حينما كتبنا مقال الأسبوع الماضي عن الحّكام العرب الذين يلوّثون سُمعة العرب والمسلمين، بمناسبة إحالة الرئيس السوداني عمر البشير على المحكمة الجنائية الدولية، توقعنا أن يتضامن معه بقية الحكّام المستبدين العرب. فبيوتهم هم الآخرون من زجاج. وكنا نستند في هذا التوقع إلى سوابق تضامنهم مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ورفضهم حتى مناقشة اقتراح للمرحوم الشيخ زايد بن نهيان، حاكم الإمارات العربية المتحدة في آخر مؤتمر للقمة قبل غزو العراق، يطلب من صدام التنازل عن السلطة، إنقاذاً للعراق من الغزو والدمار. ولكن، كما هو معروف، انحاز المستبدون العرب لصدام وضحوا بالشعب العراقي، الذي تعرض للغزو والاحتلال الأمريكي، والذي ما زال جاثماً على صدره إلى اليوم بينما انتهى صدام إلى حُفرة تحت الأرض قبل محاكمته وإعدامه. ومفهوم أن يفعل رؤساء مستبدون عرب ذلك تضامناً مع مستبد مثلهم في العراق أو السودان. ولكن غير المفهوم أن يسارع مثقفون عرب، بمن فيهم نقيب محامين إلى إدانة الإدانة الدولية، والمسارعة إلى الطيران إلى الخرطوم للتعبير عن هذا التضامن. إنني أفهم أن يطالب الجميع بمحاكمة عادلة لعمر البشير، وأن يتطوع منهم من يريد الدفاع عن الرجل. فهذا حق إنساني وقانوني. فضلاً عن أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته بحكم بات ونهائي. وهذا هو الموقف الذي نرجو أن يتخذه نادي القضاة في مصر، دون أن يتسرع، مثل ذلك النقيب، لنصرة الرئيس السوداني ظالماً أو مظلوماً. كذلك مفهوم بل ومطلوب من المحامين والقضاة وبقية المثقفين العرب أن يطالبوا بوحدانية المعايير الجنائية الدولية، وتطبيقها على كل من يُشتبه في ارتكابه لجرائم مماثلة، بمن في ذلك الرئيس الأمريكي جورج بوش. أي أن يطالب باتساق معايير العدالة، وليس الانتصار الجاهلي لرئيس لمجرد أنه عربي. وفي ذلك تطبيق لروح الحديث الشريف، الذي صحح به الرسول صلى الله عليه وسلم مفهوم الانتصار «للأخ المسلم، إذا كان ظالماً، وذلك بإثنائه عن ظلمه». كذلك حينما كتبنا مقال الأسبوع الماضي، لم تكن السلطات الدولية قد ألقت القبض بعد على رئيس صربي سابق هو رادوفان كرادجيتش، المطلوب للمحاكمة أمام محكمة حرب دولية على جرائم ارتكبت بأوامر مباشرة أو بتحريض منه، وراح ضحيتها الآلاف من مسلمي البوسنة والهرسك في أوائل تسعينات القرن الماضي. وكان كرادجيتش هارباً من العدالة لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، حيث غير اسمه وملامحه ومقر سكنه طوال تلك السنوات. ولكن يد العدالة الدولية طالته في نهاية المطاف، كما طالت رؤساء سابقين من قبل مثل الرئيس التشيلي الجنرال بونشيه، والرئيس الصربي سلوبدان ميلوسوفتش، والرئيس الليبيري شارلز تيلور. وكما كادت تطول رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أريل شارون، والرئيس الليبي معمر القذافي. وطبعاً المتبجحون باسم العروبة أو الإسلام، أو بهما معاً، في الدفاع عن عمر البشير سيرددون نفس الأسطوانة المشروخة: «إننا مستهدفون من قوى الاستكبار والاستعمار العالميين... أو أن الأيدي الخفية للصليبية والصهيونية هي التي تحرك هذه المحكمة الدولية أو تلك المنظمة العالمية ضد هذا البلد العربي أو ذاك البلد الإسلامي...». ونادراً ما يكلف أي من هؤلاء المتبجحين خاطره لنقد أو تقييم ما فعله أو ما يزال يفعله هذا الطاغية أو ذاك المستبد بشعبه أو بشعب مجاور... وكأن حكّامنا هم مجموعة من الملائكة الأطهار، الذين أتوا إلى السلطة برضاء شعوبهم من خلال انتخابات حرة نزيهة... ولأنهم كذلك فإن الشياطين من خارج الحدود هم الذين يستهدفونهم، ليحرموا شعوبهم العربية المسلمة من «عبقريتهم وخدماتهم الجليلة»!. وحقيقة الأمر أن الطغيان لا دين له... والاستبداد لا جنسية له. ومع ذلك، فإن الطاغية أو المستبد لا يتورع عن استخدام «الدين»، أي دين، و«القومية»، أي قومية، و«الأيديولوجية»، أي أيدلوجية من أجل البقاء في السلطة حتى الرمق الأخير، أو في رواية أخرى «آخر نبضة في قلبه» ومن أجل هذه السلطة لا يتورع أي حاكم منهم عن الكذب، والقتل والتنكيل بشعبه، والاعتداء على الغير أو غزو أراضيهم. هذا ما فعله صدام حسين وعمر البشير ورادوفان كرادجيتش، على سبيل المثال. ولأن القراء العرب يعرفون ما يكفي عن صدام والبشير، فإننا نخصص بقية هذا المقال لرادوفان كرادجيتش ... ونترك لفطنة القارئ استخلاص أوجه الشبه بين هذا الدموي المسيحي الصربي وصدام حسين العربي القومي والبشير السوداني الإسلامي. كان رادوفان كرادجيتش شيوعياً ماركسياً في شبابه، أيام كان يعيش في يوغسلافيا، التي وحّدها وحكمها الزعيم الكاريزمي «تيتو»، الذي كان صديقاً مقرباً من زعماء العالم الثالث في الخمسينات والستينات عبد الناصر، ونهرو، وسوكارنو، ونكروما. ولكن برحيل تيتو بدأت كل مجموعة قومية أو دينية تحاول الاستقلال عن، أو الحكم الذاتي داخل، الاتحاد اليوغسلافي. وفي هذه اللحظة فإن الشيوعيين الذين كانوا ينكرون «الدين» (لأنه أفيون للشعوب، كما كانوا يسمونه في أدبياتهم) و»القومية» (التي دمغوها بالتعصب والشوفينية) أعادوا اكتشاف مسيحيتهم الأرثوذكسية، وقوميتهم الصربية ووظفوهما معاً للبقاء في السلطة، تحت مسميات أخرى، وبمبررات جديدة. ويصف الكاتب الروائي ألكسندر هيمون هذه اللحظة في مقال هام بصحيفة الهيرالد تربيون (28/7/2008)، كما جسّمها أو تقمصها رادوفان كرادجيتش، وكان معاصراً له وشاهداً على صعوده الناري، واختفاءه المفاجئ، ثم القبض عليه متنكراً، توطئة لترحيله من صربيا إلى لاهاي لمحاكمته دولياً على ما ارتكبه من جرائم ضد مسلمي البوسنة والهرسك. وهو ما يصنفه القانون الدولي بجرائم ضد الإنسانية، وإبادة الجنس (Genocide)، والتطهير العرقي (Ethnic cleansing). ويصف هيمون خطاباً حماسياً ألقاه الطبيب الشاب، والشيوعي السابق، رادوفان كرادجيتش، أمام برلمان البوسنة والهرسك يوم 14 أكتوبر 1991، والذي توعد فيه المسلمين في يوغسلافيا السابقة «بالفناء» (Annihilation) إن هم صوّتوا للاستقلال والانفصال في استفتاء قادم... ولم يُثن التهديد أغلبية مسلمي البوسنة عن التصويت من أجل الاستقلال. كذلك لم تمنع أنظار العالم المُسلطة على شعوب يوغسلافيا السابقة أمثال رادوفان كرادجيتش وسلوبدان ميلوسوفيتش من تنفيذ تهديداتهم بإفناء مسلمي البوسنة والهرسك، من أجل تحقيق حلم «صربيا العظمى»، المسيحية الأرثوذكسية الخالصة، فقتلوا مئات الألوف وشردوا الملايين، من أجل أسطورة. وكانت الأساطير والأشعار والروايات الصربية قد خلّدت هذا الحلم منذ القرن السابع عشر، في أعقاب احتلال العثمانيين لكل بلاد البلقان، باستثناء بلد صغير هو «الجبل الأسود» (Montenegro)، حكمه أسقف أرثوذكسي هو فلاديكا دانيلو (Vladika Danilo)، الذي ظل يحلم بتحرير البلقان من العثمانيين، وتطهيرها ممن تحوّل من أبنائها إلى الإسلام أو إجبارهم على العودة إلى دين آبائهم وأجدادهم، أي إلى المسيحية الأرثوذكسية. وقد ألهم هذا الحلم الصربي شاعراً صربياً مفوهاً هو «بيتر بتروفيتش نيجوس» (P.P. Niegos) أن يؤلف قصيدة عصماء بهذا المعنى، سماها «إكليل الجبل» (Mountain Wreath) عام 1847، والتي أصبح كل طفل صربي يحفظها عن ظهر قلب، مثلما كان جيلنا يحفظ «المعلقات» مثل معلقة امرؤ القيس، أو النشيد الوطني. ومن أبيات هذه القصيدة، التي كان رادوفان كرادجيتش يرددها دائماً «إن من حق كل ذئب أن يحصل على كبش ... وأن من حق المستبد أن يدوس الضعفاء وهو في طريقه لتحقيق المجد واستعادة الشرف». لقد كان التنافس بين متطرفي الصرب، وخاصة بين الماركسيين السابقين، رادوفان كرادجيتش وسلوبدان ميلوسوفتش، عمن يكون الأسبق على طريق المجد والشرف، ليحظى بإكليل الجبل الذي وعد به الشاعر نيجوس، وصدّقه الغاوون، ولا يعدم كل مستبد عربي، وكل طاغية مسلم، أن يجد مُلهماً أو مُفتياً، أو شاعراً، مثل الصربي نيجوس، يبرر له التهام أبناء شعبه من الكباش والنعاج، وهو ينطلق في ما يتصور أنه مشوار المجد والشرف، لكي يحظى «بإكليل الجبل» أو «جنات الخُلد والنعيم». وقد عرفنا ذلك في شكل «قادسية» صدام و»حطين» صلاح الدين، في القرن العشرين. لقد كان لدينا نحن العرب أساطيرنا ومستبدونا أيضاً. فلعنة الله على الطغاة والمستبدين، عرباً كانوا أو صرباً، مسلمين كانوا أو يهودا أو مسيحيين، عجماً كانوا أو أمريكيين.