تسابق أعضاء مجلس الشعب من الحزب الوطني الحاكم بمصر لمدّ العمل بقوانين الطوارئ لسنتين إضافيتين. وبهذا يكون النظام قد حنث بوعده للمرة العاشرة، ومنها الوعد أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة (2005) بإلغاء العمل بقوانين الطوارئ. وبهذا أيضاً لا يكون النظام قد صدق في أي من وعوده الأخرى رغم مرور ثلاث سنوات على تلك الانتخابات. وهكذا ستعيش مصر عامها الثلاثين في ظل هذه القوانين سيئة السمعة. وإذا كان العالم يتهم الإسلام بعدائه للقيم والممارسات الديمقراطية، فإن ذلك هو بسبب «العرب المسلمين»، وأكبر هؤلاء العرب هو مصر، وليس كل المسلمين. فواقع الحال أنه في عام 2008، وصل عدد المسلمين في العالم إلى أكثر من 1.2 مليار إنسان، أي خُمس سكان العالم (20%)، يعيش ثلاثة أرباعهم في ظل حكومات منتخبة ديمقراطياً، ومنها حكومات إندونيسيا، وبنغلاديش، والهند، وماليزيا، وباكستان، وتركيا، ونيجريا، والسنغال، ومالي، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو وألبانيا. ويُلاحظ أن هذه القائمة تخلو من أسماء البلدان العربية، رغم أن قلة منها تشهد ممارسات ديمقراطية معقولة، مثل الكويت، ولبنان، وموريتانيا. ولكن هذه لا تمثل أكثر من عشرة في المائة من سكان العالم العربي. بينما يبقى أكثر من 90 في المائة منه يرزح تحت نير الاستبداد. أي أن أكثر من ثلاثمائة مليون عربي، معظمهم مسلمون، هم الذين ألصقوا بالإسلام تهمة أنه مُعاد للديمقراطية. وربما ما يُسهل هذا الارتباط بين الإسلام والاستبداد هو أن العرب يعيشون في قلب العالم الإسلامي. هذا فضلاً عن أن الإسلام، كدين، ظهر في بلادهم (الجزيرة العربية)، وأن كتابه السماوي المقدس وهو القرآن الكريم، نزل بلغة العرب. لذلك فإن الرأي العام العالمي، معذور في خلطه بين العروبة والإسلام. كذلك فهو معذور حينما يُعمم بين الكتلة العربية، التي لا تتجاوز الربع وبين أغلبية المسلمين، أي الثلاثة أرباع الآخرين. فإذا كان العرب هم المشكلة، فإن مصر هي أم المشكلة. فهل هناك في الدم العربي أو المصري من الخصائص الوراثية ما هو «مضاد للديمقراطية»؟ إن الإجابة في رأينا هي «لا». فالعرب، شأنهم شأن كل شعوب العالم، لا يولدون على «فطرة ديمقراطية» أو على «فطرة استبدادية»، ولكن هذه وتلك هي ممارسات مكتسبة أو مفروضة عليهم إما بواسطة قوى خارجية «طامعة»، أو قوى داخلية «قامعة». وبين العرب شعوب شبّت على الديمقراطية في القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، ومارستها واستمتعت بها حينا من الزمن، ومنها مصر، والعراق، وتونس، ولبنان. ولكن النصف الثاني من القرن العشرين شهد انتكاسة استيلاء واغتصاب للسلطة، بواسطة عسكريين أو حزبيين لا يؤمنون بالديمقراطية، ولا يشجعون الآخرين من أبناء شعوبهم على التعاطي مع الديمقراطية، بل واعتبرتها هذه الفئات العسكرية/الأيديولوجية، فُرقة وفوضى. وحل بدلاً من التعددية التي تنطوي عليها الديمقراطية مفهوم وممارسات التنظيم الواحد أو الحزب الواحد، مثل الاتحاد القومي، أو الاتحاد الاشتراكي، أو حزب البعث العربي الاشتراكي، أو التجمع الوطني، أو المؤتمر الشعبي. وحتى إذا لجأت بعض هذه الأنظمة الاستبدادية إلى التمويه بإباحة التعددية الحزبية، فإنها تصغ من القيود على تكوين الأحزاب ما يجعلها تولد ولادة قيصرية، وتظل في حالة من الضعف والضمور، يسمح لحزب السلطة بأن يظل هو «الفك السياسي المفترس». ومن ذلك، الحرص على أن يفوز في أي انتخابات بأكثر من ثلثي المقاعد، على نحو ما نراه في مجلس الشعب المصري، الذي يهرول أعضاؤه للموافقة على تمديد العمل بقوانين الطوارئ، بينما القاعدة في أي نظام ديمقراطي حقيقي، هو أن يقوم البرلمان بتقليص السلطة التنفيذية، وضبط ممارساتها ومحاسبتها، وهو عكس ما ينطوي عليه العمل بقوانين الطوارئ التي تطلق يد السلطة التنفيذية، وخاصة مؤسستي الرئاسة والأمن، في إدارة الشأن العام، دون حسيب أو رقيب. وهكذا أصبح العرب، الذين يشكلون رُبع مسلمي العالم، أو بتعبير أدق حكامهم، هم المشكلة. ومصر هي البلد الأكبر سكاناً بين البلدان العربية، فهي وحدها تُشكل ربع عدد السكان العرب، والنظام الذي يحكم هذا الربع تحديداً، منذ 1952، جعل من مصر التي كانت رائدة في عالمها العربي، مصراً راكداً، ومن مصر القائدة إلى مصر تابعة. إن الاستبداد السياسي يخلق فساداً اقتصادياً وأخلاقياً. ويؤدي هذا الثلاثي بدوره، إلى ركود اجتماعي وحضاري، تتوالد وتتكاثر فيه المشكلات من كل الأنواع والأشكال والأحجام. ومن ذلك ما تشهده مصر خلال الثلاثين سنة الأخيرة من «احتقان طائفي»، وهو ما يُسميه المراقبون بالفتن الطائفية، حيث يؤدي أي خلاف عادي بسيط بين طرفين أحدهما مسلم والآخر مسيحي إلى اشتباك، يستخدم فيه السلاح وينضم إليه آخرون، ينتصر كل منهم إلى أبناء طائفته الدينية، حتى إن لم يكن له سابق معرفة بطرفي النزاع الأصليين. ويختلط الحابل بالنابل، وتضيع معالم الخلاف المبدئي بين تبادل الاتهامات. وحينما يقوم مركز بحثي، مثل مركز ابن خلدون، برصد هذه الوقائع وتحليلها وتشخيصها، تمهيداً لاقتراح حلول لها، فإن النظام الحاكم يتهمه بإثارة الفتن الطائفية. وقد اتهمت السلطة هذا الكاتب في الماضي بنفس هذا الاتهام عدة مرات. ولا أدري من سيتهم نظام آل مبارك هذه المرة، بما حدث في ملوي والزيتون والإسكندرية، خاصة وأنا في المنفى منذ ثلاثة عشر شهراً، إلا إذا تفتقت قريحة بعض المسؤولين عن أنني أحرك مثل هذه الفتن «بالتحكم عن بعد»، أي «بالريموت كنترول»!. إن أحد ردود الفعل النمطية للنظام الحاكم بعد كل حادث من هذا النوع، هو أولاً التستر أو التكتم عليه، فإذا لم يستطع أن يبقي الأمر مكتوماً، فإنه ينفي أن يكون للحادث أي صبغة أو دلالة طائفية. ثم إذا لم يصدق الرأي العام هذا الإنكار الساذج، فإن المتحدثين باسم النظام يسارعون إلى البحث عن كبش أو كبائش فداء! وقد تكرر هذا السيناريو أكثر من مائتي مرة خلال الفترة من 1972 (حادث الخانكة) إلى عام 2008 (حادث الاعتداء على دير أبو فانا، بملوي، محافظة المنيا)، وخرج علينا محافظ المنيا، اللواء أحمد ضياء الدين، ينفي أن يكون للحادث أي أبعاد طائفية! وبهذه المناسبة لا يعرف القاموس الحكومي المصري مصطلح «الفتنة الطائفية»، ولا مصطلح «الجريمة السياسية»، فما حدث في ملوي بمحافظة المنيا، مثلاً، هو مجرد «حادث جنائي»، وما وقع لأيمن نور هو نتيجة «سلوك جنائي»... وما كان قد وقع لي ولسبعة وعشرين آخرين من باحثي مركز ابن خلدون، زُج بهم في السجون، كان بدوره «لأسباب جنائية». وهكذا يمعن النظام الحاكم في هذا السلوك «النعامي»، (مثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمال تجنباً لرؤية مخاطر إيذائها)، طالما يمارس سلطة استبدادية مطلقة، يُزيّنها مجلس برلماني شكلي يبصم لها على كل ما تطلبه من قوانين استثنائية، ومثلما يحدث في مصر، تقلده بلاد عربية أخرى مثل سوريا وتونس والسودان -أي الربع الإسلامي المعطوب- وخارج الممارسة الديمقراطية. ولكن غداً لنظاره قريب، ولا بد أن تدور على هؤلاء المستبدين الدوائر، كما دارت على غيرهم من المستبدين في مشارق الأرض (ماركس في الفلبين) ومغاربها (شاوشيسكو في رومانيا).