سيعذرني الراحل بوكماخ لأنني أستعير عنوان هذا العمود من نص كتبه وضمنه أحد كتب سلسلة اقرأ التي درسنا فيها سنوات السبعينات. وقد كنت خمنت في عنوان آخر هو «زوزو يصطاد السمك»، لكنني عدت وقلت أنني لن أتحدث عن الصيد البحري في هذا المقال وإنما فقط عن الفلاحة. في كتابه المرجعي «الفلاح المغربي والعرش» يقول المفكر السياسي «ريمي لوفو» بأن الفلاح المغربي هو أكبر حامي للملكية. عكس كل البلدان الأخرى التي غالبا ما يكون الفلاحون فيها هم متزعمو الثورات ضد القياصرة والملوك، كما حدث خلال الثورة البلشفية والثورة الفرنسية. وخلال استقباله لوزيره السابق في الفلاحة، مزيان بلفقيه، قال له الحسن الثاني بأن الأسرة العلوية استطاعت أن تحكم المغرب كل هذه القرون بفضل ثلاثة أشياء، الفلاحة والفقه والحرب. وسواء خلال عهد المغربة أو خلال عهد الخوصصة، فإن الدولة كانت حريصة على إبقاء أراضيها الفلاحية في يد الأعيان والمقربين من المخزن والموالين للقصر والسياسيين الدائرين في فلكه. ولذلك عندما غادر عز الدين العراقي منصبه كوزير تعليم بعد أن خربه، عفوا، عربه، ذهب إلى عين عودة ليتسلم أرضا شاسعة أهداها له الملك ليمارس فيها الفلاحة في أوقات الفراغ. عندما نراجع لائحة أسماء المغاربة الفائزين بصفقة كراء أراضي الصوديا والسوجيطا، نعثر على الأمير إلى جانب المقاول والمقاول والأمير إلى جانب السياسي، والمقاول والأمير والسياسي إلى جانب الملياردير. فالأمير مولاي إسماعيل حصل على 413 هكتارا، وعلي بلحاج رئيس رابطة الحريات حصل على 253 هكتارا، ومجموعة «أونا» حصلت على 808 هكتارات، والقباج عمدة أكادير الاتحادي حصل على 399 هكتارا، وعلي قيوح البرلماني الاستقلالي حصل على 1171 هكتارا، وإدريس الراضي رئيس الفريق البرلماني للاتحاد الدستوري حصل على 198 هكتارا. بالإضافة إلى زنيبر صاحب أكبر شركة لعصر الخمور، والذي حصل على هكتارات شاسعة، ربما يزرعها بالعنب كما تعود في ضيعات مكناس. كل واحد من هؤلاء «طارت» له في «جطه» هكتارات شاسعة سيحرثها ويزرعها ويربي فيها قطعان الحيوانات النادرة بثمن رمزي لفترة تمتد إلى ثلاثين سنة. ولعل السبب في هذا الإقبال الكبير من طرف هؤلاء المليارديرات المغاربة على أراضي الدولة هو كون الفلاحة معفاة من الضرائب. على الأقل إلى حدود 2010. ولهذا يسيل لعاب المستثمرين الكبار عند رؤية الأثمان الرمزية التي تكتري بها الدولة أراضيها الفلاحية. هناك اليوم نقاش اقتصادي حول رفع الإعفاء الضريبي عن القطاع الفلاحي برمته، وجعل سنة 2010، سنة دخول اتفاقيات التبادل الحر حيز التنفيذ، آخر أجل لهذه الهدية الضريبية التي قدمها الحسن الثاني للفلاح المغربي سنوات الجفاف. لكن من يستفيد حقا من هذا الإعفاء الضريبي، الفلاحون الصغار الذين يحرثون الشعير والقمح الطري وبعض الفدادين من الذرة والبصل والفول، من أجل الاكتفاء الذاتي غالبا، أم الفلاحون الكبار الذين يزرعون هكتارات شاسعة من الخضر والفواكه والحوامض، والتي يصدرونها إلى الأسواق العالمية بالعملة الصعبة، دون أن يكونوا مطالبين بدفع ضرائب على الأرباح. وغالبا عندما نتحدث عن الفلاحة في المغرب يذهب خيالنا مباشرة إلى جرار في حقل أو بيادر التبن أو صناديق الخضر المركونة في الأسواق. وننسى أن هناك أنواعا من الزراعات والمنتجات الفلاحية التي تدر على أصحابها الملايير دون أن ينتبه إلى وجودها سوى القليلين. زراعة اليوكاليبتوس مثلا، هي واحدة من الزراعات التي توجد رخصة استغلالها في يد «أحدهم»، والتي لا تخضع صادراتها لأية ضريبة. وغير خاف عليكم أن «اليوكاليبتوس» أو «الكاليتوس» كما يسميه المغاربة، تدخل أوراقه ضمن صناعات دوائية، خصوصا كل ما له علاقة بالمحاليل المقاومة لأمراض الزكام والرشح. ولا بد أن بعضكم يذكر كيف أن أمه طبخت له في صغره أوراق «الكاليتوس» في الماء وأضافت إليه القليل من السكر لكي يشربه ويقاوم به السعال. ولعل واحدة من أكثر القطاعات الفلاحية المدرة للدخل هي المنتجات الفلاحية الفطرية. وبالإضافة إلى الفطريات التي تنمو في الغابات والتي تصدر إلى الخارج، نظرا للطلب المتزايد عليها، نعثر في غابات الأطلس المتوسط على مقاول واحد من فاس يحتكر «جني» مادة فطرية يطلق عليها بالفرنسية اسم LICHEN ، وهي عبارة عن سائل لونه يوجد بين الأخضر والبني يستخلص من جذوع أشجار الأرز التي يشتريها من الحطابين الذين لديهم رخصة قطع أشجار الأرز، ويبيعه لشركات أجنبية في الخارج متخصصة في الصناعات الدوائية بحوالي عشرة آلاف درهم للكيلو الواحد. وإلى جانبه نعثر على مقاولين آخرين يحتكران غابات أزرو وإفران وخنيفرة لإنتاج هذه المادة. طبعا دون أن يكون هؤلاء «الفلاحون» مطالبين بدفع درهم واحد كضريبة لخزينة الجمارك. وفي خنيفرة نعثر على مقاول آخر يحتكر تجارة الخروب، الذي يعتبر المغرب أول مصدر له في العالم، ليس سوى حسن أمحزون نائب المنطقة البرلماني عن الحركة الشعبية، ويحدد أثمان البيع بالنسبة للفلاحين الصغار. وغير خاف عليكم أن الخروب يدخل ضمن صناعات غذائية كثيرة كالشوكولاته وعلف البهائم وبعض مستحضرات التجميل. دون أن نتحدث عن الأعشاب الطبية والعطرية، والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى منجم للذهب يستغله بعض «المتخصصين» في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، عبر خلق مكاتب دراسات لهذا الغرض بالضبط. ومن يذهب إلى الخميسات سيكتشف حقول الخزامى، أما من يذهب إلى الراشيدية فيكتشف حقول «أزير»، أما من يفضل الذهاب إلى قلعة مكونة فسيكتشف أن «مكونة» أصبحت علامة تجارية مثلها مثل «أركان» في الجنوب. كما أصبحت لبعض الفلاحين الكبار الذين يزرعون الورد عقود طلبات مع شركات عطور عالمية مثل «شانيل» و«إيف سان لوران». والفلاحة في المغرب ليست هي الأعشاب والحبوب والفواكه والفطريات فقط، بل هي الطحالب البحرية أيضا. وفي مدينة الجديدة والقنيطرة يتم استخراج الأطنان من الطحالب البحرية على ظهر مئات الغطاسين والغطاسات الذين يقضون يومهم في التنفس تحت المياه العميقة من أجل بيع طحالبهم بدرهمين وثمانية سنتيمات للكيلو لفلاحين كبار يعيدون بيع هذه الطحالب بأضعاف أضعاف ثمنها للمختبرات الطبية. ولعل مختبر «فايزر» الأمريكي لم تأته فكرة فتح مصنع لمعالجة الطحالب البحرية بالجديدة من فراغ، فوحدة التسويق والإنتاج في المختبر تعرف أنها بافتتاحها لمصنع للطحالب في عين المكان ستخفض تكلفة إنتاج الأدوية. وربما لا يعير أغلبنا «كراريص» الهندية المنتشرة في الطرقات هذه الأيام أية أهمية، اللهم إذا ما راودته فكرة «تقشير» هندية أو هنديتين وابتلاعهما في الطريق إلى البيت أو العمل. فأغلبنا لا يعرف أن الهندية التي يستهين بها يوجد هناك في المغرب فلاحون كبار يتاجرون في زيت نبات الصبار الذي يصل ثمنه إلى 1200 أورو للتر، ويبيعونه لشركات التجميل العالمية في الخارج. وما ينطبق على زيت الهندية ينطبق على الحلبة والزعفران والحلزون وغيرها من المنتجات الفلاحية المخصصة للتصدير نحو الأسواق العالمية. وفي مقابل هذه الفلاحات المدرة للدخل، والمشغلة أيضا لليد العاملة، هناك فلاحات تحتضر ببطء منذ سنوات. فلاحات معيشية في الغالب يقاوم أصحابها القرض الفلاحي والجفاف والرغبة الجارفة في بيع الأرض والهجرة نحو المدن للتشرد على أرصفتها في الغالب. لذلك فالحل الأمثل لإنقاذ الفلاحة المغربية ليس هو إلغاء الإعفاء الضريبي سنة 2010، وإنما تنظيم هذا القانون الضريبي وجعله أكثر عدلا. يعني دعم الفلاحين الصغار وتقنين أرباح الفلاحين الكبار، دون خنقهم طبعا، لأن خنقهم سيهدد البنيات الاجتماعية المرتبطة بهذه الفلاحات، وكم هي كثيرة. ولكي يستفيد الفلاح الصغير من عائدات منتجاته، يجب على وزارة الداخلية أن تلغي العمل بنظام الامتيازات في منح رخص استغلال أسواق الجملة. وفي «مارشي كريو» في الدارالبيضاء مثلا، هناك طبقة من أصحاب هذه الرخص التي تنعم بها عليهم وزارة الداخلية يستفيقون في الخامسة صباحا ويغادرون السوق في العاشرة صباحا بعد أن يكونوا قد ربحوا ما يربحه الفلاحون الصغار في عام كامل. فهم يشترون من الفلاح البطاطا بأقل من درهم للكيلو ويعيدون بيعها بخمسة دراهم للمقسط والذي يعيد بيعها بستة دراهم للمستهلك. وكلما توسعت دائرة الوسطاء ارتفع الثمن. وهذا سبب مباشر من أسباب ارتفاع أسعار الخضر والفواكه، ووزارة الداخلية مسؤولة عن ذلك بسبب حرصها على الاستمرار في حماية اقتصاد الريع المبني على الرخص. عندما وصف شكيب بنموسى تنسيقيات مناهضة الغلاء بالتنظيمات الخارجة عن القانون، لم يجد من يقول له بأن الخارجين عن القانون الحقيقيين هم أولئك المضاربون والوسطاء الذين يشهرون رخصهم في وجه الفلاحين، ويسرقون عرق جبينهم ويبخسونهم أشياءهم أمام أبواب الأسواق. إن من يرعى أصحاب هذه الامتيازات لا يفعل غير تعهد الأزمة بالرعاية اللازمة حتى تكبر وتستفحل. أما دعم الفلاحة والطبقة الوسطى فيبدأ حتما من إلغاء هذه الرخص الامتيازية وإخضاع الفلاحين الكبار لواجب المساهمة في خزينة الدولة. يعني بالعربية تاعرابت «كول ووكل».