كَثُر الحديث في الفترة الأخيرة عن ضرورة البحث عن بديل للحالة القائمة، الذين يتفاوضون يطالبون ويهددون بالبحث عن بديل للمفاوضات، والذين كانوا مقاومين يتحدثون عن بديل للصواريخ وللمقاومة المسلحة. سؤال البدائل يتضمن حكما الاعتراف بأن ما هو موجود مرفوض أو فاشل، وإلا ما كان هناك مبرر للبحث عن بدائل. ولكن هناك فرق بين أن يكون مصدر سؤال البديل هو الشعب أو معارضة سياسية وأن يكون السؤال من طرف السلطة القائمة نفسها، عندما يكون سؤال البديل من طرف المعارضة فهذا أمر طبيعي لأن كل معارضة هي مشروع بديل، ولكن عندما يكون سؤال البديل من طرف رجال السلطة، فهذا يعني أن القائمين على السلطة يبرئون أنفسهم من المسؤولية عن الوضع الخاطئ القائم ويريدون من الآخرين أن يبحثوا لهم عن بدائل واستراتيجيات، مع احتفاظهم بالسلطة. وللأسف فإن الذين يتحدثون عن البديل أو يهددون بالبحث عنه أو ساروا بطريق بديل لما كانوا عليه، إنما يخفون فشلهم في تحقيق شيء للمشروع الوطني وللقضية الوطنية بشكل عام، لأن ما تخلوا عنها أو يبحثون عن بديل لها كانت تعتبر من ثوابت الأمة أو مكونات المشروع الوطني. أليست المفاوضات والتسوية السلمية هم الخيار الاستراتيجي لمنظمة التحرير ولحكوماتها المتعاقبة؟ أليست المقاومة وإطلاق الصواريخ، هي جوهر وأساس ومبرر وجود وشرعية حركات المقاومة وخصوصا حركة حماس؟ فكيف ولماذا نبحث عن بدائل لهما؟ ولذا فعند الحديث عن بدائل جديدة أو مشروع وطني جديد، يجب أن نحدد بدقة بديل عن ماذا؟ هل هو بديل عن: - المفاوضات ونهج التسوية السلمية الذي تقوده المنظمة والسلطة، وهو النهج الذي وصل إلى طريق مسدود ليس من وجهة نظر معارضي هذا النهج بل كما يعترف أصحاب هذا النهج أنفسهم؟ - نهج المقاومة المسلحة أو الجهاد بعد أن وصل هذا النهج إلى طريق مسدود، بل تم تشويهه نتيجة ممارسات مدعي المقاومة والجهاد، الذين حولوه من جهاد ومقاومة في سبيل الله والوطن إلى مقاومة وجهاد في سبيل السلطة؟ - بديل للسلطة بشكل عام؟ وعندما أقول سلطة فإنما أقصد السلطة والحكومة في رام الله والسلطة والحكومة في غزة. - بديل عن فصل غزة عن الضفة ووجود حكومتين وسلطتين متعاديتين؟ - أم هو بديل للطبقة السياسية بشكل عام لأن هذه الطبقة هي المسؤولة عما آلت إليه أمورنا، ولا يعفيها من المسؤولية القول بعدوانية وممارسات إسرائيل لأن إسرائيل موجودة من البداية، وما جاءت الطبقة السياسية بكل أحزابها إلا لمواجهة هذا العدو وليس لتحميله مسؤولية ما يجري؟ إذن قبل أن نتحدث عن البدائل والاستراتيجيات المستقبلية، علينا أن نحدد الوضع الخطأ الموجود والذي يجب أن نبحث عن بدائل له. فلا يمكن بناء نهج جديد إلا بعد الفهم العميق للواقع، للحالة التي نحن عليها، وكيف وصلنا إلى هذا الواقع وما هو دور الطبقة السياسية في ما جرى؟ وما هو دور الأطراف الخارجية. نعتقد أن ما جرى ويجري هو تدمير للمشروع الوطني وهو مخطط ممنهج ومدروس من طرف أعلى مركز للقرار في إسرائيل ويشارك فيه عدة أطراف خارجية وداخلية، بعضها كان جزءا أصيلا من المخطط وبعضها انساق أو تورط به عن جهل، ولكن بعد نجاح المخطط أصبح يدافع عن نتائجه. هذا المخطط تم الاشتغال عليه منذ العام الثالث للانتفاضة تقريبا وإن كان حاضرا في العقل السياسي الإسرائيلي منذ بداية التسوية. قد يقول قائل إن هذا هو خطاب المؤامرة ولا توجد لديك وثائق لإثبات ما تقول، الرد على ذلك هو أن مَن يريد أن يعرف السياسة على حقيقتها على مستوى العالم وفي الشرق الأوسط خصوصا يجب ألا يحاول فهمها من خلال التصريحات الرسمية والمؤتمرات الصحفية والنصوص القانونية والاتفاقات الموقعة فقط، بل عليه أن يغوص ما بين السطور ويربط الأحداث بعضها ببعض، ويستقري الواقع من خلال استحقاقات موازين القوى القائمة وليس من خلال مفاهيم العدالة المطلقة أو حسن النوايا، نحن لا نتحدث عن مؤامرة -مع أن المؤامرات هي جوهر السياسة اليوم- بل عن السياسة الواقعية كما هي في الواقع، حيث الخفي منها أكثر من المُعلن، ولنأخذ نماذج حرب الخليج بكل مراحلها، أيضا نصر أكتوبر 1973 ونصر تموز 2006 والأحداث في لبنان والخلاف الأمريكي الإيراني... ونقارن الخطاب الرسمي لمختلف الأطراف وصيرورة الأحداث. وبالفعل نجح العدو متحالفا مع التواطؤ والجهل في الساحة الفلسطينية وعجز وتواطؤ الأنظمة العربية في تدمير السلطة بوسائل عسكرية، ومن خلال إفسادها وإفساد نخبتها وإفقادها المصداقية أمام الجمهور وأمام العالم الخارجي، كما نجح في تشويه المقاومة ليس فقط من خلال ضربها ومحاصرتها، بل أيضا من خلال تمييع مفهوم المقاومة وشرذمتها وتحويل جزء منها إلى حالة ارتزاق ثوري ودفع جزء آخر إلى الهروب إلى الأمام نحو أشكال من المقاومة العبثية، أيضا نجح العدو بضرب وتشويه مشروع السلام الفلسطيني، حيث صادر منتفعون وانتهازيون وتجار سياسة فكرة السلام والتسوية من أبو عمار بداية ومن أبو مازن لاحقا لتحقيق مصالح وامتيازات والدخول بتفاهمات وسمسرة على الحقوق الفلسطينية، دون أن تكون إسرائيل مستعدة لتقديم شيء لهم إلا المال والمشاركة الاقتصادية الصغيرة، مشروع السلام الفلسطيني كمشروع المقاومة تم تدميرهما بأيد داخلية بالإضافة إلى إسرائيل. وحتى نعود إلى السؤال حول البدائل نقول، ليس المطلوب بديلا للسلام فالسلام ليس جريمة أو خطأ ويجب التمسك به مع تحريره من أيادي ثلة من المنتفعين من داخل الفريق المفاوض علنا أو من يتفاوضون بالسر، وهؤلاء أخطر من الذين يتفاوضون علنا، وليس المطلوب بديلا للمقاومة فهي حق مشروع، المطلوب بديل لسياسات ومناهج عمل أساءت إلى السلام وأساءت إلى المقاومة، المطلوب اعتراف كل طرف بأخطائه وتجاوزاته وإعادة صياغة المشروع الوطني على أسس جديدة، ويمكن أن تكون وثيقة الوفاق الوطني بعد توضيح بعض الأمور فيها أساسا لهذا المشروع، هذا إن توفرت النية والمقدرة عند المخلصين والصادقين في الطرفين، فتح وحماس. يجب أن نؤكد أن الضغوط ليست فقط على الرئيس أبو مازن، مع أنها ليست ضغوطا بل التزام من الرئيس ومنظمة التحرير والسلطة باستحقاقات مشروع تسوية وباتفاقات موقعة، الضغوط اليوم على حركة حماس أيضا التي عليها أن تختار إما الاستمرار في السلطة في غزة مع استمرار التهدئة أو المصالحة الوطنية وخسارة السلطة. إذا وضعنا جانبا العوامل الخارجية المعيقة للحوار وهي أساسية بسبب الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي والإيديولوجيا السياسية، وبحثنا عن سبل تجاوز الأزمة داخليا وضمان إنجاح الحوار الوطني حتى في إطار المبادرة اليمنية، فإن الأمر يحتاج ما يلي: 1 – الاتفاق على ثوابت وطنية وخصوصا مفهوم السلام والمقاومة والدولة. 2 – تحديد موعد للانتخابات الرئاسية والتشريعية. 3- تشكيل حكومة من المستقلين لإدارة الأوضاع في الضفة وغزة إلى حين إجراء الانتخابات. 4 – وجود قوات عربية لدعم الحكومة الانتقالية وضمان عدم حدوث حالات ثأر وانتقام والإشراف على تفكيك الحالات والأجهزة العسكرية وتشكيل قوة أمنية فلسطينية واحدة. 5 –تفعيل وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تجمع كل قوى العمل الوطني. هل من بدائل أخرى غير الحوار والمصالحة الوطنية؟ ندرك أن متطلبات نجاح الحوار الوطني والمصالحة في ظل الوضع الراهن لا تخلو من صعوبة ليس فقط بسبب الممانعة الإسرائيلية، بل أيضا لانعدام الثقة بين أطراف الصراع الداخلي وترسخ مصالح للبعض ستدفعهم إلى إعاقة الحوار والوئام الوطني. الاعتراف بفشل الحوار أو التسليم بعدم جدواه سيدفع إلى التفكير ببدائل، والتي قد تكون أكثر صعوبة من الحوار وغير مضمونة النتائج، والتفكير بالبدائل معناه التفكير بمشروع وطني جديد وقد يكون أكبر وأخطر من ذلك، كالتفكير بصياغة جديدة وتعريف جديد للصراع الإسرائيلي/الفلسطيني. إن الحديث من أطراف في السلطة الوطنية عن بديل للمفاوضات سيكون مجرد تصريحات تجميلية لحالة مأزومة، ولن يكون له معنى أو مصداقية بدون الاستعداد لتحمل تبعات قرار وقف المفاوضات، مثلا هل يمكن وقف المفاوضات مع استمرار كل أشكال التعاون والعلاقات المصاحبة للمفاوضات كالتنسيق الأمني سواء من خلال دايتون أو فريزر أو مع الإسرائيليين؟ هل يمكن وقف المفاوضات دون الاستعداد لإعادة النظر في العلاقات الاقتصادية مع الإسرائيليين والبحث عن بدائل للتمويل الخارجي المرتبط باستمرار المفاوضات؟ لا يمكن عزل المفاوضات عن كل استحقاقات التسوية. إن كان الحديث عن بديل للمفاوضات يعبر عن نية صادقة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وليس جزءا من حرب نفسية هدفها إثارة الخوف والقلق لخلق حالة نفسية وفكرية تتقبل أي حل منقذ للحالة، وهذا الحل تسوية جديدة غير مشرفة قد ترى النور قريبا. إذا استثنينا هذا الاحتمال، يبقى التفكير ببدائل أمرا مطروحا سواء بحسن نية من البعض أو بسوء نية من آخرين. إن البدائل التي يمكن التفكير بها أو الممكنة في حالة فشل الحوار والمصالحة هي: أولا: العصيان المدني والمقاومة: لا نعني هنا المقاومة المسلحة أو الجهاد، ليس لعدم إيماننا بهذا النهج، ولكن لأن الحالة السياسية الداخلية لا تسمح بمقاومة حقيقية، فالمقاومة لن تكون مجدية إلا في إطار استراتيجية عمل وطني، كما أن النخبة السياسية في الضفة غير مهيأة وغير صالحة لقيادة مقاومة مسلحة، وحركة حماس غير مستعدة لخوض مقاومة مسلحة بالضفة تفقدها السلطة والحكم في غزة. المقصود هنا مقاومة مدنية تأخذ شكل عصيان ومظاهرات احتجاجية وحملات إعلامية ومسيرات سلمية حاشدة بمئات الآلاف -وليس فقط العشرات كما يجري في بلعين لالتقاط الصور والظهور الإعلامي، مع ضرورة الحذر من أن مثل هكذا مسيرات بدأت تخدم العدو أكثر مما تخدم الفلسطينيين- تسير نحو الحواجز والجدار والتجمعات الاستيطانية وتحريك الشعب الفلسطيني بالخارج والسلك الدبلوماسي ورفع قضايا أمام المحافل الدولية... ثانيا: حل السلطة: هذا البديل لن ترضى به جميع أطراف المعادلة، حيث إن وجودها يخدم مصالح كل الأطراف، ولأهداف مختلفة، فإسرائيل تريدها حتى لا يقال إن غزة والضفة أراض محتلة، ولكنها تريدها سلطة ضعيفة وهشة وخاضعة لإرادتها، ونخبة سياسية واقتصادية من السلطة أو محسوبة عليها يريدونها لأنها مازالت تمثل بالنسبة إليهم مشروعا سياسيا/اقتصاديا يمنحهم مواقع ومصالح متميزة في المجتمع، كما أن وجودهم السياسي مرتبط باستمرارها، أيضا فإن جزءا كبيرا من المجتمع ارتبطت حياتهم بالسلطة من خلال الراتب، أما حركة حماس فقد كانت مع حل السلطة عندما كانت في المعارضة، ولكن بعد أن أصبحت سلطة لا أعتقد أنها تفكر بذلك الآن. ولكن حل السلطة يجب أن يسبقه البديل لها. ثالثا: البناء على حالة الفصل القائمة: بمعنى الاعتراف بوجود حالتين سياسيتين منفصلتين، واحدة في قطاع غزة والأخرى بالضفة يمكن أن يتعايشا سويا مادام لهما الاستعداد للتعايش مع الاحتلال وبدون سيادة، ويمكن البحث عن إطار أو مرجعية سياسية مشتركة -مؤسسة الرئاسة ومنظمة التحرير بعد إصلاحها واستيعابها لكل القوى السياسية- معترف بها من الطرفين تنسق العلاقة بين الحالتين أو تضمن على الأقل عدم اندثار القضية الوطنية إلى حين تغير الظروف الإقليمية والدولية. ولكن هذا الخيار الأخير معناه الاعتراف بنجاح المخطط الذي سبقت الإشارة إليه، أي مخطط الفصل. رابعا: حل الدولة الواحدة على كامل فلسطين التاريخية: وهذا خيار كثر الحديث عنه في الفترة الأخيرة وقد تبناه بعض الإسرائيليين، والقائلون بهذا الحل ينطلقون من حقيقة أن الواقع بقول إن الاستيطان ثم فصل غزة عن الضفة لم يتركا مجالا لدولة مستقلة في الضفة وغزة، وبالتالي فإن البديل هو الدولة الواحدة، معتقدين أن الزمن والديموغرافيا كفيلان باستعادة الحقوق الفلسطينية. هذا الحل سبق طرحه نهاية الستينيات وتم تبنيه رسميا في مقررات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1971، ولكن هناك ممانعة إسرائيلية قوية، وكذا تم رفضه من قوى فلسطينية وخصوصا جبهة التحرير العربية، هذا البديل بعيد المدى والمنال ويحتاج إلى نضال سياسي مرير وربما عسكري، لأن إسرائيل ترى فيه نهاية المشروع الصهيوني القائل بدولة يهودية. وبطبيعة الحال فإن الاشتغال على هذا البديل يعني تجاوز أو إلغاء السلطة والمشروع الوطني. خامسا: البديل الخفي الذي يقول أولمرت إنه سيرى النور قريبا (الله بستر مما يخبئه لنا هذا المشروع)! وحيث إن مسلسل التسوية غير قابل للفشل والسلطة غير قابلة للحل على المدى القريب، وحيث لا تبدو في الأفق إمكانية ظهور قيادة سياسية جديدة ولا يمكن أن نستورد قيادات من الخارج، فإن الحوار والمصالحة الوطنية في إطار حكومة وحدة وطنية يبقى الخيار الوطني الأفضل بالرغم من صعوبته.