوا له : حق علينا أن نجيرك ونبلغك مأمنك. وتلوا قوله تعالى: «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره، حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه»، ولو قال : مسلم، لقطعوا رأسه. ليس من العلم في شيء أن نحمل الإسلام أخطاء الآخرين وفهمهم القاصر له ومن ثم مهاجمته، وإلا كان هذا الهجوم محور شك لأنه خارج عن الأصول والقواعد العلمية لمنطق الحوار والتواصل واحترام حرية الآخرين.