عنوان هذا القول مقتبس من الديوان البديع «سرير الغريبة» للراحل محمود درويش، وهو يصف «امرأتين لا تتصالحان أبدا»، امرأتان تتناقضان في الطبيعة والفعل، ولكنهما تتواطآن على القصد والمآل، وتتآلفان في قمة تناقضهما على المفسدة نفسها، فالتي «تشعل النار في الغابة» هي تماما كالتي «تمنع الماء عنها»، فهما متواطئتان على «قتل الغابة» حتى وهما متخاصمتان و«لا تتصالحان أبدا»..!! هذه الصورة التراجيدية تكاد تنطبق بشخوصها ومآلاتها على وضع قطاع التربية والتكوين في المغرب، فالنقابات والوزارة دخلت منذ سنة تقريبا في حرب معلنة، خصوصا في جهات «سوس» و«الحوز». وظاهريا يبدو كل طرف وكأنه نقيض الثاني، وظاهريا دائما تظهر الوزارة بمظهر «المصلحى والنقابة بمظهر «مصلح المصلح»، ولكن في عمقهما يتواطآن على المفسدة ذاتها، فالذين «حاربوا» الفساد في عهد المدير السابق لأكاديمية جهة سوس ماسة درعة، ارتكبوا فسادا من جنس الفساد الذي ناهضوه، وهو أنهم أضاعوا على تلامذة الشعب في الجهة آلاف الساعات من التعليم والتحصيل، وقاموا، تحت وطأة النفس الغاضبة الراغبة في الغلبة، بتتبع انتهاك خصوصياته، ناهيك عن حرب الإشاعات التي ذهبت بأصحابها حد إتيان خطيئة المس بالشرف والعرض... وهذه بضاعة نقابية وسياسية لأهل المغرب منها إبداعات وتخريجات عجيبة.. وفي الطرف الآخر، قامت الوزارة «المُصلحة»، على الورق طبعا، برد فعل هو تنفيذ اقتطاعات مست أغلب نساء ورجال التربية والتكوين، في غمرة الاستعداد لعيد الأضحى، وفي خرق سافر لحق إنساني يكفله الدستور هو حق الإضراب، في خرق سافر أيضا للقوانين الجاري بها العمل. وهذه الاقتطاعات يجب أن تفهم على أنها حلقة من مسلسل تفقير رجل التعليم، الذي بات منذ بداية حكومة التناوب أضعف موظف في الوظيفة العمومية إذا ما قورن بموظفين آخرين ينتمون لقطاعات عامة أخرى لهم نفس الشواهد الجامعية، وكأن رجل التعليم الحاصل على شهادة الإجازة مثلا حصل على شهادته من جامعة غير تلك التي تخرج منها رجل القضاء والداخلية والسكن والمالية والخارجية.. وفي المحصلة، فنحن إزاء طرفين يبدوان متناقضين، ولكنهما متآلفان في إفساد منظومة التربية التكوين، ومن ثمة اللعب بمستقبل بلد يعزفان معا موشحه، فالذي «يصلح» يفسد، والذي «ينتقده» يفسد، فكلا الطرفان في «البحر ماء» وفي «النار رماد»، كما يعبر عن ذلك درويش دائما، فالذي يحرم أبناء الشعب من التدريس مفسد، والذي يمس رجل التعليم في رزق أبنائه مفسد أيضا.. وتآلف الوزارة والنقابات معا على إفساد منظومة التربية والتكوين لا يحتاج لبيان واستدلال، فالوزارة مثل أي مرفق عام في المغرب تنخره الصراعات والاستقطابات الحزبية والجهوية والعائلية، تماما كما تنخر أحشاؤه سرطانات الرشوة والاختلاسات واستغلال النفوذ، أما النقابات فإننا نستغرب أين كانت هذه «الغيرة الفوارة» على المنظومة إبان ما عرف ب«السلم الاجتماعي» أو «شراء الصمت» على الأصح، مع أن الملفات الاجتماعية والتدبيرية للقطاع كانت تعطي الإشارة تلو الأخرى على أن دار لقمان لازالت على حالها، والمؤسف هو إقدام هذه النقابات على توظيف شعبيتها القوية آنذاك في ضمان عدم إفساد شهية الممخزنين الجدد بالاحتجاجات والإضرابات إبان حكومة التناوب، وإقدامها اليوم على توظيف موجة اليأس العام في صفوف الشغيلة التعليمية لاستكمال ما أفسده هؤلاء طيلة عقد.. فالوضع المهني والاجتماعي لرجال التربية والتكوين أصبح متفاقما، وفي الوقت ذاته أصبح الوضع النقابي مائعا بشكل لا يطاق، فرغم تضاعف عدد المنتسبين للقطاع، فإن عدد المنضبطين تنظيميا للإطارات النقابية يعرف تناقصا..، وإلا هل يمكن للنقابات المحتجة على فساد التدبير في جهة سوس أن تكون صادقة في الإدلاء بعدد رجال التعليم المضربين، الذين هم منخرطون فعليا في أجهزتها. أكاد أجزم أن الآلاف من المضربين لا يعرفون حتى اسم النقابات المضربة. لذلك نلتمس من الجميع الاحتكام للبداهة والعقل السليم، فيما عرضناه من مشاهد تراجيدية، بدل الركون والاطمئنان لهلوسات الاضطهاد والمؤامرة التي نتفنن فيها دون استثناء. رؤساء ومرؤوسين، نقابيين ومسؤولين، مدرسين وإداريين، فالوضع التعليمي على الميدان خطير للغاية، إلى درجة أصبح التفاؤل مؤامرة كاملة الأوصاف. فالجهات الوصية على القطاع ممعنة في تشويه الواقع وتكريس الاختلالات من خلال شعارات طنانة وتدابير فوقية تزيد الوضع تفاقما، وبالمقابل تعمل النقابات على ركوب موجة العدمية والعزوف عن الاهتمام بالشأن العام، والمستشرية بشكل سرطاني في صفوف رجال التعليم، لتسجيل نقاط على هامش الصراع الحزبي والنقابي في مشهد سياسي غرائبي بكل المقاييس.