يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ «حين عاد أسامة في شهر ماي من العام 1996 من السودان إلى أفغانستان، لم يضيع الوقت، بل سارع إلى تحويل هذا البلد المنسي الذي أنهكته الحرب الأهلية المتمادية، إلى ملاذ آمن له. نزل في شرق أفغانستان حيث كانت تعم الفوضى من دون شك، لكنها منطقة كان قد خبرها أسامة جيدا قبلئذ بعقد من السنين، حين كان لا يزال شابا، وقد بنى صداقات عديدة في مناطق الباشتون الحدودية بين أفغانستان وباكستان، وكانت إدارة كلينتون لسوء حظها قد تجاهلت أهمية تلك الروابط التي عقدها هناك أو ربما أساءت تقديرها، مفضلة اعتبار عودته إلى أفغانستان المضطربة، بتعابير واشنطن المألوفة آنذاك، نوعا من الحصار يضرب من حوله. لكن الواقع أن أسامة الذي أحسن توظيف المال والدبلوماسية والحظ، لم يلبث أن وجد نفسه في ملعب مفتوح يدرّب فيه المتطوعين للجهاد بالآلاف وبحرية مطلقة، ثم يطلقهم ليعيثوا في الأرض فسادا أنى شاء هو ومتى شاء، وهذا بالضبط ما كان عازما على فعله بعد أن بلغ به الغضب أعلى درجاته، ودفعته الضغينة، إثر طرده من السودان، إلى الجهر للمرة الأولى بعزمه على اللجوء إلى العنف. قبل مضي تلك السنة عبّر عن نواياه بوضوح حين أصدر فتوى يعلن فيها موسما جهاديا مفتوحا غايته قتل الأمريكيين دونما تمييز، رجالا ونساء وأطفالا وعسكريين ومدنيين»، يقول جوناثن راندل في رؤية أمريكية لتلك المرحلة من مسار بن لادن. بينما يفضل الفلسطيني عبد الباري عطوان بحسه الصحفي، نقل تفاصيل الرحلة من السودان نحو أفغانستان، بقوله إن «الشيخ» بن لادن غادر السودان متجها إلى جلال أباد في ماي 1996، على متن طائرة مستأجرة تضم اثني عشر راكبا ويقودها قبطان روسي لا يفقه كلمة واحدة من العربية، ولا يملك أدنى فكرة عن هوية الرجال الذين يقلهم. وقد ضمت صفوف المسافرين مع الشيخ بن لادن حارسه الشخصي حمد الزبير (الذي قُتل في عام 2001 خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان) وسيف العدل المصري ونجلي الشيخ بن لادن، سعد وعمر. لم يكن سيف العدل يثق بالقبطان، حتى إنه لم يبلغه بوجهة السفر مسبقا، بل كشف له عن مقصدهم عندما اقتربت الطائرة من المجال الجوي الأفغاني. وقد جلس سيف العدل طوال الرحلة في المقعد الأمامي المجاور لمقعد القبطان، واضعا سلاحه في حجره، وانصرف إلى تفحّص الخرائط وأجهزة توجيه الطائرة. وكان رجال القاعدة الآخرون مسلحين أيضا. في خلال زيارتي لطورا بورا، حكا لي الشيخ بن لادن أحداث تلك المغامرة بأسلوب مرح، ويمكنني أن أتصور مدى الذعر الذي انتاب القبطان»، يروي عطوان الذي يضيف أن الرحلة كانت عملية سرية لا يعلم بموعدها غير الرئيس السوداني عمر البشير ورئيس جهاز استخباراته، فيما تولى مهمة التنسيق مع الجانب الأفغاني، المهندس محمود من المجموعة الإسلامية الأفغانية «الحزب الإسلامي»، والتي كان زعيمها يونس خالص موجودا في المطار لحظة وصول طائرة بن لادن. في تلك الأثناء، كانت الآلة الأمريكية تتسارع في دورانها مقتربة من احتراف «محاربة الإرهاب». ولأنها دولة كبيرة و«ديمقراطية»، فإن تحركاتها لم تكن لتبدأ قبل حيازة القدر الكافي من المعلومات وقاعدة بيانات عن التنظيمات والقادة وعلاقاتهم المعقدة. و»كان أسامة بن لادن واحدا من أمثلة عديدة على الاتجاه المقلق للإرهاب. وكانت التهديدات الموجودة منذ مدة طويلة مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي المصرية وعشرات من المجموعات الناقمة تتنافس معه للحصول على الاهتمام، لكن في أواسط العقد، أصبح بن لادن محط اهتمام الوكالة (وكالة الاستخبارات الأمريكية)، ففي مارس 1995 على سبيل المثال، أفاد المحققون الباكستانيون بأن رمزي يوسف، العقل المدبر لتفجير مركز التجارة العالمي في سنة 1993، وكان قد اعتقل للتو في إسلام أباد، أمضى الكثير من الوقت في السنوات الأخيرة في بيت الضيافة الذي يموله بن لادن في بيشاور»، يقول الأمريكي جورج تنيت في كتابه «في قلب العاصفة»، والذي يعلق من موقعه كمسؤول سابق بوكالة الاستخبارات الأمريكية على انتقال أسامة إلى السودان بالقول إن ذلك كان «سيناريو أسوأ حالة بالنسبة إلينا من عدة نواح. فقد كانت أفغانستان في ذلك الوقت ساحة لقتال فوضوي استثنائي حتى بالمعايير الأفغانية، سرعان ما جعل البلاد تحت سيطرة طالبان، وهي مجموعة من المتعصبين المتوحشين والرجعيين...». لكن أسامة بن لادن كان له رأي مخالف، حين صرح في عام 1996، أي سنة انتقاله من السودان إلى أفغانستان، في تصريح لصحيفة «إندبندنت» البريطانية، بأن أفغانستان تعتبر المكان الأكثر أمانا بالنسبة إليه، خاصة وأنها باتت بالنسبة إلى الأمريكيين كابوسا لا يمكن الاقتراب منه، في تلك المرحلة على الأقل، بعد أن أصبحت بتعبير تنيت: «لأول مرة في التاريخ لم يكن لدينا دولة ترعى الإرهاب، وإنما دولة ترعاها مجموعة إرهابية». لتتسارع التطورات بإعلان أسامة في ذات اللقاء مع الصحيفة البريطانية، أن قتل الأمريكيين الذي تم في عملية تفجير الخُبر شهر يونيو 1996، ليس سوى بداية لحرب بين المسلمين والولايات المتحدة. ويبادر إلى إرسال فاكس إلى جريدة «القدس» يعلن فيه الجهاد ضد الأمريكيين «المحتلين لبلاد الحرمين الشريفين». وما أثار الصحفي الفلسطيني في ذلك البيان، أنه «لم يصدر باسم لجنة الشورى والإصلاح، على غرار البيانات السابقة كافة التي كانت تدين الوضع في المملكة العربية السعودية في أثناء إقامة الشيخ بن لادن في السودان، فالوثيقة المكتوبة في اثنتي عشرة صفحة كانت مذيلة بتوقيع الشيخ بن لادن».