طيلة الفترة التي تلت انتفاضتي الشعبين التونسي والمصري، سمعنا آراء ومواقف متباينة لزعماء سياسيين وحزبيين وحقوقيين، منهم من يرى ضرورة وصول رياح الثورة إلى المغرب مناديا بإسقاط النظام، ومنهم من يرى ضرورة وصول رياح التغيير وإصلاح الدستور، ومنهم من يرى ضرورة تسريع الإصلاحات. وإذا كان بعض هؤلاء السياسيين والحقوقيين والحزبيين يعبر عن مواقفه انطلاقا من قناعات راسخة، وهو أمر يجب أن يتم احترامه انسجاما مع مبادئ حرية التعبير، فإن البعض الآخر يستغل ما حدث في مصر وتونس لتصفية حساباته القديمة مع خصومه السياسيين في المغرب. استغلال خطاب الثورة لتصفية الحسابات ليس مقتصرا على السياسيين والحزبيين، وإنما يشمل حتى بعض المليارديرات المغاربة، كان أبرزهم الملياردير ميلود الشعبي الذي نظم الطلبة على شرفه لقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء. بغض النظر عن الاستعادة التقليدية للسيرة الذاتية الاستثنائية للحاج ميلود الشعبي ومساره الفريد من نوعه، نزع الحاج ميلود عنه جبة رجل الأعمال لكي يلبس جبة الثائر ويوجه جملة من الرسائل في معرض تعليقه على انتفاضتي الشعبين التونسي والمصري. فبعد تعبيره عن اطمئنانه على الملكية في المغرب، طالب المفسدين بأن يردوا ما نهبوه طوعا حتى لا تكون هناك فتنة، قبل أن يمر إلى القول إن المغرب يتوفر أيضا على «الطرابلسي» و«أحمد عز»، في إشارة إلى عائلة الطرابلسي التي نهبت تونس وتسببت جرائمها المالية في اندلاع الثورة. وأضاف أنه نصح، داخل «فيدرالية المنعشين»، أحد منافسيه المباشرين في العقار بالابتعاد عن اقتناء أراضي الدولة بدرهم رمزي والحصول على رخص البناء بطرق سريعة وخاصة. ما يهمنا في ما قاله الشعبي هو كونه أشار إلى حقيقة واضحة، كنا سباقين في هذا العمود إلى التنبيه إليها، وهي أننا في المغرب لدينا نحن أيضا «طرابلسياتنا» و«بنعلياتنا»، ويشهد الله أننا لم نوفر جهدا في محاربتهم بشكل يومي ومستمر، إلى درجة أن إحدى هذه العائلات التي سيطرت على جل مناصب المسؤولية في البلاد، عائلة «آل الفاسي الفهري»، تجرأت وأرسلت ياسمينة بادو إلى القناة الثانية لكي تشتمنا، في برنامج صديقتها سميرة سيطايل «نقط على الحروف»، وتتهمنا بالعنصرية وتصف الانتقادات التي نوجهها لاحتكار عائلة زوجها للمناصب برغبتنا في إحياء «الظهير البربري». والمدهش هو أن بعض من أصبحوا يتغنون اليوم بالثورة هم من فتحوا لها وللمراهق إبراهيم الفاسي الفهري صفحات جرائدهم لكي يتهجموا علينا ويصفوا تحذيراتنا من تعاظم نفوذ هذه العائلة بأقذع النعوت والأوصاف. ومن يعود إلى أرشيف جرائد هؤلاء «الثوار الجدد»، سيعثر على الحوارات المطولة التي أجروها مع أبناء هذه العائلة لتلميع صورتها وترميم بكارتها. إننا فخورون بكوننا كنا أول من أثار الانتباه إلى تعاظم نفوذ هذه العائلة التي استحوذ أبناؤها، منذ وصول عباس الفاسي إلى الوزارة الأولى، على مناصب عديدة على رأس المؤسسات العمومية. ضعوا اسم رشيد نيني وإلى جانبه آل الفاسي الفهري في محرك البحث «غوغل» وستعرفون من كان سباقا إلى التنبيه إلى هذه الكارثة. وإذا كان البعض اليوم يريد أن يلعب دور البطولة المتأخرة ويعطي نفسَه الحق في تخوين الشرفاء الذين كانوا دائما في خندق الشعب، لمجرد أنهم يختلفون معهم حول طبيعة وتوقيت المطالبة بالإصلاحات التي يجب أن يشرع النظام في تطبيقها، فإن الشعب لديه ذاكرة ويعرف من كان دائما واقفا إلى جانبه ومن يريد اليوم أن يركب على ظهره. طبعا، من حق الحاج ميلود الشعبي أن يعبر عن آرائه بكل حرية، فما يحسب للشعبي هو أنه أحد رجال الأعمال المغاربة القلائل، رفقة الملياردير كريم التازي صاحب «ريشبوند»، الذي يعبر بوضوح وجرأة عن آرائه السياسية. فرأس المال جبان، ولذلك يفضل أصحابه الاحتفاظ بألسنتهم داخل أفواههم وتحريكها فقط للنميمة في صالونات الدارالبيضاء المخملية المغلقة. رغم أن تصريحات الشعبي تناقض أحيانا أفعاله، فهو ضد بيع الخمور في فنادقه وأسواقه، لكنه لا يجد حرجا في صناعة وطبع وبيع العلب الكارتونية لزنيبر، ملك الخمور، لكي يضع فيها قناني نبيذه. سوى أن الفرق كبير وواضح بين أن نقول نحن، كصحافيين مستقلين، هذه الحقيقة من أجل تنبيه الغافلين إلى خطورة حصر 75 في المائة من ثروات المغرب بين يدي 27 في المائة من المغاربة، وبين أن يقولها ملياردير يوجد ضمن هذه الأقلية التي تحتكر ثروات المغرب، من أجل تصفية حساب قديم بينه وبين منافسه اللدود في سوق العقار. هنا يتحدث الحاج ميلود الشعبي كرئيس عام لمجموعة «الشعبي للإسكان»، وليس كمواطن مغربي لديه رأي مستقل حول ما حدث في تونس ومصر وما يجب أن يحدث في المغرب، بمعنى أنه يستغل هذه الأحداث السياسية لكي يصفي حسابات تجارية مع منافس له في السوق. ولو أن الحاج ميلود الشعبي أراد أن يكون منصفا لانتقد أيضا، بالاسم، الملياردير مولاي حفيظ العلمي، الذي كان يجلس أمامه في الندوة ممثلُه في مجموعة «سينيا السعادة»، وزير المالية السابق محمد برادة، الذي شغّله العلمي مؤخرا إلى جانبه. ومقابل هذا الصمت، حظي لقاء ميلود الشعبي في اليوم الموالي بصفحة كاملة في جريدة مولاي حفيظ العلمي، أشار فيها صاحب «التغطية» إلى أن المجموعات نفسها في المغرب هي التي تربح دائما كلما كانت هناك طلبات عروض. ونسي الأخ أن شركة تأمين مولاي حفيظ العلمي هي كبرى هذه المجموعات التي تحتكر صفقات التأمين في المغرب. ففي ظرف وجيز حصل مولاي حفيظ العلمي على صفقة تأمين موظفي وزارة العدل، وصفقة موظفي وزارة الداخلية والجيش، وصفقة تأمين رجال التعليم وصفقات وزارات ومؤسسات عمومية أخرى كثيرة. إن ما يحدث في العالم العربي من انتفاضات وثورات، وما ينتظر المغرب من تحديات، أكبر وأهم من أن يستغله البعض في تصفية حساباته الشخصية العابرة والصغيرة. لقد نسي الحاج ميلود الشعبي، وهو يتحدث عن ثورتي الشعبين المصري والتونسي على الدكتاتورين بنعلي وحسني مبارك ورجالهما الذين كانوا يتحكمون في عالم المال والأعمال والاستثمارات، أن يشرح لنا كيف استطاع أن يستثمر أمواله ويحقق أرباحا كبيرة في ظل هذين النظامين الدكتاتوريين المبنيين على الرشوة والابتزاز والفساد. ما السر الكامن وراء ازدهار مشاريع الشعبي فقط في البلدان ذات الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة، كتونس ومصر وليبيا؟ لماذا لا نسمع عن ازدهار أرباح مشاريع للشعبي في البلدان العريقة في الديمقراطية؟ ألم يؤسس الشعبي شركته «مواسير» في تونس سنة 1984 وشركة «إديال غوم» سنة 2008، وحقق أرباحا طائلة في عز دكتاتورية بنعلي وعائلة زوجته «الطرابلسي» التي لم يتذكر وجودها إلا الآن؟ ألم تكن هذه الدكتاتورية هي التي منحت شركة الشعبي في 15 جوان 2010 جائزة «شركة السنة الخضراء» التي سلمه إياها وزير الصناعة والبيئة ورئيس الباطرونا التونسي؟ ألم يؤسس، في ظل نظام حسني مبارك الدكتاتوري الفاسد، شركة لبطاريات السيارات في التسعينيات؟ ألم يستثمر حوالي 1،4 مليار درهم في ستة أشهر في مصر، ربح من ورائها في بورصة القاهرة 830 مليون درهم دفعة واحدة؟ ألم يستثمر سنة 2000 في مشروع «مدينة النصر» لبناء أكثر من مليون شقة، وجلس إلى جانب كبار مساعدي الدكتاتور حسني مبارك، وعلى رأسهم مصطفى طلعت الذي يطالب الشعبُ المصريُّ في ميدان التحرير بمحاكمته على جرائمه المالية؟ ألم يكن هؤلاء الوزراء المرتشون، الذين يطالب الشعب المصري اليوم بمحاكمتهم على فسادهم وسرقاتهم، هم الذين سلموا ميلود الشعبي الجائزة الكبرى لوزراء السكنى العرب في 24 دجنبر 2003 بالقاهرة؟ وغدا عندما سيغادر الدكتاتور الليبي خيمة الحكم التي ظل يسكنها لأكثر من أربعين سنة (وهذا ما نتمناه، لكي يتحرر الشعب الليبي من الدكتاتورية، وأتحرر أنا كذلك من غرامة 100 مليون التي حكموا علي بها لصالح القذافي)، لن نستغرب إذا سمعنا الحاج ميلود الشعبي يبارك للشعب الليبي ثورته ضد ثورة الدكتاتورية.. الدكتاتورية نفسها التي احتضنت مشاريع واستثمارات الشعبي العقارية والصناعية لسنوات طويلة، ظل خلالها هذا الأخير ممسكا لسانه عن انتقادها خوفا على تجارته من الكساد. إن ما يحتاجه المغرب اليوم ليس هو تعليقات أثريائه على الفساد المالي الذي ينخره، وإنما ما يحتاجه المغرب اليوم من جانب هؤلاء الأثرياء هو إعطاء نموذج واضح وملموس لسخائهم وتضامنهم في هذه الظروف الصعبة، وذلك بإنشاء صندوق يضع فيه هؤلاء ال27 في المائة الذين يحتكرون 75 في المائة من ثروات المغاربة تبرعات مالية لإخراج المغرب من عنق الزجاجة. نتحدث عن المليارديرات الشعبي والصفريوي وبنجلون وزنيبر وبرادة والحلو والتازي وبنصالح والدويري ومجموعة «أونا» ومولاي هشام وسائر الأثرياء الذين تحقق ثرواتهم أرباحا طائلة كل سنة، في الوقت الذي يرسل فيه المغرب وزير ماليته لكي يقترض من البنوك الأجنبية لترقيع الميزانية. إلى جانب الأفكار، فالمغرب محتاج اليوم إلى المال لكي يحل المشاكل الاجتماعية المعقدة التي تعيق تقدمه، ولقد حان الوقت لكي يثبت هؤلاء المليارديرات أن بمستطاع الشعب أن يعول على سخائهم وروح التضامن لديهم. وفي اليوم الذي سيفهم فيه هؤلاء المليارديرات أن تزايد ثرائهم الفاحش في مقابل تزايد الفقر المدقع للشعب يشكل خطرا عليهم قبل غيرهم، سيكونون قد فهموا أن الثراء الحقيقي هو الثراء الذي لا يكون على حساب بؤس الآخرين وشقائهم. وصدق المغاربة عندما قالوا «اللي بغاها كلها يخليها كلها».