من التهم الجاهزة التي طالما تستخدمها الأنظمة العربية المستبدة ضد معارضيها من أصحاب الرأي والضمير «تهمة تشويه سمعة البلاد في الخارج»، أو «تقويض الأمن القومي»، أو «التخابر مع جهات أجنبية»، أو «شق الصف الوطني»... وقد حوكم وسُجن كاتب هذه السطور ثلاث مرات (2000-2003)، بواسطة مباحث ومحاكم أمن الدولة بسبب مثل هذه التهم... ورغم تبرئته منها جميعاً عام 2003، إلا أن إطلاقها وترديدها مازال سيفاً مسلطاً، تطلقه نفس الأجهزة وإعلامها، بل ويذهب به بعض عملائها إلى المحاكم، للتزلف لهذه الأجهزة، واستنزاف ضحاياها أو تشتيتهم في أرض الله الواسعة خارج الديار المصرية. وقد آلمني هذا الأمر وأنا أطالع في كبريات الصحف العالمية، صباح الثلاثاء 15/7/2008 خبر إحالة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس السوداني للمحاكمة عن جرائم الإبادة الجماعية في إقليم دارفور، بغرب السودان. وقد قدم المدعي العام حصراً بوقائع هذه الإبادة وجرائم أخرى، شملت اغتصاب مئات الآلاف من نساء الإقليم، ومقتل أكثر من ثلاثمائة ألف وتشريد أكثر من 2.5 مليون سوداني من أبناء دارفور إلى خارج الحدود... وقال هذا المدعي العام، وهو إيطالي الجنسية واسمه لويس مورينو أوكامبو، إنه لم يعد ممكناً للضمير العالمي والمحكمة الجنائية الدولية الاستمرار في الصمت عن هذه الجرائم، التي لم يشهد لها العالم مثيلاً، منذ جرائم الفاشية والنازية قبل سبعين عاماً. طبعاً، «الإحالة» في حد ذاتها لا تعني «الإدانة»، فلابد أن تتم المحاكمة أولاً، ومن المستبعد أن يسلم عمر البشير نفسه، أو يأتي طواعية للمثول أمام المحكمة. وفي هذه الحالة لا بد من إصدار أمر للبوليس الدولي (الأنتربول) أو أجهزة ضبط وإحضار أخرى بإلقاء القبض على الرئيس السوداني. ويمكن للأجهزة الأمنية من البلدان الموقعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية أن تقوم بالمهمة أثناء وجوده على أراضيها أو المرور بأجوائها، وهذا ما حدث بالفعل في الماضي القريب لزعماء ومسؤولين حاليين أو سابقين، ربما كان أهمها قيام البوليس الإسباني بإلقاء القبض على دكتاتور شيلي السابق الجنرال بونشيه، ورئيس ليبريا السابق، ومسؤولين كبار في جمهورية الصرب... أي أن المحكمة الجنائية الدولية منذ إقرار معاهداتها دولياً، أصبحت أداة فعالة في ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم إنسانية ليس فقط في حق مواطني دول أخرى ولكن أيضاً في حق أي إنسان، وهو ما كان مقصوراً على المحاكم الوطنية في كل بلد على حدة. ربما يكون من السابق لأوانه التكهن بما ستسفر عنه هذه الإحالة أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولأن قانون المحكمة نفسه يعطي لمجلس الأمن الدولي سلطة أخيرة في إقرار أو إبطال أحكامها، فإن هناك هامشا كبيرا للمناورة أمام النظام السوداني، بتعبئة كتلة الدول العربية والإفريقية والإسلامية لإبطال أو تجميد أي حكم إدانة يصدر في هذا الصدد. ولن يكون ذلك قرار شعوب هذه العوالم، ولكن قرار أنظمة يعيش كل منها في «بيت من زجاج»، ولذلك يحرص كل منها على تفادي قذف غيره بالطوب، خوفاً من عاقبة أن يقذفه آخرون أو يردوا عليه بنفس الطوب، وكل منهم يدرك أن الدائرة يمكن أن تدور عليه إن آجلاً أو عاجلاً. وقد رأينا نماذج لهذا التضامن القبلي بين المستبدين العرب والأفارقة في مناسبات مماثلة. من ذلك رفض القمة العربية قبيل غزو العراق إدراج اقتراح للشيخ زايد بن نهيان، رئيس الإمارات العربية المتحدة، أن يتنازل الرئيس العراقي صدام حسين طواعية عن السلطة لحكومة انتقالية، ثم انتخاب رئيس جديد تحت إشراف الأممالمتحدة. ولكن عمرو موسى، أمين عام الدول العربية، رفض إدراج الاقتراح على جدول أعمال القمة، وليته فعل، فلربما كان سيتم إنقاذ العراق من الغزو، بل وإنقاذ حياة صدام حسين نفسه. ولكن عمرو موسى، سواء من تلقاء نفسه أو بإيحاء من رؤساء عرب آخرين، فعل ما فعل، وهو ما أغضب دولة الإمارات التي قاطعته ورفضت استقباله على أراضيها طوال السنوات الخمس التالية. ومن ذلك أيضاً، مؤتمر القمة الإفريقية الأخير في شرم الشيخ، في أعقاب انتخابات زمبابوي (يونيو 2008)، والتي شهدت كل منظمات الرقابة الدولية أنها زُوّرت من الألف إلى الياء بواسطة نفس المستبد الذي يحكم زمبابوي (روديسيا سابقاً) بالحديد والنار، ودمر اقتصاد بلد من أغنى بلدان القارة الإفريقية بفساده وسوء إدارته لأكثر من ثلاثين عاماً، ووصلت نسبة التضخم بالبلاد، خلال السنة الأخيرة وحدها، إلى أكثر من ألف في المائة. وكان العالم ينتظر من القمة الإفريقية في شرم الشيخ أن تطلب من «روبرت موغابي» أن يستقيل حقناً للدماء، وإنقاذاً لاقتصاد زمبابوي. ولكن أصحاب البيوت الزجاجية الأفارقة، مثلهم مثل الرؤساء العرب من قبلهم، رفضوا أن يخلقوا سابقة إجبار أو إقناع أحدهم بأن يستقيل حتى لو كان لإنقاذ بلده وشعبه. وفي ضوء هاتين السابقتين، نتوقع أن يلجأ الرئيس السوداني إلى نفس هامش المناورة، التي تتيحها البيوت الزجاجية لزملائه العرب والأفارقة. ولكن حتى إذا تمكن عمر البشير من الإفلات من العقاب الدولي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن الرجل سيظل مُطارداً بقية حياته، هو وبقية أركان النظام السوداني الحاكم. ويظل ما هرّبوه من أموال إلى بنوك سويسرا والشمال مهددة بالمصادرة أو التجميد. وفي كل الأحوال فقد أساء أمثال عمر البشير، لا فقط إلى نفسه واسم بلاده، ولكن أيضاً إلى العروبة والإسلام. فكثير من الجرائم التي اقترفتها أيديهم تمت باسم «الإسلام»، والإسلام منهم براء. وفي هذا وذاك كان وما يزال للرئيس السوداني شركاء وأعوان. وهم الذين اجتهدوا «بالتنظير» و«التفسير» و«التبرير». وفي مقدمة هؤلاء الدكتور حسن الترابي، شريكه في السلطة والثروة، طوال العقد الأول من حكمه الدموي. وهما معاً اللذان فتحا أبواب السودان لإيواء تنظيم «القاعدة»... ناهيك عن إرهابيين غير إسلاميين، ارتكبوا جرائم لا تحصى ولا تعد. وعادة حينما تطارد عدالة النظام الدولي أحد العرب أو المسلمين، فإننا لا نعدم ظهور أصوات تدافع بالحق حيناً، وبالباطل والإنكار أحياناً. وفي معرض الدفاع بالباطل، تُساق الحجج التالية: * ازدواجية المعايير. من ذلك، مثلاً لماذا عمر البشير وحده؟ ألم يقترف غيره من رؤساء الدول والساسة جرائم مماثلة؟ ألم يفعل أريل شارون، وغيره من كبار الصهاينة بالفلسطينيين مثلما فعل عمر البشير بالسودانيين في جنوب السودان وفي دارفور؟ أولم يرتكب الرئيس الأمريكي جورج بوش جرائم حرب مماثلة في العراق وأفغانستان؟ فلماذا يفلت غير العرب وغير المسلمين من المطاردة والمحاكمة والعقاب؟ - وهذه تساؤلات مشروعة. وعلى من يحملونها ويرددونها أن يتوجهوا بها إلى أنظمة العدالة الدولية المتاحة في الساحة العالمية. ولكنهم في الأغلب كسالى، ويريدون غيرهم أن يخوضوا معاركهم بالنيابة عنهم! ثم إنه غير صحيح أن العدالة الدولية لا تلاحق إلا عرباً ومسلمين، ففي السنوات العشر الأخيرة لاحقت العدالة سياسيين من شيلي في أمريكا اللاتينية، ومن الصرب والهرسك في أوروبا، ومن ليبريا في غرب إفريقيا. وحدث ذلك مع غير عرب وغير مسلمين، لأن هناك من طالب وثابر في طلب هذه العدالة. كذلك لن نعدم أصواتاً عربية ومسلمة تتهم المحكمة الجنائية الدولية بأنها أداة طيعة في يد أمريكا وإسرائيل، وبالتالي لا ينبغي الاعتداد بأحكامها، وحماية المجرمين العرب والمسلمين من عقابها! وفي هذا ينبغي للقارئ العربي أن يعرف أن أمريكا وإسرائيل لم توقعا على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. أي أن أمريكا وإسرائيل، تحديداً، لا علاقة لهما بقرار إحالة الرئيس عمر البشير على المحاكمة. وفي نفس هذا الصدد، لا بد من الحذر الأخلاقي، وألا نبرر «السرقة»، مثلاً، لأن كثيراً من اللصوص أفلتوا من العقاب في الماضي، أو نبرر «القتل»، مثلاً، لأن سفاحين آخرين أفلتوا من العقاب في الماضيّ. إن المطلوب هو إدانة أي سلوك أو سياسة تنتهك حقوق البشر، سواء كان هذا المنتهك عربياً مسلماً أو أعجمياً كافراً، أو يهودياً إسرائيلياً، أو أمريكياً مسيحياً. فالإجرام هو الإجرام، ولا مبرر له في أي حال أو تحت أي ظرف، بصرف النظر عن أصل وفصل من يرتكبه من عباد الله الفاسدين.