علمتنا تجارب مرحلة الإذلال العربية السابقة، التي بدأت تدخل النزع الأخير، أن الرؤساء الأمريكيين لا يتصلون بنظرائهم العرب إلا في حالة واحدة فقط في معظم الأحيان، وهي عدم الإقدام على إجراءات من شأنها إلحاق الأذى بإسرائيل أو سياساتها في المنطقة. المكالمة التي أجراها ليلة أمس الأول (يقصد الأربعاء) الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع نظيره الفلسطيني محمود عباس، واستغرقت حوالي خمسين دقيقة، لم تكن استثناء، وجاءت في الإطار نفسه وتركزت على ممارسة ضغوط على الرئيس الفلسطيني للتراجع عن نواياه المضي قدما في التوجه إلى مجلس الأمن الدولي بمشروع قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك مدينة القدس. والأكثر وقاحة من ذلك أن الرئيس أوباما، الذي ادعى صداقة كاذبة للعرب والمسلمين وقدم وعودا عديدة بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، هدد الفلسطينيين بعواقب وخيمة إذا لم يستجيبوا لطلبه ويقبلوا ببيان رئاسي غير ملزم يصدره رئيس المجلس يرفض الاستيطان بشدة دون أن يدينه، وينتقد مواقف إسرائيل خاصة عدم تنفيذها لخارطة الطريق. هذا الطلب الأمريكي، خاصة عندما يأتي من رئيس البيت الأبيض، يكشف عن جهل أمريكي مطبق، بل استهتار غير مبرر، بحالة الغليان التي تجتاح الشارع العربي حاليا وتكتسح أنظمة ديكتاتورية فاسدة ظلت، على مدى الأربعين عاما الماضية، تتلقى الدعم والمساندة الأمريكيين بسبب خنوعها المهين للغطرسة الإسرائيلية بكل صورها وأشكالها. الرئيس الأمريكي، الذي بدأ عهده بإدانة الاستيطان واشترط توقفه الكامل كشرط لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، يمارس ضغوطا، وفي مرحلة التحول الخطيرة الحالية، ليس على الطرف الإسرائيلي الذي تحدى البيت الأبيض، والعالم الغربي بأسره، ونسف عملية السلام من جذورها برفضه تجميد، مجرد تجميد، الاستيطان لمدة شهرين، وإنما على الطرف الفلسطيني الضعيف المهدد بالمصير نفسه الذي واجهه كل من الرئيس المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي، وهو الطرف الذي نفذ خارطة الطريق بحذافيرها، وقتل أبناء جلدته من أجل أمن وسلامة إسرائيل ومستوطنيها، وأعرب عن استعداده للتنازل عن معظم القدسالمحتلة، والقبول بيهودية الدولة الإسرائيلية مثلما جاء في وثائق دائرة المفاوضات الفلسطينية. الرئيس أوباما، رئيس الدولة الأعظم في العالم، هدد سلطة ضعيفة متهالكة تستجدي رواتب موظفيها من المحسنين قبل نهاية كل شهر، دون أي خجل أو حياء بعواقب الأمور إذا لم تستجب لطلبه المهين هذا.. ترى ماذا يمكن أن يفعل أوباما لهذه السلطة.. إيقاف مساعدات الدول المانحة لها أم طرد ممثلها في واشنطن أم إيقاف رعايته لجهود السلام الميتة والمتعفنة؟ ليته يفعل وينفذ أيا من تهديداته، أو كلها مجتمعة، فهو يسدي بذلك خدمة جليلة إلى السلطة ورئيسها وإلى الشعب الفلسطيني بأسره، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه يطلق بذلك رصاصة الرحمة على مرحلة فلسطينية التصقت في أذهان الفلسطينيين بالهوان والإذلال وفقدان الكرامة، والرهان على حل أمريكي ثبت أنه سراب، بل أكثر سوءا من السراب نفسه. فمن المؤكد أن الرئيس الفلسطيني يشاهد عبر شاشات التلفزة كيف يهان زعماء عرب يتربعون على عروش دول عظمى ومستقلة فعلا، ويبحثون عن ملاذ آمن يلجؤون إليه هروبا من لعنات المتظاهرين الشبان ومطالباتهم الصاخبة بتقديمهم إلى العدالة بتهم متعددة، من بينها الفساد. وهو، حتما، لا يريد مثل هذه النهاية وهو يتزعم سلطة وهمية تأتمر بأمر الاحتلال، وتجعل أمر تنقله من مكتبه إلى أي مكان آخر مرهونا بموافقة مجندة مراهقة ما زالت تتعلم مبادئ الغطرسة الإسرائيلية وفنون إذلال الفلسطينيين. ويظل لزاما علينا أن ننوه بقرار الرئيس عباس وأركان قيادته بعدم الرضوخ لطلب أوباما الفج والمتعجرف، والتراجع عن قرار التوجه إلى مجلس الأمن الدولي لإدانة الاستيطان، لأنه تجنب بذلك الوقوع في مصيدة أخرى شبيهة بمصيدة تقرير القاضي غولدستون بشأن جرائم الحرب في غزة، عندما أذعنت السلطة لطلب أمريكي إسرائيلي مشابه بسحب هذا التقرير وتأجيل تقديمه إلى مجلس حقوق الإنسان العالمي في جنيف، وهو القرار الذي أثار موجات سخط فلسطينية عارمة كادت تطيح بالسلطة ورئيسها، بطريقة مهينة. المتظاهرون في تونس والقاهرة والبحرين وبنغازي وصنعاء لم يحرقوا الأعلام الأمريكية أثناء انتفاضاتهم الشعبية المطالبة بسقوط أنظمة حليفة لواشنطن تعتاش على مساعداتها أو تحتمي بأساطيلها، ولكن المؤكد أنهم سيحرقونها، مثلما سيحرقون معها كل أمل في حدوث تغيير في الموقف الأمريكي تجاه تفهم الحقوق العربية والمطالب المشروعة في التغيير الديمقراطي، فور استخدام المندوب الأمريكي الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع القرار العربي الفلسطيني بإدانة الاستيطان والاحتلال الذي يسير قدما فيه. نصلي من أجل أن يستخدم أوباما «الفيتو» في مجلس الأمن، ويحرج من تبقى من أصدقاء بلاده من الزعماء العرب الذين يترنحون قبل السقوط الكبير، ويتعلقون بكرسي السلطة بشعرة توشك على الانقطاع. لعل الخالق، جل وعلا، يعمي بصر وبصيرة الرئيس الأمريكي ويجعله يستمع إلى أنصار اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس ودهاليز الإدارة، ويوجه صفعة قوية، في مثل هذا الوقت والتوقيت، إلى حلفائه المرتعشين رعبا وخوفا، بما يؤدي إلى المزيد من إضعافهم وحراجة موقفهم، ويفتح أعين الزعماء الديمقراطيين القادمين من رحم الثورة على حقيقة الوجه الأمريكي الذي يزداد بشاعة بإصراره على مساندة مجرمي الحرب الإسرائيليين.