في زخم نجاح الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، عقد الإسلاميون في تونس مؤتمرا استثنائيا في ربيع 1981 بمدينة «سوسة»، وتم تجديد إمارة «راشد الغنوشي»، وفي يونيو من نفس السنة، تم الإعلان عن قيام حزب إسلامي يحمل اسم «الاتجاه الإسلامي»، وصدر بيان تأسيسي يبين أهدافه ووسائله: تهدف «حركة الاتجاه الإسلامي» إلى: أولا، بعث الشخصية الإسلامية لتونس حتى تستعيد مهمتها كقاعدة كبرى للحضارة الإسلامية بإفريقيا، ووضع حد لحالة التبعية والاغتراب والضلال. ثانيا، تجديد الفكر الإسلامي على ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة وتنقيته من رواسب عصور الانحطاط وآثار التغريب. ثالثا، أن تستعيد الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيدا عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجية. رابعا، إعادة بناء الحياة الاقتصادية على أسس إنسانية وتوزيع الثروة في البلاد توزيعا عادلا على ضوء المبدأ الإسلامي: «الرجل وبلاؤه الرجل وحاجته» (أي من حق أي فرد أن يتمتع بثمار جهده في حدود مصلحة الجماعة، وأن يحصل على حاجته في كل الأحوال ) حتى تتمكن الجماهير من حقها الشرعي المسلوب في العيش الكريم، بعيدا عن كل دروب الاستغلال والدوران في فلك القوى الاقتصادية الدولية. خامسا، المساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي والمغربي والعالمي حتى يتم إنقاذ شعوبنا والبشرية جمعاء مما تردت فيه من ضياع نفسي وحيف اجتماعي وتسلط دولي. حددت «حركة الاتجاه الإسلامي» وسائل بلوغ أهدافها في: أولا، إعادة الحياة إلى المسجد كمركز للتعبد والتعبئة الجماهيرية الشاملة أسوة بالمسجد في العهد النبوي، وامتدادا لما كان يقوم به الجامع الأعظم جامع الزيتونة من صيانة للشخصية الإسلامية ودعم لمكانة بلادنا كمركز عالمي للإشعاع الحضاري. ثانيا، تنشيط الحركة الفكرية والثقافية، من ذلك إقامة الندوات، تشجيع حركة التأليف والنشر، تجديد وبلورة المفاهيم والقيم الإسلامية في مجالات الأدب والثقافة العامة، وتشجيع البحث العلمي والإعلام الملتزم حتى يكون بديلا عن إعلام الميوعة والنفاق، ودعم التعريب في مجالي التعليم والإدارة مع التفتح على اللغات الأجنبية. ثالثا، رفض العنف كأداة للتغيير وتركيز الصراع على أسس شورية تكون أسلوب الحسم في مجالات الفكر والثقافة والسياسة، رفض مبدأ الانفراد بالسلطة (الأحادية)، لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان وتعطيل لطاقات الشعب ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية، والتعاون في ذلك مع كل القوى الوطنية. رابعا، بلورة مفاهيم الإسلام الاجتماعية في صيغ معاصرة وتحليل الواقع الاقتصادي التونسي حتى يتم تحليل مظاهر الحيف وأسبابه والوصول إلى بلورة الحلول البديلة، (و)الانحياز إلى صفوف المستضعفين من العمال والفلاحين وسائر المحرومين في صراعهم مع المستكبرين والمنحرفين، (و)دعم العمل النقابي بما يضمن استقلاله وقدرته على تحقيق التحرر الوطني بجميع أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية. خامسا، اعتماد التصور الشمولي للإسلام والتزام العمل السياسي بعيدا عن اللائكية (العلمانية) والانتهازية، وتحرير الضمير المسلم من الانهزام الحضاري إزاء الغرب، وبلورة وتجسيم الصورة المعاصرة لنظام الحكم الإسلامي بما يضمن طرح القضايا الوطنية في إطارها التاريخي والعقدي والموضوعي، مغربيا وعربيا وإسلاميا، وضمن عالم المستضعفين عامة، وتوثيق علاقات الأخوة والتعاون مع المسلمين كافة في تونس وعلى صعيد المغرب والعالم الإسلامي كله، ودعم ومناصرة حركات التحرر في العالم. رفضت السلطة التونسية الترخيص ل«حركة الاتجاه الإسلامي» وقامت باعتقال عناصرها القيادية وأطلق سراحها في غشت 1984، لكن هذا الإفراج لم يكن يعني تغييرا في مواقف السلطة تجاه «الحركة»، فبمجرد إقالة «مزالي» في يوليوز 1986، برز للعيان مخطط يستهدف استئصال «الحركة»، جسدته خاصة اعتقالات مارس 1987، حيث اتهم « الاتجاه الإسلامي» بعمالته للخارج (إيران)، واعتقل 90 عضوا من أنصاره، وصدرت أحكام قضائية في 27 شتنبر من نفس السنة، وكان نصيب رئيس الحركة راشد الغنوشي منها حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة. رغم موجة القمع التي طالت «حركة الاتجاه الإسلامي»، فقد لعبت دورا مركزيا في إزاحة «بورقيبة» يوم 7 نونبر 1987، حيث خلفه العسكري «زين العابدين بن علي»، وقد رحبت «الحركة» بالنظام الجديد من خلال بيان صادر في نفس اليوم. بمجرد استلام «بن علي» السلطة، عمل على إرجاع بعض المظاهر الدينية إلى الحياة اليومية، مثلا: إذاعة أذان الصلاة في محطات الإذاعة والتلفزة. ذكر التاريخ الهجري في الجريدة الرسمية بعدما كان يُقتصر فقط على ذكر التاريخ الميلادي. افتتاح الخطب الرئاسية أو ختمها بآيات قرآنية... إلخ. لقد أبدت «حركة الاتجاه الإسلامي» رغبتها في الحصول على الشرعية التي لوح بها النظام الجديد تجاهها، وكان من بين تجليات هذه الرغبة بلورة خطاب جديد أكثر «استيعابا» لمعطيات الواقع التونسي. يقول راشد الغنوشي: «قد نختلف مع غيرنا في معالجة الهموم واستلهام الثوابت، ولا ضير في ذلك، طالما اعترف الجميع للجميع بحق الاختلاف والتنوع.. فإن مثل هذا الاختلاف في البرامج والتنافس على خدمة البلاد والأمة ضروري ومقوم لا غنى عنه لإرساء ديمقراطية حقيقية متوازنة وحيوية لا شكلية جامدة، بل إنه يقبل بمجلة الأحوال الشخصية رغم تنافيها في عديد من أحكامها مع قطعيات الشريعة الإسلامية، حيث أكدت أن الأرضية الفكرية التي انطلقت منها هي أرضية إسلامية، وأعتبرها إطارا صالحا لتنظيم العلاقات الأسرية». وبخلاف ما كان يصرح به راشد الغنوشي سنة 1984، صرح بعد إزاحة «بورقيبة» بأن القانون المانع لتعدد الزوجات هو أحد تعبيرات الاجتهاد والتأويلات المشروعة للنصوص المقدسة، بل إن «حركة الاتجاه الإسلامي» شاركت، من خلال أحد ممثليها، في بلورة الميثاق الوطني الذي يجعل من مجلة الأحوال الشخصية «البورقيبية» أحد أسس الجمهورية التونسية. وفي سياق البحث عن الشرعية أيضا، استبدلت «الحركة» اسمها باسم جديد: «حزب النهضة»، وتسلم «عبد الفتاح مورو» في فبراير 1989 وصلا مؤقتا من مصالح وزارة الداخلية، وكان الكل يعتقد أن العلاقات قد تم تطبيعها بشكل نهائي بين السلطة والإسلاميين، غير أن هذا الاعتقاد كان في غير محله، فاحتفالا بالذكرى الثانية لإزاحة «بورقيبة»، ألقى «زين العابدين بن علي» خطابا يوم 7 نونبر 1989، أعلن من خلاله رفضه القاطع لقيام «حزب النهضة» باعتباره حزبا «دينيا»، رغم أن «عبد الفتاح مورو» أجاب الرئيس بأن «حزب النهضة» حزب سياسي وليس حزبا دينيا، ويرتكز هذا الطرح على الأهداف كما سطرت في قانونه الأساسي، فهو يناضل من أجل: دعم النظام الجمهوري وأسسه وصيانة المجتمع المدني. تحقيق الحرية باعتبارها قيمة محورية تجسد معنى تكريم الله للخلق، وذلك بدعم الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان وتأكيد مبدأ استقلال القضاء وحياد الإدارة... لقد استحضر «زين العابدين بن علي» تجربة الجزائر التي سمحت فيها السلطة السياسية بقيام حزب سياسي: الجبهة الإسلامية للإنقاذ في شتنبر 1989، وأدرك طبيعة الآليات التي يستخدمها التيار الإسلامي لاستقطاب أتباعه ومناصريه، لذلك رفض رفضا قاطعا السماح بقيام «حزب النهضة». ولم يكن الخلاف في الواقع بين الطرفين حول الشكل: هل هو حزب «ديني» أم حزب «سياسي»، بل كان الخلاف في العمق حول مشروعين: مشروع السلطة التي تريد «إسلام الدولة» ومشروع الإسلاميين الساعي إلى إقامة «دولة الإسلام». ولقد استعدى «بن علي» في مواجهته للإسلاميين «المجتمعَ المدني»، مستفيدا في ذلك من الطابع «العلماني» الذي طبع به «بورقيبة» مؤسسات الدولة التونسية منذ زمن بعيد.